في أحد الأيام المشرقة من شهر نيسان (أبريل) 1956، استقل موشيه ديان، رئيس أركان جيش الدفاع الإسرائيلي الأعور، سيارته واتجه جنوبًا إلى “ناحال عوز”، وهو “كيبوتس” كان قد أنشئ حديثًا بالقرب من حدود قطاع غزة. جاء ديان لحضور جنازة روي روتبرغ (21 عامًا)، الذي كان قد قُتل في صباح اليوم السابق على يد فلسطينيين بينما يقوم بدورية في الحقول على ظهر حصان. وكان القتلة قد سحبوا جثة روتبرغ إلى الجانب الآخر من الحدود، حيث تم العثور عليها مشوهة، وعيناها مقتلعتان. وكانت النتيجة صدمة وعذابًا على المستوى الوطني.
ولو كان ديان يتحدث في إسرائيل الحديثة، لكان قد استغل تأبينه إلى حد كبير للهجوم على القسوة الرهيبة لقتلة روتبرغ. لكنّ خطابه، كما كان مؤطرًا في خمسينيات القرن العشرين، كان متعاطفًا بشكل ملحوظ مع الجناة. قال ديان: “دعونا لا نلقي باللوم على القتلة. منذ ثماني سنوات، كانوا يجلسون في مخيمات اللاجئين في غزة، وأمام أعينهم كنا نقوم بتحويل الأراضي والقرى التي سكنوا فيها هم وآباؤهم إلى ممتلكات لنا”. كان ديان يلمح إلى النكبة، عندما تم طرد الغالبية العظمى من العرب الفلسطينيين إلى المنفى بسبب انتصار إسرائيل في “حرب الاستقلال” في العام 1948. وتم طرد العديد منهم قسرًا إلى غزة، بمن فيهم سكان المجتمعات التي أصبحت في نهاية المطاف بلدات وقرى يهودية على طول الحدود.
ولم يكن ديان مؤيدًا للقضية الفلسطينية. في العام 1950، بعد انتهاء الأعمال العدائية، قام هو نفسه بتنظيم تهجير المجتمع الفلسطيني المتبقي في بلدة المجدل الحدودية، التي أصبحت الآن مدينة عسقلان الإسرائيلية. ومع ذلك، أدرك ديان في ذلك الحين ما يرفض العديد من اليهود الإسرائيليين قبوله: لن ينسى الفلسطينيون أبدًا النكبة، أو يتوقفوا عن الحلم بالعودة إلى ديارهم. وأعلن ديان في تأبينه: “دعونا لا نردع أنفسنا عن رؤية الكراهية التي تُشعل وتملأ حياة مئات الآلاف من العرب الذين يعيشون حولنا. هذا هو خيار حياتنا -أن نكون مستعدين ومسلحين، أقوياء ومصممين، لئلا يُسقَط السيف من قبضتنا وتنقطع حياتنا”.
في 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، تحقق تحذير ديان القديم بأكثر الطرق الممكنة دموية. وفق خطة دبرها يحيى السنوار، أحد قادة “حماس” المولود لعائلة أُجبرت على الخروج من المجدل، قام مسلحون فلسطينيون بغزو إسرائيل في حوالي 30 نقطة على طول حدود غزة. وبتحقيق مفاجأة كاملة، اجتاحوا دفاعات إسرائيل غير الكثيفة وشرعوا في مهاجمة مهرجان موسيقيّ وبلدات صغيرة وأكثر من 20 كيبوتسًا. وقتلوا في الهجوم حوالي 1.200 مدني وجندي واختطفوا أكثر من 200 رهينة. واغتصبوا ونهبوا وأحرقوا وسرقوا**. لقد عاد أحفاد سكان مخيمات اللاجئين الذين تحدث عنهم ديان -والذين تغذيهم نفس الكراهية التي وصفها، لكنهم الآن أفضل تسليحًا وتدريباً وتنظيمًا- للانتقام.
كان 7 تشرين الأول (أكتوبر) أسوأ كارثة في تاريخ إسرائيل. وهو نقطة تحول وطنية وشخصية لأي شخص يعيش في البلد أو يرتبط به. وبعد فشله في وقف هجوم “حماس”، رد الجيش الإسرائيلي بقوة ساحقة، فقتل آلاف الفلسطينيين ودمر أحياء كاملة في غزة. ولكن، حتى بينما يُسقط الطيارون القنابل ويقوم جنود الكوماندوز بإغراق أنفاق “حماس”، لم تفكر الحكومة الإسرائيلية في العداوة التي أنتجت الهجوم -أو ما هي السياسات التي قد تحول دون التعرض لهجوم آخر. ويأتي صمتها بناء على طلب رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، الذي رفض وضع رؤية أو نظام لما بعد الحرب. وقد وعد نتنياهو بـ”تدمير حماس”، لكنه لا يعرض -أبعد من القوة العسكرية- أي استراتيجية للقضاء على الحركة، ولا خطة واضحة لما يمكن أن يحل محلها كحكومة فعلية في غزة ما بعد الحرب.
ولم يكن فشله في وضع استراتيجية من قبيل الصدفة، ولا هو عمل من أعمال النفعية السياسية المصممة للحفاظ على تماسك ائتلافه اليميني. لكي تعيش إسرائيل في سلام، سيتعين عليها أخيرًا أن تتصالح مع الفلسطينيين، وهو شيء عارضه نتنياهو طوال حياته المهنية. وقد كرس فترة ولايته كرئيس للوزراء، وهي الأطول في تاريخ إسرائيل، لتقويض وتهميش الحركة الوطنية الفلسطينية. ووعد شعبه بأن يتمكنوا من الازدهار من دون سلام. وباع البلاد كل الوقت فكرة أنها يمكن أن تستمر في احتلال الأراضي الفلسطينية إلى الأبد، بتكلفة محلية أو دولية زهيدة. وحتى في الوقت الراهن، في أعقاب 7 تشرين الأول (أكتوبر)، لم يغير هذه الرسالة. وكان الشيء الوحيد الذي قال نتنياهو إن إسرائيل ستفعله بعد الحرب هو الحفاظ على “محيط أمني” عازل حول غزة -وهو تعبير ملطف مبطن عن الاحتلال طويل الأمد، بما في ذلك فرض طوق يمتد على طول الحدود، والذي سيلتهم شريحة كبيرة من الأراضي الفلسطينية الشحيحة أصلًا.
ولكن، لم يعد من الممكن أن تظل إسرائيل ضيقة الأفق إلى هذا الحد. وقد أثبتت هجمات 7 تشرين الأول (أكتوبر) أن وعد نتنياهو كان أجوف. على الرغم من عملية السلام الميتة وتراجع الاهتمام بهم من البلدان الأخرى، أبقى الفلسطينيون قضيتهم حية. وفي لقطات الكاميرات المثبَّتة على الأجساد التي التقطتها “حماس” في 7 تشرين الأول (أكتوبر)، أمكن سماع الغزاة وهم يصرخون: “هذه أرضنا” أثناء عبورهم الحدود لمهاجمة أحد الكيبوتسات. وقد أطّر السنوار العملية على الملأ بأنها عمل من أعمال المقاومة، وكان مدفوعًا شخصيا، جزئيا على الأقل، بالنكبة الفلسطينية. وكان قائد “حماس” قد أمضى 22 عامًا في السجون الإسرائيلية، ويقال إنه دأب على إخبار زملائه في الزنزانة بضرورة هزيمة إسرائيل حتى تتمكن أسرته من العودة إلى قريتها.
أجبرت صدمة 7 تشرين الأول (أكتوبر) الإسرائيليين، مرة أخرى، على إدراك أن الصراع مع الفلسطينيين هو شأن أساسي لهويتهم الوطنية وتهديد لرفاههم، وأنه لا يمكن التغاضي عنه أو الالتفاف عليه. وأن استمرار الاحتلال، وتوسيع المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية، وفرض الحصار على غزة، ورفض التوصل إلى أي تسوية إقليمية (أو حتى الاعتراف بالحقوق الفلسطينية) لن يجلب الأمن الدائم للبلاد. ومع ذلك، فإن التعافي من هذه الحرب وتغيير المسار لا بد أن يكون شأنًا بالغ الصعوبة -وليس فقط لأن نتنياهو لا يريد حل الصراع الفلسطيني. لقد أمسكت الحرب بإسرائيل في أكثر لحظاتها انقسامًا في التاريخ. في السنوات التي سبقت هجوم “حماس”، انقسمت البلاد بسبب جهود نتنياهو لتقويض مؤسساتها الديمقراطية وتحويلها إلى حكم استبدادي ثيوقراطي قومي. وأثارت مشاريع قوانينه وإصلاحاته احتجاجات واسعة النطاق، وشقاقًا هدد بتمزيق البلاد قبل الحرب، والذي سيعود ليطاردها بمجرد انتهاء الصراع. في الواقع، سوف يصبح الصراع على البقاء السياسي لنتنياهو أكثر حدة مما كان عليه قبل 7 تشرين الأول (أكتوبر)، مما يجعل من الأصعب على البلد السعي إلى تحقيق السلام.
ولكن، مهما يكُن ما يحدث لرئيس الوزراء، فإن من غير المرجح أن تُجري إسرائيل نقاشًا جادًّا حول تسوية مع الفلسطينيين. لقد تحول الرأي العام الإسرائيلي ككل إلى اليمين. وتنشغل الولايات المتحدة باطراد بانتخابات رئاسية حاسمة. ولن يكون هناك سوى القليل من الطاقة أو الدافع لإعادة إحياء عملية سلام ذات معنى في المستقبل القريب.
يظل 7 تشرين الأول (أكتوبر) نقطة تحول مركزية، لكن الأمر متروك للإسرائيليين ليقرروا أي نوع من التحول هي التي سيكونها. إذا استجابوا أخيرا للتحذير الذي أطلقه ديان، فيمكن للبلد أن يتحد وأن يرسم طريقًا للسلام والتعايش الكريم مع الفلسطينيين. لكن المؤشرات حتى الآن تشير إلى أن الإسرائيليين سيواصلون، بدلاً من ذلك، الاقتتال فيما بينهم والإبقاء على احتلالهم إلى أجل غير مسمى. وهو ما يمكن أن يجعل من 7 تشرين الأول (أكتوبر) بداية عصر مظلم في تاريخ إسرائيل -عصر يتسم بمزيد من العنف المتزايد. ولن يكون الهجوم في تشرين الأول (أكتوبر) حدثًا لمرة واحدة، وإنما نذيرًا بما سيأتي فحسب.
وعد لم يتحقق
في تسعينيات القرن العشرين، كان نتنياهو نجمًا صاعدًا في المشهد اليميني في إسرائيل. وبعد أن صنع اسمه كسفير لإسرائيل لدى الأمم المتحدة من العام 1984 إلى العام 1988، أصبح مشهورًا على نطاق واسع من خلال قيادة المعارضة لاتفاقيات أوسلو -خطة العام 1993 للمصالحة الإسرائيلية الفلسطينية التي وقعتها الحكومة الإسرائيلية ومنظمة التحرير الفلسطينية. وبعد اغتيال رئيس الوزراء، إسحاق رابين، في تشرين الثاني (نوفمبر) 1995 على يد متعصب إسرائيلي يميني متطرف، وموجة من الهجمات (الإرهابية) الفلسطينية في المدن الإسرائيلية، تمكن نتنياهو من هزيمة شمعون بيريز، المهندس الرئيسي لاتفاقية أوسلو للسلام، بهامش ضئيل للغاية في السباق على منصب رئيس الوزراء في العام 1996. وبمجرد توليه المنصب، وعد بإبطاء عملية السلام وإصلاح المجتمع الإسرائيلي من خلال “استبدال النخب”، التي اعتبرها ناعمة وميالة إلى تقليد الليبراليين الغربيين، بمجموعة من المحافظين الدينيين والاجتماعيين.
مع ذلك، قوبلت طموحات نتنياهو المتطرفة بمعارضة مشتركة من النخب القديمة ومن إدارة الرئيس كلينتون. كما أن المجتمع الإسرائيلي الذي كان ما يزال في ذلك الحين يدعم بشكل عام اتفاقية السلام، سرعان ما وضع العراقيل أمام تحقيق أجندة رئيس الوزراء المتطرف. وبعد ثلاث سنوات، أطاح به السياسي الليبرالي إيهود باراك، الذي تعهد بمواصلة عملية أوسلو وحل القضية الفلسطينية بشكل كامل.
لكن باراك فشل أيضًا، وكذلك فعل الذين خلفوه. عندما أكملت إسرائيل انسحابها أحادي الجانب من جنوب لبنان في ربيع العام 2000، أصبحت تتعرض لهجمات عبر الحدود ومهدَّدة من حشد عسكري هائل لـ”حزب الله”. ثم انهارت عملية السلام عندما أطلق الفلسطينيون “الانتفاضة الثانية” في خريف ذلك العام. وبعد خمس سنوات، مهد انسحاب إسرائيل من قطاع غزة الطريق أمام ”حماس” لتولي المسؤولية هناك. والجمهور الإسرائيلي، الذي كان ذات مرة مؤيدًا لصنع السلام، فقد شهيته بسبب المخاطر الأمنية التي جاءت معها. وانتشرت فكرة شائعة تقول: “عرضنا عليهم القمر والنجوم وحصلنا على انتحاريين وصواريخ في المقابل”. (الحجة المضادة -أن إسرائيل عرضت القليل جدا وأنها لن توافق أبدًا على قيام دولة فلسطينية قابلة للديمومة- لم تجد صدى يذكر). ثم، في العام 2009، عاد نتنياهو إلى السلطة، شاعرًا بأن العودة أضفت الصلاحية على مواقفه. ففي نهاية المطاف، تحققت تحذيراته ضد التنازلات في الأراضي لجيران إسرائيل.
بعد العودة إلى منصبه، عرض نتنياهو على الإسرائيليين بديلاً مناسبًا لصيغة “الأرض مقابل السلام” التي فقدت مصداقيتها الآن. إن إسرائيل، كما قال، يمكن أن تزدهر كدولة على النمط الغربي -بل وأن تمد يدها إلى العالم العربي ككل- بينما تدفع الفلسطينيين إلى الخطوط الجانبية. كان المفتاح هو سياسة فرق تسد. في الضفة الغربية، حافظ نتنياهو على التعاون الأمني مع “السلطة الفلسطينية”، التي أصبحت المقاول من الباطن للشرطة والخدمات الاجتماعية في إسرائيل، وشجَّع قطر على تمويل حكومة “حماس” في غزة. وقال نتنياهو للكتلة البرلمانية لحزبه في العام 2019: “على من يعارض إقامة دولة فلسطينية أن يدعم تسليم الأموال إلى غزة، لأن الحفاظ على الفصل بين ’السلطة الفلسطينية‘ في الضفة الغربية و’حماس‘ في غزة سيمنع إقامة دولة فلسطينية”. وهو بيان عاد الآن ليطارده.
اعتقَد نتنياهو أن بإمكانه إبقاء قدرات “حماس” تحت السيطرة من خلال فرض حصار بحري واقتصادي، وأنظمة دفاع صاروخي وحدودي تم نشرها حديثًا، وشن غارات عسكرية دورية على مقاتلي الحركة وبنيتها التحتية. وقد أصبح هذا التكتيك الأخير، الذي أُطلق عليه اسم “جز العشب”، جزءًا لا يتجزأ من العقيدة الأمنية الإسرائيلية، إلى جانب نهج “إدارة الصراع” والحفاظ على الوضع الراهن. واعتقد نتنياهو أن النظام السائد أصبح دائمًا. ومن وجهة نظره، كان ذلك الوضع أيضًا هو الوضع الأمثل: كان الحفاظ على صراع منخفض المستوى للغاية أقل خطورة من الناحية السياسية من إبرام اتفاق سلام، وأقل تكلفة من خوض حرب كبرى.
على مدار أكثر من عقد من الزمن، بدت استراتيجية نتنياهو ناجحة. غرق الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في الثورات والحروب الأهلية التي صاحبت “الربيع العربي”، مما جعل القضية الفلسطينية أقل بروزا بكثير. وانخفضت ما توصف بالهجمات الإرهابية إلى مستويات متدنية جديدة، وعادة ما تم اعتراض الصواريخ التي تُطلَق من غزة بين فينة وأخرى. وباستثناء حرب قصيرة ضد “حماس” في العام 2014، نادرًا ما احتاج الإسرائيليون إلى خوض مواجهة مع المسلحين الفلسطينيين. وبالنسبة لمعظم الناس، في معظم الأحيان، كان الصراع بعيدًا عن الأنظار، وبعيدًا عن الذهن أيضًا.
وبدلاً من القلق بشأن الفلسطينيين، شرع الإسرائيليون في التركيز على عيش الحلم الغربي بالازدهار والهدوء. في الفترة ما بين كانون الثاني (يناير) 2010 وكانون الأول (ديسمبر) 2022، ارتفعت أسعار العقارات بأكثر من الضعف في إسرائيل، وامتلأ أفق تل أبيب بأبراج الشقق السكنية ومجمعات المكاتب الشاهقة. وتوسعت المدن الأصغر لاستيعاب الطفرة الاقتصادية. ونما الناتج المحلي الإجمالي للبلاد بأكثر من 60 في المائة، حيث أسس رواد الأعمال في مجال التكنولوجيا أعمالاً ومؤسسات ناجحة، وعثرت شركات الطاقة على رواسب بحرية من الغاز الطبيعي في المياه الإسرائيلية. وأحدثت اتفاقيات الأجواء المفتوحة مع الحكومات الأخرى انتقالة واسعة في السفر إلى الخارج، وهو جانب رئيسي من نمط الحياة الإسرائيلي، وحولته إلى سلعة رخيصة. وبدا المستقبل مشرقًا. بدا أن البلد قد تجاوز الفلسطينيين، وفعل ذلك من دون التضحية بأي شيء -لا أرض، ولا موارد ولا أموال- من أجل التوصل إلى اتفاق سلام. لقد حصل الإسرائيليون على كعكتهم، وأكلوها أيضًا.
وعلى الصعيد الدولي، كان البلد مزدهرًا أيضًا. صمد نتنياهو أمام ضغوط الرئيس الأميركي باراك أوباما لإحياء حل الدولتين وتجميد المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية، جزئيا من خلال إقامة تحالف مع الجمهوريين. وعلى الرغم من فشل نتنياهو في منع أوباما من إبرام اتفاق نووي مع إيران، فقد انسحبت واشنطن من الاتفاق بعد فوز دونالد ترامب بالرئاسة. كما نقل ترامب السفارة الأميركية في إسرائيل من تل أبيب إلى القدس، واعترفت إدارته بضم إسرائيل لمرتفعات الجولان من سورية. وفي عهد ترامب، ساعدت الولايات المتحدة إسرائيل على إبرام “اتفاقيات إبراهيم”، وتطبيع علاقاتها مع البحرين والمغرب والسودان والإمارات العربية المتحدة -وهو احتمال بدا مستحيلًا في السابق من دون التوصل إلى اتفاق سلام إسرائيلي فلسطيني. وبدأت الطائرات المحملة بالمسؤولين الإسرائيليين والقادة العسكريين والسياح في التردد على الفنادق الفاخرة لمشيخات الخليج وأسواق مراكش.
بينما همَّش القضية الفلسطينية، عمل نتنياهو أيضًا على إعادة تشكيل المجتمع المحلي في إسرائيل. بعد فوزه في إعادة انتخابه بشكل مفاجئ في العام 2015، شكل نتنياهو ائتلافًا يمينيًا لإحياء حلمه القديم بإحداث ثورة محافظة. مرة أخرى، شرع رئيس الوزراء في انتقاد “النخب”، وشنّ حربًا ثقافية ضد المؤسسة السابقة التي اعتبرها معادية له شخصيًا وليبرالية للغاية بالنسبة لمؤيديه. وفي العام 2018، فاز بتمرير قانون رئيسي مثير للجدل يعرِّف إسرائيل بأنها “الدولة القومية للشعب اليهودي”، وأعلن أن لليهود الحق “الفريد” في “ممارسة حق تقرير المصير” على أراضيها. وأعطى الأغلبية اليهودية في البلاد الأسبقية، وأخضع الشعب غير اليهودي فيها.
وفي العام نفسه، انهار ائتلاف نتنياهو. وعندئذٍ غرقت إسرائيل في أزمة سياسية طويلة، حيث عبرت البلاد خمسة انتخابات بين العامين 2019 و2022 -شكلت كل منها استفتاء على حكم نتنياهو. وزادت حدة المعركة السياسية بسبب قضية فساد رُفعت ضد رئيس الوزراء، وأفضت إلى اتهامه جنائيًا في العام 2020 وإلى محاكمته التي ما تزال مستمرة. وانقسمت إسرائيل بين “البيبيين” والذين “ليسوا بيبيين”. (“بيبي” هو لقب نتنياهو). وفي الانتخابات الرابعة التي أجريت في العام 2021، تمكن منافسو نتنياهو أخيرًا من استبداله بما وصفت بأنها “حكومة تغيير” بقيادة اليميني نفتالي بينيت، والوسطي يائير لابيد. وللمرة الأولى، ضم الائتلاف الحكومي حزبا عربيا.
ولكن، حتى مع ذلك لم تكن المعارضة لنتنياهو تتحدى أبدًا الفرضية الأساسية لحكمه: أن إسرائيل يمكن أن تزدهر من دون العمل على معالجة القضية الفلسطينية. وأصبح الجدل حول السلام والحرب، وهو موضوع سياسي حاسم تقليديا بالنسبة لإسرائيل، مجرد خبر جانبي في الصفحات الخلفية. وقد ساوى بينيت، الذي بدأ حياته المهنية كمساعد لنتنياهو، الصراع الفلسطيني بـ”شظية في المؤخرة” يمكن أن تتعايش معها البلاد. وسعى هو ولابيد إلى الحفاظ على الوضع الراهن تجاه الفلسطينيين والتركيز ببساطة على إبقاء نتنياهو بعيدًا عن المنصب.
ولكن، ثبت طبيعة الحال أن هذه الصفقة مستحيلة. انهارت “حكومة التغيير” في العام 2022 بعد أن فشلت في إطالة أمد الأحكام القانونية الغامضة التي سمحت للمستوطنين في الضفة الغربية بالتمتع بالحقوق المدنية التي يُحرَم منها جيرانهم غير الإسرائيليين. وبالنسبة لبعض أعضاء التحالف العربي، كان التوقيع على أحكام الفصل العنصري هذه تنازلًا أكثر من اللازم.
بالنسبة لنتنياهو، الذي ما يزال يواجه المحاكمة، كان انهيار الحكومة هو بالضبط ما يأمل فيه. وبينما نظم البلد انتخابات أخرى إضافية، قام نتنياهو مرة أخرى بتحصين قاعدته من اليمينيين واليهود الأرثوذكس المتطرفين واليهود المحافظين اجتماعيًا. ولاستعادة السلطة، تواصل بشكل خاص مع مستوطني الضفة الغربية، وهم شريحة ديموغرافية ما تزال ترى الصراع الإسرائيلي الفلسطيني على أنه سبب وجودها نفسه. وقد ظل هؤلاء الصهاينة المتدينون ملتزمين بحلمهم بتهويد الأراضي المحتلة وجعلها جزءًا رسميا من إسرائيل. وكانوا يأملون أنه إذا أتيحت لهم الفرصة، فسيكون بوسعهم طرد السكان الفلسطينيين في الأراضي المحتلة. وقد فشلوا في منع إجلاء المستوطنين اليهود من غزة في العام 2005 عندما كان أرييل شارون رئيسًا للوزراء، لكنهم استولوا في السنوات التي تلت ذلك تدريجيًا على مناصب رئيسية في الجيش الإسرائيلي وجهاز الخدمة المدنية ووسائل الإعلام، حيث حول أعضاء المؤسسة العلمانية تركيزهم إلى كسب المال في القطاع الخاص.
كان لدى المتطرفين مطلبان رئيسيان من نتنياهو. الأول، والأكثر وضوحًا، هو زيادة توسيع المستوطنات اليهودية. والثاني هو تأسيس وجود يهودي أقوى في الحرم القدسي، الموقع التاريخي لكل من الهيكل اليهودي والمسجد الأقصى الإسلامي في البلدة القديمة في القدس. (يُتبع)
*ألوف بن Aluf Benn: صحفي إسرائيلي ومؤلف ورئيس تحرير صحيفة ”هآرتس” اليومية الإسرائيلية الليبرالية. بدأ العمل في صحيفة “هائير” Ha’ir في العام 1986. وانتقل إلى صحيفة “هآرتس” في العام 1989، حيث شغل مناصب مختلفة، بما في ذلك محرر ليلي وصحفي استقصائي ورئيس قسم الأخبار، وكتب عن المسائل الأمنية. نشرت مقالاته في مجموعة متنوعة من الصحف الدولية، بما في ذلك “نيويورك تايمز”.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: Israel’s Self-Destruction: Netanyahu, the Palestinians, and the Price of Neglect
**يصرّ بعض كتاب الكيان ومناصروه على تأكيد الرواية الرسمية لحكومة الاحتلال عن أعمال لم تثبت صحتها تنسبها إلى المقاومين في غزة. ولا ينتبه هؤلاء الكُتاب إلى التحقيقات التي تنشرها حتى صحفهم نفسها، وتشكك صراحة في هذه الرواية.