تعد آلة الأورغن من أقدم الآلات الموسيقية التي ترجع أصولها إلى عصور ما قبل الميلاد، كما تعد أيضاً من أضخم الآلات الموسيقية حجماً ومجالاً صوتياً، إن لم تكن الأضخم على الإطلاق. على مدى قرون طويلة من الزمن مرّ الأورغن بتطورات مختلفة، حتى وصل إلى شكله المستقر في عصري النهضة والباروك، مع إضافة بعض التقنيات في القرن التاسع عشر. ارتبط الأورغن بالكنيسة ارتباطاً وثيقاً، خصوصاً الكنيسة الكاثوليكية، فقد صار جزءاً منها وصوتاً من أهم أصواتها، يحمل نغمه المهيب المتصاعد من قلبها، الكثير من الروحانيات والمشاعر الإيمانية، ويعبر عن جلال تلك اللحظات التي يتصل فيها المرء بالسماء وقدسية المكان والطقوس والصلوات، وإذا كانت الأجراس يُسمع صوتها داخل الكنيسة وخارجها بشكل يومي في أوقات متعددة، ويتم قرعها في المناسبات الدينية والاجتماعية المختلفة، ويصل صوتها عن بعد ويمتد إلى الأماكن المحيطة بالكنيسة، فإن الأورغن يُسمع صوته داخل الكنيسة ويعد من الأصوات الكنسية الروحانية العميقة المؤثرة بشكل كبير، فهو آلة موسيقية شديدة الثراء مكتملة العناصر الفنية، ذات إمكانيات صوتية هائلة تصدر نغماً فريداً وألحاناً بديعة. تستقر تلك الآلة الموسيقية الضخمة داخل الكنائس والكاتدرائيات الكبرى، وتمثل بطابعها وهيكلها وتصميمها المتميز شكلاً بصرياً جميلاً يتداخل مع بنيان الكنيسة ومعمارها، فعندما تمتد الأعين إلى ذلك المكان الذي يوجد فيه الأورغن بهيكله ولوحات مفاتيحه وأنابيبه الضخمة هائلة العدد، التي تصطف وترتفع عالياً متجهة نحو السماء، تلك الأنابيب التي يمر عبرها الهواء، تختلف أطوال هذه الأنابيب وأحجامها ما يعطي لكل أنبوب صوته الخاص المميز وطبقته النغمية وتعبيره الفريد، وتختلف كذلك درجات القوة والضعف، ما يجعل الأورغن قادراً على خلق تنوع صوتي واسع، من الهمسات الرهيفة الخافتة والتأملات المتدفقة إلى الرعدات الموسيقية المدوية والذروات العاصفة والموجات التي تغمر الفضاء.
للأورغن مفاتيح تشبه مفاتيح البيانو، لكنها مفاتيح هائلة العدد تتوزع في لوحات تتدرج فوق بعضها أمام العازف على عدة طبقات، وهناك الدواسات الأرضية، التي يتم الضغط عليها بواسطة القدمين، من خلال هذه الدواسات والكم الكبير من المفاتيح يستطيع العازف أن يتحكم في الأنابيب الهوائية المصدرة للصوت، وأن ينوع الأنغام ويغير الطبقات. قد يخرج الأورغن من الكنيسة أحياناً، وينصب في بعض المسارح الكبرى المؤهلة لذلك، خصوصاً النسخ الحديثة منه، لكن يظل مكانه قائماً في الكنيسة، كمشهد بصري رائع، وأيقونة دالة وصوتاً روحياً معبراً، بل إنه يتداخل مع بنيان الكنيسة المعماري ويصبح ملمحاً مهماً من ملامح جمال الكنيسة وعظمتها. تتميز كل كنيسة بالأورغن الخاص بها، وتضم الكنائس والكاتدرائيات الكبرى في العالم مجموعة من آلات الأورغن التاريخية العريقة معقدة التصميم، وتحتاج هذه الآلات إلى عناية خاصة وخبرات كبيرة في أمور صيانتها وضبطها والحفاظ عليها.
يتفرد الأورغن بصوته القوي المهيب الذي يشيع في النفس الإحساس بالرهبة وعظمة السمو الروحي، وتقترن أنغامه بالخشوع والتأمل والصلوات الدينية وأجواء الروحانيات، ينطلق صوت تلك الآلة الموسيقية من داخل الكنيسة، ويتردد بين جنباتها، كما لو أنه يأتي من كل مكان، فارضاً حضوره الطاغي وسطوته العاتية كقوة غامضة، لا يمكن دفعها أو الوقوف أمامها، صوت يصمت الجميع عند سماعه، ولا يستطيع أن يقارعه أي صوت آخر. كثيرة هي أنغام الأورغن ودرجاتها وتنويعاتها، وكثيرة أيضاً ما تخلقه هذه الأنغام من تأثيرات في نفس من يستمع إليها، ومع أصواته الهادئة والهادرة، تتنوع المشاعر من طمأنينة الإيمان والسكينة إلى الرهبة والإحساس بالضعف الإنساني، الذي لا يخلو من الرجاء على كل حال.
الأورغن وعظماء الموسيقى الكلاسيكية
عند الحديث عن آلة الأورغن يُذكر على الفور اسم يوهان سباستيان باخ 1685-1750، الموسيقار الألماني العظيم، الذي يقف في الصف الأول بين عباقرة الموسيقى الكلاسيكية، بما له من مكانة جليلة ومهابة كبرى تشبه مهابة القديسين، نلمسها في ألحانه العميقة الغامضة، وما أبدعه من تقنيات وأساليب وقوالب، أقامت فن الموسيقى الكلاسيكية وباتت من أهم أركانها وأسسها الخالدة. ألف يوهان سباستيان باخ العديد من المقطوعات الموسيقية لآلة الأورغن في قوالب مختلفة، بالإضافة إلى الأعمال الكورالية، ومنها المؤلفات ذات الطابع الديني الروحاني، وما تحتوي عليه من تقنيات معقدة وهارموني وتداخل الأصوات، وما تحتله هذه الأعمال إلى اليوم من مكانة رفيعة داخل الكنيسة. ولا تقتصر علاقة باخ بالأورغن على التأليف له وحسب، فقد كان باخ عازفاً عظيماً على هذه الآلة الموسيقية العريقة، وقام خلال حياته بالعزف على الأورغن داخل الكنيسة، ويؤرخ له كأعظم عازف جلس يوماً إلى هذه الآلة الموسيقية، وكان عازف الأورغن يحظى بمكانة رفيعة دينياً وفنياً على السواء، ويجد السامع في صوت موسيقى باخ الكثير من روح الأورغن وغموضه ورهبته وتعقيداته الجمالية.
من أشهر مؤلفات الموسيقار الألماني يوهان سباستيان باخ لآلة الأورغن، مقطوعة توكاتا وفوغا في مقام دي الصغير، تلك المقطوعة التي يعرفها الجميع تقريباً، أو استمع على الأقل إلى مطلعها الموسيقي الشهير البارع، الذي يعد من أشهر مقدمات القطع الموسيقية الكلاسيكية على الإطلاق، وتم توظيفه في العديد من الأفلام السينمائية وأفلام الرسوم المتحركة والدعايات المختلفة. تمزج مقطوعة توكاتا وفوغا، كما يدل عنوانها بين قالب التوكاتا وقالب الفوغا، ويتم هذا المزج أو الجمع بين القالبين بأسلوب درامي مهيب منذ المقدمة القوية المؤثرة المفعمة بالرهبة، وفي الانتقالات النغمية والتنويعات وتداخل الخطوط اللحنية، والبناء الدقيق المتماسك. كما ألف يوهان سباستيان باخ لآلة الأورغن مقطوعات القداس الألماني، وفانتازيا وفوغا، وكورال الترانيم، وفن الفوغا وغيرها من المقطوعات. وإلى جانب باخ هناك العديد من عباقرة الموسيقى الكلاسيكية قاموا بالتأليف لآلة الأورغن، منهم كامي سان سانص صاحب السيمفونية الثالثة للأورغن، وفيلكس مندلسون صاحب سوناتا الأورغن، وهايدن الذي ألف عدة مقطوعات لهذه الآلة الموسيقية العريقة في قالب الكونشيرتو.
مروة صلاح متولي
كاتبة مصرية
- القدس العربي