في جغرافيات البلاد الملعونة بالحروب نقع بسهولة على مفردات:النزوح، الشتات، التهجير، الموت، تتداولها وسائل الإعلام يوميا، لكن هناك من يحاول توثيقها أدبيا عبر سرد وقائع دقيقة تتجاهلها الكاميرات أو تعجز عن تصويرها بحذافيرها. وحدها الكتابة المستميتة في التقاط التفاصيل المجهرية والحالة النفسية، قادرة على إيفاء حقوق المنسيين والمهمشين في الحروب. هذا حوار جماعي مع روائيين سوريين شباب فتحوا قوس الموت دون أن يغلقوه في سرديتهم عن الحرب السورية.
مي الخالدي و”سفر العائدين”
بقامة صغيرة، كانت تستعين طفلة الخامسة بالوسائد لتتسلق مكتبة زادت رفوفها مع طول قامتها، وتطلب من والدها التقاط كتاب ليقرأه لها، إلى أن رأت الأب ذات يوم صيفي قائظ حاملا مجلة وراح يردد على مسامعها قصيدة من الشعر السياسي للشاعر الراحل نزار قباني، لتحفظها الطفلة التي لم تُجد القراءة بعد، خلال نصف ساعة، حينها فقط تيقن الوالد أنه أمام موهبة تنمو بذورها مبكرا ولابد من رعايتها، فلم تنه مي الثامنة قبل الانتهاء من قراءة كتب مصطفى المنفلوطي،لتودع سن العاشرة بقراءة معظم كتب جبران خليل جبران.
تقول مي الخالدي (1988) لـ”المجلة”: “تواطؤ قدري حصل منذ ولادتي حين أصرت والدتي على تسميتي مي تيمنا بالأديبة مي زيادة، أمضيت سنوات طفولتي في منزل كبير احتضن بمساحاته فضولي وهدوئي وانعزالي بين حين وآخر. بسبب الفارق العمري بيني وبين أخوتي خلقت لنفسي عالما خاصا، كنت أنا من يضع قوانين اللعبة ومن يطبّقها ويتحدّاها أحيانا، تنقلت بين هوايات عدّة لكنها كانت تجارب سريعة التلاشي، وحدها الكتب استطاعت أن تسحبني الى شباكها”.
أردت أن أمنح القارئ مادة أدبية لا تحرّك جرحه الذي لم يندمل
مي الخالدي
تعتقد مي أن تكوين اللغة عملية تراكمية، وهذا ما اشتغلت عليه منذ الصغر لتتحول القراءة إلى فعل يومي: “اللغة عملية تراكمية، تخزن عقولنا المفردات بعد أن تخضع لغربلة وفق تفضيلاتنا الشخصية، هناك مثلا مفردات تترك أثرا في نفوسنا فنجدها حاضرة في نصوصنا بقوة، وكلما زاد عددها اقتربنا من تكوين أسلوب أدبي خاص، في النهاية اللغة واحدة والمفردات هي ذاتها في القواميس والمعاجم، وتكمن موهبتنا في قدرتنا على خلق روابط جديدة بينها، بالنسبة إليّ أجد نفسي أستخدم أسلوب المفردات المتناقضة بكثرة ولكني أحاول دوما ربطها بأسلوب خارج عن المألوف”.
ظلت مدينة دير الزور عالقة في مسامات جلد الكاتبة الشابة على الرغم من هجرها لها في سن الثالثة عشرة في اتجاه العاصمة دمشق، فاتخذت منها بؤرة للسرد والتأريخ لنكسة جماعية ذاقت مرارة الاغتراب وويلات النزوح في روايتها الأولى، “سفر العائدين” (دار المحيط، 2022)، لتتدحرج بكرة شريط ذاكرة بالأبيض والأسود نحو فترة الأربعينات وتعيد عقارب الزمن إلى حقبة لم تعش تفاصيلها تطلب منها جهدا كبيرا في البحث والتقصي، تقول: “أجل تعمّدت الابتعاد عن هذه الحقبة ليس بقصد التنصل من وجع عاشه بلدي ولكن لأني أردت أن أمنح القارئ مادة أدبية لا تحرّك جرحه الذي لم يندمل، حتى حين تطرقت الى النكبة لم أذكر أي تفاصيل دامية، جاء الأمر في السياق التاريخي للأحداث لا أكثر، فالرواية تحكي قصة 3 أجيال من آل يعقوب، توزعوا في بقاع الأرض ووجدوا انتماءهم في 5 مدن، دير الزور، دمشق، مونتريال، يافا، صيدنايا”.

تتبنى مي الجرأة في الكتابة “شريطة أن تكون جزءا من روح العمل، فلكل حبكة ضروراتها، فجزء من المهمة الأدبية يتطلّب سرد حكايات لشخصيات تعيش في الواقع بكل تفاصيله الجريئة والاعتيادية”. تعقب: “لكنني لا أحبّذ مثلا مفردات بذيئة في النص، فمن وجهة نظري ذلك يشوّه جمالية اللغة، لغتنا ثرية بما يكفي لنحتال على المباشر بمضامين أكثر تعبيرا”.
رشيق سليمان و”ضفاف الخطيئة”
عاش رشيق سليمان (1987) في منزل ريفي متواضع اتسعت جدرانه للكتب أكثر من صور الحائط، وذلك بسبب غرق الوالد في بحور الشعر وانشغاله بنظم الأبيات الشعرية، مما فتح له بابا واسعا تدفق من خلاله اللغة والمفردات، ليستحضرها في روايته الأولى، “ضفاف الخطيئة” (دار الحوار، 2017)، التي أفرج عنها بعد 7 سنوات من الأسر في رفوف مكتبته بقريته في حماه. يقول لـ”المجلة” :”كنت أقرأ كل ما تقع عليه يداي، أخذت حصتي الوفيرة من الشعر والنثر، كما نالت القصص قسطا من وقتي”.
يشتبك الكاتب في الرواية مع سطوة الأب على ابنته الذي يطوقها بسور مثخن بـ”اللاءات”. يمنعها من الدراسة والعمل لتعيش في عزلة قسرية يخترقها شاب يقنعها بالحب فتهرب معه ظنا منها أنه المخلص المنتظر، لكنه يتضح أنه منافق ليس إلا ضحية عائلة مفككة جعلت منه حاقدا على جميع النساء: “تتذكر كيف قصفها كحيوان تجرفه أهواؤه وتعصف به غرائزه… كيف أهان أنوثتها وكل النسوة بها، هو يعرف كيف يقطف وردة لم تتفتح بعد في حديقة الأنوثة. وبعد أن يشمها يعرف جيدا كيف يدهسها بقدمين متسختين كعقليته”.