انتشرت مؤخراً عشرات الفيديوات لمطبّلين إعلاميين لمحور الممانعة، رفعوا فيها من سقف قدرات “حزب الله” إلى مستويات “سوبرمانية”، تترك المستمع إليها فارغاً فاه من هول العجب، خصوصاً بعد أن رأى اللبنانيون ومعهم العرب والعالم كيف ثقب نتانياهو بإبرة عنجهيته بالوناً كان يتضخم ويتضخم حتى عادت لا تسعه الغرفة (لبنان) فانفجر باللبنانيين وتهشّم مع قوة الردع.
خمس دقائق قبل الظهيرة. عقارب الساعة تحاول بصعوبة جرّ الوقت في قيظ حزيران. كان ذلك في يوم اثنين وافقَ الخامس من حزيران/ يونيو 1967، وكانت إسرائيل قد أنهت الجولات الأساسية من غاراتها الخاطفة على المطارات المصرية، مدمّرة طائرات القوات الجوية المصرية على مدارجها، قبل إقلاعها.
كان أحمد سعيد، المذيع المصري الشهير، يجلس وراء الميكروفون، ويفنّد “أكاذيب تكشفها حقائق”، وهو عنوان البرنامج الذي كان يقدمه على الهواء. نزل إلى الأستوديو “نائب رئيس الإستماع السياسي وهو يبكي”، كما يروي سعيد بنفسه في مقابلة تلفزيونية قبل وفاته (توفي في العام 2018). عرف سعيد حينها أن نكسة وقعت، وأن الأكاذيب التي كان يفنّدها وينقضها بـ”الوقائع” التي كانت القيادة المصرية تزوّده بها، لم تكن في الواقع إلا حقائق تنسف الأكاذيب التي كان يذيعها بصوته الحماسي عبر أثير الراديو.
كان ذلك بعد ساعات قليلة من الحرب التي دامت ستة أيام. لكن سعيد أكمل في الأكاذيب طوال أيام الحرب، بعد أن “اتصلتُ بالقيادة وأكدولي أننا هُزمنا، وطلبوا أن أحافظ على المستوى نفسه”. وهو نفّذ تماماً “كأي قائد جيش علم أنه هُزم فعلاً، وطُلب منه الانسحاب لتقليل خسائره”، كما يعترف، محاولاً التبرير: “كنت أعرف إننا مهزومين ودي محنتي إحنا والعاملين في الإذاعة. هناك بعض المذيعين، مثلاً جلال معوّض إنهار، سقط من عنف المأساة، أغمي عليه”. وهو كان عليه، كما يقول، أن يكون متماسكاً، وأن يرفع بالأكاذيب معنويات الشعب المصري والشعوب العربية: “العملية مش عملية انتحارية، القصد كان رفع الروح المعنوية للناس، وتماسك الشعب حتى لا ينهار”.
لا يختلف أحمد سعيد بشيء عن وئام وهّاب مثلاً. ووهّاب ابن إذاعة صوت الجبل، ومنها انطلق من الصحافة إلى السياسة، ممارساً أكثر ما يُجيده حقّ الإجادة: “الكذب”. أو في لغة لبنانية عاميّة “تطيير الفيولة”(الفيلة). فوئام وهّاب كان على غرار سعيد، قد أعلن لجماهير “حزب الله” وسائر الجماهير اللبنانية، معادلات حاسمة لا تدع مجالاً للشكّ، من مثل أن لدى الأمين العام ل”حزب الله” حسن نصرالله “زرّ” يضغط عليه فيدمّر وزارة الدفاع الإسرائيلية بـ”كبسة واحدة”. وزوّدنا وئام في مقابلته التي باتت منتشرة في فيديو ساخر مصحوب بطبّال متحمّس يضرب بكلتا يديه على الطبلة، بمعادلة أخرى كفيلة بأن تضع العدو الصهيوني عند حدّه: “إذا قصفوا قناة المنار نقصف التلفزيون الإسرائيلي”.
هذا نموذج واحد من عشرات الفيديوات التي انتشرت مؤخراً لمطبّلين إعلاميين لمحور الممانعة، رفعوا فيها من سقف قدرات “حزب الله” إلى مستويات “سوبرمانية”، تترك المستمع إليها فارغاً فاه من هول العجب، خصوصاً بعد أن رأى اللبنانيون ومعهم العرب والعالم كيف ثقب نتانياهو بإبرة عنجهيته بالوناً كان يتضخم ويتضخم حتى عادت لا تسعه الغرفة (لبنان) فانفجر باللبنانيين وتهشّم مع قوة الردع، التي قالت فيها غدي فرنسيس وهي من الإعلاميات المتحمّسات للمحور إلى حدّ المغالاة: “عنجد فنانين، فظيعين، بيعملوا توازن الرعب، بيوجعوا الإسرائيلي، وبنظافة”. وهي بهذا الوصف السابق لانفجار “البالون”، تبدو كأنها “تُتَكتِك” مع محمد كوثراني، أحد أكثر “مهرّجي” المحور طرافة، وتردد معه: “عنديبها منلا مقاومة، شو هالأعصاب شو هالحكمة!”.
وفرنسيس ومعها كوثراني، تلميذان نجيبان لأحمد سعيد في الوفاء لقيادته العسكرية، والإكمال في الكذب لـ”رفع الروح المعنوية”، ولمنع الناس من أن تنهار. و”نحنا ما مننهار”، على ما قالت يوماً زهراء قبيسي إحدى ضيفات “المنار”، في خضمّ شماتتها من بقية اللبنانيين الذين يبكون علانية على انهيار بلادهم وأحلامهم ومستقبلهم، بعد أن سطت المصارف على مدّخراتهم.
سالم زهران وغسان سعود من مدرسة مختلفة للأمانة. رئيس مركز “الإرتكاز الإعلامي”، يرتكز في تحليلاته وتصريحاته على مدرسة أحدث في الكذب والبروباغاندا الفارغة، هي المدرسة البعثية العراقية، وأستاذها الكبير محمد سعيد الصحّاف، وزير الإعلام في آخر أيام نظام صدّام حسين. وسعود، الصحافي “الرصين”، يسير على “دعساته”، ولنأخذ مثالاً من تصريحات الصحّاف الشهيرة حينذاك، ونقارنها تطبيقياً على التلميذين الشاطرين زهران وسعود.
يقول محمد سعيد الصحّاف قبل أيام من الانهيار الكامل لنظام صدّام حسين: “أستطيع أن أقول وسجلوها عليّ، بدأوا ينتحرون على أسوار بغداد، وسنشجعهم على مضاعفة الانتحار بسرعة، جرّعناهم المرّ والموت ليلة أمس”. ثم يعدّد في تصريح آخر الإنجازات العسكرية للجيش العراقي: “أعطيكم ماذا أوقع المقاتلون بهؤلاء العلوج: بعد يوم وبضع ساعات، دمرنا لهم 13 دبابة، و8 ناقلات أفراد مجنزرة، و6 مدرعات، وأسقطنا 4 طائرات أباتشي وطائرتين من دون طيار، وقتلنا 43 علجاً أميركياً وبريطانياً وتم الاستيلاء على كميات ليست قليلة من التجهيزات العسكرية لهؤلاء العلوج”.
ماذا يقول سعود؟ في مقابلة بالصوت والصورة، وبثقة العارف بخفايا الأمور، يخبرنا الصحافي المخضرم، بعد أيام من اغتيال القيادي العسكري الأول في “حزب الله” فؤاد شكر إن “من يقود المقاومة بعد اغتيال شكر، لديه تاريخ حافل في العمليات قبل سنة 2000 حيث كان لا يسقط لحزب الله أي شهيد فيها، الإسرائيليون يعرفونه جيداً، ويعرفون أن لديه حرصاً هائلاً على عمليات ناجحة جداً دون سقوط شهداء”. ثم يأخذ سعود نفساً كأنه يتنشّق الثقة ويتابع: “هلق الحزب يقول إن نسبة الذين يستشهدون انخفضت، وقريباً هذه النسبة ستصبح صفر. لدى الحزب حماسة وإيمان أنهم قادرون على الوصول إلى معادلة صفر شهداء”. يقال إن محمد سعيد الصحاف كان يستمع إلى مقابلة سعود عبر يوتيوب، وكان ابنه جالساً إلى جانبه غير مبال بكلام الصحافي اللبناني، فصفعه الصحّاف على وجهه، وقال له: “إسمع وتعلّم يا ولد!”.
لكن الصحّاف لم يسمع على الغالب بتصريح سالم زهران عن السيناريو الذي وضعه زهران في حال حصول اغتيال للسيد حسن نصرالله، راسماً بنبرة واثقة تشبه نبرة ميشال حايك وهو يتنبأ بالغيب، مصير إسرائيل فيما لو ارتكبت كبرى الكبائر: “ستكون من العلامات الكبرى ليوم القيامة، وساعتها عظّم الله أجركِ، يعني بتنسي في شي اسمه نسل إسرائيلي في المنطقة”.
قيلت كل هذه الأكاذيب قبل شهور وأيام من تكذيبها بالوحشية الإسرائيلية عبر إبادة قيادات “حزب الله” واحداً تلو الآخر، وعبر تفجير آلاف العناصر في هجمة “البايجر”، وصولاً إلى قتل نصرالله، ثم قتل خليفة نصرالله، من دون أن تقوم القيامة إلا على آلاف النازحين المنسيين المرميين على أرصفة الجحيم.
وهؤلاء كلهم، الصحّافيّون والصحّافيات، والسعيديون والسعيديات، لا يزالون يظهرون على الشاشات، بلا خجل ولا انكسار، بل يستمرون بالنهج نفسه، على خطى المصري أحمد سعيد، والعراقي محمد سعيد الصحّاف، يكذبون ويكذبون ويكذبون، إلى أن تصير الكذبة حقيقة يتداولها الناس، بحسب القانون الدعائي الذي يُنسب إلى جوزف غوبلز وزير الدعاية النازية.
لم يعتذر أحمد سعيد عن أكاذيبه. اعتبرها جزءاً من واجبه العسكري تجاه قيادته، أن يكذب من أجلها، على ناسها. ومثله محمد سعيد الصحاف. لم يعتذر الوزير العراقي بعد أن غادر العراق إلى أبو ظبي ليعيش في صمت هناك. كانت آخر تصريحاته تحمل في الواقع دعوة سوريالية للصحافيين والمراسلين التلفزيونيين إلى التدقيق في المعلومات: “فقط أطلب إليكم أن تدقّقوا في المعلومات، لا أطلب منكم سوى أن تدققوا، لا تردّدوا كذب الكاذبين”.
ولا نتوقّع من تلاميذهما أن يعتذروا، ولا أن يدققوا في المعلومات، فهم من يخترعون الكذبة وهم من يصدقونها ويسوّقونها. لكن مع استمرار المأساة وتغوّل إسرائيل الأسطع من الحقيقة، نتوقّع في الحدّ الأدنى من هؤلاء أن يخجلوا، وأن لا ينظروا بأعينهم الوقحة الفاجرة كغارة إسرائيلية، من خلال الشاشات، إلى آلاف العيون الدامعة المحطّمة…
كاتب لبناني
- درج


























