أستانا 22 .. جولة استباقية للمأزومين
عندما تتداعى أطراف مسار أستانا فجأة للاجتماع قبل يومين –فقط- من الموعد، فهذا يعني أن ثمة مستجدات التُمِست بداياتها، وفي أقلّ التقديرات قد يكون الدافع استثمار دخول الإدارة الأمريكية مرحلة البطة العرجاء، ريثما يأتي رجل الصفقات ترمب، ليعيد تموضع أمريكا سوريّاً في قادمات الأيام.
ويدهَش المتأمّل للمشهد السوري -الآن- في منطقة تموج بالمتغيّرات وتأرجُح الموازين وانقلاب التحالفات وتغيّر التفاهمات وتعثّر التوافقات، إذ بدأت تطفو إلى السطح، بين اللاعبين والمتصارعين، روائح تسويات جديدة، وتناقضات أكيدة، وخلافات كانت بعيدة عن التجسيد، أو احتمالات وقوعها؛ لأن المنطقة تسير –غالباُ- إلى مصير مجهول، أو نهايات لا تغلق أبواباً لحرائق، إلا لتفتح مصاريع أخرى صوب لهيب لا ينطفئ.
على الرغم من أن هدف أستانا الروسي تحقّق جانبه الأهمّ بتحييد سلاح الثورة وأهدافها، بفرض ما يسمّى “مناطق خفض التصعيد” ثم ابتلاعها، وتوافق الضامنين على تبادل الأرض ومناطق النفوذ، ومقايضات المواقف والملفات، فإن فقدان الثقة بينهم، يجعل أرضية اتفاقياتهم الهشّة ملساء لزجة، وبوجود سوريين “من النظام والمعارضة” شهوداً وحسب، لا قرار لهم فيما يخصّ سورية التي يقتسمان ادّعاء تمثيلها.
النسخة الحادية والعشرون من جولات أستانا، لم تحقّق إلا ما فيه مصالح الضامنين، أمّا ما يخصّ السوريين فلم يتحرّك قيد أنملة، فلا مفاوضات سياسية حدثت، ولا دستوراً أُنجز، ولا قرارات أممية نُفّذت، ولا مناطق سورية توحّدت، ولا منظمات إرهابية أبيدت أو فُكّكت، ولا معتقلين أفرج عنهم، ولا مغيّبين عُرف مصيرهم، ولا تغييراً ديمغرافياً توقّف، ولا أعيد إعمار، ولا لاجئين عادوا أو أعيدوا! فهل ستحقّق هذه الجولة ما فات سابقاتها، و”تُخرِج الزير من البير”؟
ثمّة جديد نافر في جدول أعمال هذه الجولة، يختلف عن شبه الثابت في كل جولات أستانا، وهو ( مناقشة تطوّرات الملفّ السوري والجهود الرامية إلى التوصّل لحلّ سياسي شامل في سورية )! يعني ذلك أن المنطقة ستحفل بتطورات تمسّ سورية قبل غيرها، وتغيّر في أوضاعها المشوّهة التي أعيت كلّ من قارب حلولاً لها؛ وربما ستُرسم خرائط لشرق أوسط جديد، تغيب منه، بفعل نظام الاستبداد الأسدي، سورية الدولة المستقلّة ذات السيادة، بعد حربي غزة ولبنان وتغوّل إسرائيل، وتجريد أمريكا لكل قواها دعماً لتحقيق مشروع يفتت المنطقة، ويذرّر مجتمعاتها، ويطحنها بالمزيد من الحروب البينيّة والمعاناة التي لا نهاية قريبة لها، وهو ما يفسّر المسارعة في عقد هذه الجولة من جهة، وما يعلّل سباق المتصارعين في محاولات تموضع يؤمن مصالحها أو مصالح مشغّليها، بدءاً من النظام المنهك المتهالك الحائر في سبُل بقائه وارتهانه وبيع قراره لمن يدفع أكثر، وانتهاءً بميليشيات ” قسد-مسد ” التي تبحث عن شرعنة وجودها قوة أمر واقع، فأجرت انتخابات ” سريّة ” بعيداً عن الأعين، خلافاً لرغبة رُعاتها، لتكون أول الدافعين لتقسيم البلاد بعد أن هجّرت العباد، مثلها مثل النظام وحلفائه، مروراً بمعارضة رسمية رهنت نفسها وارتهن قرارها بمصالح الدول النافذة في سورية لا مصالح سورية الوطن الحرّ الموحّد.
إن مساراً لم يلتزم بتنفيذ ما قرّر، عبر21 جولة، لن يكون فاعلاً، ومساراً فشل في فرض قراءته للقرار الأممي 2254 وتجميده أو الالتفاف عليه، لن يتمكّن من تنفيذ رؤيته، وما يجري يمكن أن يكون لهواً في وقت ضائع، وغالباً جولة استباقية لمأزومين عليهم واجب مواجهة استحقاقات مرحلة يراها الجميع قاتمة، بينما يراها السوريون سانحة لتطبيق القرار 2254 بقراءته الأممية، وبداية طريقهم لتحرير وطنهم من كل الاحتلالات، وباباً لتوحّده ومساراً لسورية دولة الديمقراطية والمواطنة والمساواة والقانون.
- رئيس التحرير