صممت غرفة مجلس العموم البريطاني بحيث تكون المسافة بين خندقي الحزب الحاكم والمعارض أكثر من طول سيفين. ذلك أن الصراعات بين الملوك كانت تحسمها السيوف، ثم جاء النظام الديموقراطي المبتكر، محاولة لجعل الحجة بديلاً من السيف. حجة يكون فيها الجمهور هو الشاهد والحكم، على قوة الحق، وقوة الحجة.
لكن المناظرتين الرئاسيتين المتلفزتين اللتين ستجريان بين الرئيسين جو بايدن ودونالد ترامب خلال أسابيع، ستكونان أكثر من مجرد سجال منمق في برلمان بريطاني. ستكونان أقرب إلى مباريات الديكة، حيث يستميت أكبر ديكين عجوزين في التاريخ الأميركي من أجل رئاسة ثانية. ثمة اعتقاد قوي أن المناظرتين هما اختبار حاسم لكل منهما.
نعم، فبعد مداورة وتأجيل وتأويل وافقا عليها. وبينما استفاد بايدن من الزخم في أعقاب خطابه عن حالة الاتحاد، لا يزال متخلفاً عن ترامب في متوسط استطلاعات الولايات والاستطلاعات الوطنية. ورغم أن الاستطلاعات لم تكن قط مؤشراً يعتد به في هذه المرحلة المبكرة، إلا أنها مهمة جداً في التخطيط للسجال بين الرجلين في المناظرتين المرتقبتين.
يتقدم ترامب تقدماً طفيفاً، في 5 ولايات رئيسية وحساسة، ميتشيغان وأريزونا، ونيفادا، وجورجيا، وبنسلفانيا حيث يعبر الناخبون الشباب وغير البيض عن استيائهم من بايدن. فثمة مزاج لدى الشباب والسود واللاتينيين، يعكس عدم ارتياح من الاقتصاد وطموحاً للتغيير، ناهيك بتداعيات الحرب في غزة. وتنذر هذه التحولات بانقسامات في تحالفات الحزب الديموقراطي.
لكن الخبراء يلاحظون أن عدداً من الأحداث التي طرأت بعد هذه الاستطلاعات قد تبدل موقف الجمهور، إذ ارتفعت سوق الأسهم بنسبة 25 في المئة، وبدأت محاكمة ترامب الجنائية في مانهاتن، وأطلق فريق بايدن حملة عابرة للولايات بعشرات الملايين من الدولارات.
عموماً يمكن القول إن غالبية الناخبين لا يزالون يرغبون في العودة إلى الاستقرار والحياة الطبيعية. وانعكس هذا الميل بتراجع موجة الحزب الجمهوري خلال الانتخابات النصفية. لكن الناخبين لا يزالون قلقين من قدرة بايدن على تحقيق ما يريدون.
لكن بايدن بقبوله المناظرة قلب السيناريو فجأة، وخرج على وسائل التواصل الاجتماعي ليهزأ من ترامب الذي لم يتبق له من أيام الأسبوع خارج المحاكم إلا أيام الأربعاء. فلماذا يذهب بايدن إلى المناظرة؟
على المستوى الشخصي يأمل بايدن في جعل خصمه المعروف بعفويته وارتجاله، يتصبب عرقاً، أو يتردد. لكن الأهم أنه سيترتب على بايدن أن يستجيب لحاجات التغيير في المجتمع في مواجهة البيروقراطية وترهل المؤسسات والقوانين. ولعل بايدن يراهن أيضاً على تحسن الاقتصاد لرفع مكانته، لكنه في المناظرة سيركز على استقطاب النساء وعلى الموقف الملتبس لترامب من قضية الإجهاض، الذي تشير الاستطلاعات إلى أنه أكبر نقاط ضعف لترامب. إذ يعتقد 64 في المئة من الناخبين في الولايات الأساسية أن الإجهاض يجب أن يكون دائماً أو قانونياً في الغالب، بما في ذلك 44 في المئة من مؤيدي ترامب. وانعكست هذه القضية وحدها بصعود تأييد بايدن 11 نقطة، من 38% إلى 49%.
التحدي الأكبر لبايدن في هذه المناظرة هو أن يثبت أنه سيكون رجل تغيير، من دون مغامرة باهتزاز المؤسسات. ذلك أن 29% من الناخبين يرون أن مشكلات ترامب القانونية هامة. و35% يرجحون أن تنتهي المحاكمة بالإدانة.
من جهته، سيسعى ترامب، بغض النظر عن محاكماته الجنائية، للسخرية من بايدن كعجوز، فاسد، مخاتل، يرمز إلى تعفن السياسيين التقليديين في واشنطن. هذا، فيما يتضافر الناخبون من أنصار ترامب الذين يعتقدون بالحاجة لهدم الأنظمة السياسية والاقتصادية تماماً، وهم يمثلون 15% من الناخبين. ومن جهته لا شك بأن ترامب يتطلع لرؤية بايدن يتلظى بقضايا الهجرة والتضخم وإسرائيل. لكن سيكون عليه أن يثبت أنه سيكون حريصاً على الاستقرار السياسي والنجاح الاقتصادي.
في مجال السياسة الخارجية، سيتمكن بايدن بسهولة من الدفاع عن موقفه من الصين، إذ يرجع إليه ذلك التصعيد الذي دفع العلاقات مع الصين نحو الحرب الاقتصادية الشاملة. لكن حرب غزة تبقى تحدياً جدياً لبايدن من يسار حزبه، إذ يقول 13% من الناخبين الذين صوتوا لبايدن في السابق إنهم لم يقرروا بعد التصويت له.
وفيما يشكل الشباب ما بين 18 و29 عاماً، الكتلة الأكثر حساسية في حسم النتائج، ثمة شرائح ثلاث هي الأكثر أهمية في تحديد الفائز في المناظرتين، وبالتالي في الانتخابات. إنهم النساء والسود واللاتينيون.
بحسب الاستطلاعات، لا يزال بايدن قريباً جداً من ترامب. وحافظ على معظم دعمه بين الناخبين البيض والناخبين الأكبر سناً، وهم الأكثر تعلقاً بالاستقرار وقلقاً على الديموقراطية. نتيجة هذا التحول يصبح بايدن أكثر قدرة على المنافسة في الولايات الشمالية الثلاث البيضاء نسبياً: ميشيغان وبنسلفانيا وويسكونسن.
ومع ذلك، لا يزال الاقتصاد وتكلفة المعيشة أهم القضايا بالنسبة إلى ربع الناخبين، وهنا تكمن معضلة بايدن. ولا يزال أكثر من نصف الناخبين يعتقدون أن الاقتصاد “ضعيف”، إذ انخفض نقطة مئوية واحدة فقط منذ تشرين الثاني (نوفمبر) على الرغم من تباطؤ التضخم، ووضع حد لرفع أسعار الفائدة وتحقيق مكاسب كبيرة في سوق الأسهم.
المناظرات لعبة محفوفة بالمخاطر لكلا المرشحين. وستكون هذا العام أهم الأحداث الانتخابية، وستتمتع بنسب مشاهدة عالية جداً، إذ تلعب انطباعات المناظرات التي تلتصق بعقول الناخبين، دوراً هاماً في الانتخابات، بخاصة أن ملايين الأميركيين يدلون بأصواتهم قبل وقت طويل من يوم الانتخابات في تشرين الثاني (نوفمبر).
هل يأمل أي من بايدن وترامب بتغيير عقول عدد كبير من الأميركيين؟ ربما لا. ولكن مع احتمال وصول الانتخابات إلى بضعة ملايين من الناخبين في عدد قليل من الولايات المتأرجحة، يرى كل منهم أن المناظرات حفلة تستحق الحضور.
وفي بلد يقول فيه 70% من الناخبين إنهم يتمنون لو كانت لديهم وجوه أكثر شباباً، ستذكرنا المناظرتان بترهل المنظومة السياسية الأميركية الشامل.
لكن المناظرتين ستكونان في المقابل، فرصة للناخب العاقل واللبيب لأن يفكر بعيداً عن وسائل الإعلام المنحازة والمعلومات المضلّلة. بل ستكونان فرصة للمواطن الأميركي ليكون شاهداً من دون توسطات إعلامية، ويكون حكماً على مواقف غير منمقة، للمرشحين. هل كان مرشح “الجانب الآخر” صادقاً؟ وهل تنسجم قيمه مع خوارزمية أولوياتي؟
هل سيربح الفائز بالنقاط؟ أم بالضربة القاضية؟ سيحتاج الناخب الأميركي لكل نباهته ليلتقط هذه التفاصيل في واحدة من أهم مباريات الديكة.
– النهار العربي