تروي إحدى القصص أن امبراطوراً صينيا يدعى شِن نونغ (2737-2697 قبل الميلاد)، كان قد أمر بأن يغلي رعاياه الماءَ قبل شربه، للحفاظ على صحتهم. وفي أحد الأيام، وبينما كان يغلي الماءَ، سقطت أوراق من الشاي جلبتها الريح في الإناء. ولما تذوق الإمبراطور الماء، شعر بالنشاط، وإثر هذه الحادثة أمر بزراعته على نطاق واسع، وأوصى رعاياه بتناول منقوعِه، بدعوى أن «الشاي يمنح الجسم نشاطا، والعقل رضا، والعزيمة إصرارا».
وعلى الرغم من أنه لا توجد اليوم قصة أو وثيقة تاريخية تؤيد هذه الرواية أو الأسطورة، مع ذلك يمكن اعتبارها مدخلاً جيداً لإعادة قراءة تاريخ الشاي في العالم. فعلى امتداد السنوات الماضية، ربما حظيت القهوة في الكتابات والترجمات العربية باهتمام لا بأس به، وهو ما تمثل بصدور عدد من الكتب التي حاولت رصد تاريخ هذه المشروب عالمياً، أو في المدينة العربية. في المقابل، تبدو اليوم هناك جهود موازية في الكتابات الغربية، لإعادة كتابة تواريخ مشروبات أخرى، ومن بينها تاريخ الشاي، الذي ربما يعتبر اليوم واحدا من أهم المشروبات الشعبية في المدينة العربية. مؤخراً وفي سياق اهتمام «مشروع كلمة للترجمة»، بترجمة عدد من التواريخ البديلة للمشروبات، صدر كتاب بعنوان (الشاي… تاريخ عالمي)، تأليف الباحثة البريطانية هلن صابري، ترجمة موسى الحالول. حاولت هلن في هذا الكتاب تتبع تاريخ الشاي في العالم، بدءاً من القصة الأولى عن ظهوره، وحتى بيوتات الشاي في أيامنا هذه. ما يميز كتابها، أنها تتبعت تفاصيل هذا المشروب في عدة مناطق من العالم، بما فيها الشرق الأوسط، وكيف انتشر مع نهاية القرن التاسع عشر، وحسب بعض الروايات والمذكرات، ومنها مذكرات الرحالة الألماني ماكس فون أوبنهايم، فإن مدينة مثل دمشق نهاية القرن التاسع عشر لم يكن يعثر فيها على الشاي إلا ما ندر، وكانت القهوة هي الغالبة، وربما هذا الواقع بقي هو السائد في مدينة دمشق، حتى أيامنا هذه، فالدمشقيون ظلوا يفتتحون صباحهم بشرب القهوة، على خلاف مدن سورية أخرى، التي عادة ما يفتتح أهلها يومهم بمشروب الشاي.
وبالعودة للكتاب، تعتقد المؤلفة أنه لا يوجد سوى القليل جداً من المعلومات التاريخية الدقيقة حول بداية شرب الشاي في الصين. ومن المحتمل أنه بحلول القرن الأول قبل الميلاد كان الناس في سِچْوان ينقعون أوراق الشاي في الماء الساخن. وأول تعريف معروف للشاي، تحت اسم كِيا أو كوتو، مع معلومات إضافية مفادها أنه مشروب «يصنع من الأوراق بغليها».
خلال عهد أسرة تانغ (618-907) حققت الصين ازدهاراً لا مثيل له. كانت تلك حقبةً مجيدةً ازدهرت فيها التجارة. وظهر شاي ذو جودة أفضل، وراح يشربه أفراد الطبقة العليا والعلماء والكهنة بصفة مشروب منعش ومنشط. ولكن مع الغزو المغولي للصين عام 1280، انخفض شرب الشاي، ولذلك لم يَرِد ذِكْرُ الشاي في يوميات اثنين من الرحالة المشهورين إلى الصين في ذلك الوقت، ماركو بولو ووِلْيَم أُف روبروك. ويمكن القول إن التطور الأهم في تاريخ الشاي حدث في القرنين الخامس والسادس عشر، بعد أن صار الشاي سلعةً يُتاجَر بها مع الغرب. وكان التجار في ما يعرف الآن بإيران وأفغانستان هم من يلعبون دور الوسيط في هذه التجارة، وغالباً ما تحكموا بنقل البضائع في الجزء الأوسط من الطريق. ويبدو أن مدينة بَلْخ القديمة في شمال أفغانستان، التي كانت ذات يوم مركزاً تجارياً مزدهراً ومهماً، قبل أن يدمرها جنكيز خان في القرن الثاني عشر، كانت آخرَ محطةٍ غربيةٍ لأي حركة مرور كبيرة للشاي، كما يبدو أن بيوت الشاي (الشاي خانة) أصبحت جزءاً مهماً من الحياة في العديد من البلدان الواقعة على طريق الحرير. فهي أماكن يجلس فيها الرجال ويستريحون ويستمتعون بالشاي.
الشاي في إيران وتركيا
من الفصول المهمة في الكتاب هو كيفية دخول الشاي الى إيران وتركيا، فحسب المؤلفة لم يكن لشرب الشاي في إيران تاريخ قديم، ومع أنه ربما وصل إلى بلاد فارس من الصين عن طريق القوافل المبكرة، فإنه لم يترك إلا أثراً ضئيلاً. فقد ظلت القهوة، المشروب المفضل لمئات السنين. وفي عشرينيات القرن الماضي، شك والد الشاه السابق في أن المقاهي كانت تُنمي المعارضة السياسية، فقرر إقناع الناس بالتحول إلى شرب الشاي. وهكذا استورد أصنافاً جديدة من الشاي من الصين، وجند عائلات صينية للإشراف على إنتاج الشاي في إيران وتطويره. وقد نجحت جهوده، فأصبح الشاي المشروب الأكثر شعبية. من جهة أخرى، نرى أن الشاي وصل لتركيا من خلال روسيا، إذ ازدادت مع نهاية القرن الثامن عشر كمية الشاي المستوردة إلى روسيا بالتدريج، ولاسيما في عهد كاترين العظيمة (التي حكمت من 1763 إلى 1796)، وشاع الشاي بين النبلاء الروس وانتشر في النهاية إلى الطبقات الأخرى. كانت روسيا حتى خمسينيات القرن التاسع عشر، تستورد أوراق الشاي المعبأة في صناديق. وفي وقت لاحق حلت محله قوالب الشاي المصنوع في المصانع الروسية في هانكو. وعندما اكتمل إنشاء خط السكة الحديد عبر سيبيريا في بداية القرن العشرين، انتهى عصر قوافل الإبل وصار الشاي ينقل إما عن طريق السكك الحديدية، وهذا أدى إلى انتشار شرب الشاي في جميع قطاعات المجتمع الروسي. وقد طور الروس عاداتهم الخاصة بشرب الشاي، وأهمها استخدام السَّمَـاوَر، ومن هنا انتقل مع الشاي إلى تركيا. وبحلول القرن التاسع عشر، أصبح الشاي مهماً في حياة الأتراك العثمانيين اليومية. وكان يقدم في المنازل الخاصة والأماكن العامة، وازدهرت صالات وبيوت الشاي. ومع أن السلطان عبد الحميد الثاني (1876–1909) مدمن قهوة، فقد أظهر اهتماماً كبيراً بالشاي، خاصةً زراعته، وأدرك أهميته الاقتصادية.
وقد شجع أتاتورك، مؤسس الجمهورية التركية، الشاي المنتج محلياً، ليكون بديلا من القهوة المستوردة، التي أصبحت باهظة الثمن وغير متوفرة في بعض الأحيان، في أعقاب الحرب العالمية الأولى. وسرعان ما أصبحت تركيا مكتفية ذاتيا، وفي عام 1947، صدر مصنع شاي ريزه أول شحنة له إلى الخارج. كل الشاي المنتج تقريبا يأتي من مقاطعة ريزه على ساحل البحر الأسود، ومعظمه للاستهلاك المحلي. واليوم تركيا سادس أكبر منتج للشاي في العالم.
بريطانيا والشاي والناس العاديون
كان الهولنديون هم من جلبوا أول شحنة من الشاي الياباني والصيني إلى أمستردام عام 1610. وكان الشاي سلعةً جديدةً باهظة الثمن، ولكن بحلول عام 1660 شاع بين من يستطيعون تحمل تكلفته. فقد كان مشروباً ذا مكانة عالية، ويرجع ذلك إلى حد ما إلى طقم الشاي الباهظ الثمن المطلوب لشربه، بل إن العائلات الموسرة خصصت غرفاً خاصة يعد فيها الشاي ويقدم ويشرب. «يتكون الأثاث من موائد الشاي والكراسي مع خزائن للأكواب وعلب السكر، وكذلك للملاعق الفضية وأواني الزعفران… وكان الشاي والزعفران يقدمان معا، ويكون الخليط ساخنا، ومحلى، ومغطى في كوب للحفاظ على رائحته». وسوّق الهولنديون الشاي إلى دول أخرى مثل ألمانيا وفرنسا وإنكلترا. وكان أول ما وصل لإنكلترا نحو عام 1645، وأقيم أول مزاد للشاي في مِنسِنغ لين في لندن عام 1656. وفي عام 1662، تزوج الملك تشارلز الثاني من الأميرة البرتغالية كاتَرينا دي براغانسا، وكانت من أوائل محبي شرب الشاي، وكان مهرها يتضمن صندوقاً من الشاي الصيني. يقال إن أول شيء طلبته عندما هبطت في بورتسموث كان كوباً من الشاي، ثم راحت تقدمه في البلاط الملكي وسُرعان ما شاعَ الشاي وراجَ، وأرادت كل الطبقة الراقية تجربة المشروب الجديد، ولكنه كان باهظ الثمن، ولذلك ظل في تلك الأيام الأولى مشروباً للأغنياء. لم يكن الجميع يعرف ماذا يفعلون بهذا المكون الغريب الجديد. وفي عام 1689، بدأت شركة الهند الشرقية تستورد الشاي مباشرةً من الصين، وفي عام 1721 مُنحت احتكاراً لتجارة الشاي، مع ذلك فقد بقي مخصصا للأغنياء، ولذلك كانت السيدات يتناولن الشاي في المنازل، وكن يحتفظن به في غرفة النوم أو الاستقبال لغلائه، لكن بحلول منتصف القرن التاسع عشر، صار الشاي الهندي يستورد بسعر أرخص إلى بريطانيا. وصار بإمكان عائلات الطبقة العاملة الآن جعل الشاي مشروبها الرئيس. فعند عودة العمال إلى منازلهم من المناجم والمصانع، كانوا يستقبلون بوجبة دسمة جيدة مع إناء كبير من الشاي الأسود الثقيل بالحليب والسكر. ومع هذا التحول يمكن القول إن الشاي تحول من مشروب للنخب إلى مشروب للناس العاديين، وبهذا نكون أمام فصل شعبي أوسع لهذا المشروب.
كاتب سوري
- القدس العربي