رغم فداحة الجرائم التي ارتكبها نظام الأسدين الأب والابن والتي يتحدث عنها العالم برمته اليوم بعد فتح الصندوق الأسود لتلك العائلة المتأصلة في الإجرام، إلا أن ثمة جريمة تكاد توازي كل ما اقترفته يدا الطاغية وهي المتمثلة في زراعة الكراهية بشكل متعمد وزعزعة الثقة بين السوريين واللعب على وتر الفتنة بكل أنواعها الطائفية والعرقية والمناطقية، وسهولة جرّ المواطنين للخصومة وتحويلهم إلى أعداء.
ذلك نوع من الجريمة الصامتة والباردة وطويلة الأجل، جرائم ميكروبية لا تُرى بالعين المجردة ولا يلحظها كثيرون ولا تزال تأثيراتها سارية المفعول حتى بعد سقوط النظام، فهي تشابه حقول الألغام التي يخلفها المهزوم قبل رحيله بهدف إيقاع أكبر أذية انتقاماً من ضحاياه بعد كل الألم والقهر والدمار والموت الذي تسبب فيه.
وعلى مفترق الطرق الجديد والمنحى الأخطر الذي يعيش السوريون في دوامته اليوم، بدأت مفاعيل تلك الجريمة وارتداداتها تظهر بشكل واضح بعد تولي الإدارة الجديدة مهامها في حكم البلاد، حيث ظهرت من جديد ملامح الثقافة الأسدية القديمة -إن جاز أن نسميها ثقافة- التي دفعت السوريين للانقسام سابقاً من خلال الاستقطاب والانغلاق على الرأي الواحد والتمترس والعناد، وإذا كان الاختلاف في الآراء ووجهات النظر أمراً صحياً ومطلوباً وشديد الأهمية، فإن أسلوب الاختلاف هو ما يتوجب علينا كسوريين أن نعيد التفكير فيه وعلى وجه السرعة، لقد عمل النظام على إيجاد شرخ كبير بين السوريين، شرخ كان يمكن أن يطول كثيراً ويتسع أكثر مما هو عليه، ولكن سقوط النظام أيقظ المشاعر الوطنية من جديد وأسهم بشكل عميق في تغليب مصلحة الوطن على الأوجاع الخاصة وسد الفجوة الواسعة التي حفرها النظام وبشكل متعمد.
تبدو المرحلة الحالية بحساسيتها ودقتها وخطورتها أحوج من أي وقت مضى إلى لغة الحوار بديلاً عن الصدام، وتقليص الفجوة بدل توسيعها قبل أن تتضخم المشكلات ويزداد التباعد ونصل إلى مرحلة العداء واللاعودة نتيجة للتمترس في دائرة مغلقة والتعامل مع الآخر ممن يطرح وجهة نظر مغايرة على أنه خصم لا شريك، وذلك أكبر خطر محتمل على سوريا.
عاد السوريون للهتاف بصوت واحد ومطلب واحد هو ذات الصوت القديم الذي ارتفع مطالباً بالحرية والكرامة منذ أكثر من ثلاثة عشر عاماً، ويبدو أن المطلب الأكثر إلحاحاً اليوم هو الحفاظ على ذلك التلاحم قبل يتسع الشرخ من جديد والذي بدأت ملامحه تظهر قبل اكتمال شهر على التحرير.
في ردود الفعل على الإدارة الجديدة وقراراتها وتصرفاتها، بدأت حالة من الشقاق تظهر بوضوح وتشكل تهديداً حقيقياً لأهم إنجاز حققه السوريون، تهديد يشابه في بعض جوانبه الطريقة القديمة التي سادت في أثناء اغتصاب نظام الأسد للسلطة، وبدأ كثير من السوريين من جديد للعودة إلى مرحلة الصدام والذي يتنامى باضطراد ويتطور باستمرار ويذهب إلى الأقصى بين أصحاب وجهات النظر المختلفة.
وتبدو المرحلة الحالية بحساسيتها ودقتها وخطورتها أحوج من أي وقت مضى إلى لغة الحوار بديلاً عن الصدام، وتقليص الفجوة بدل توسيعها قبل أن تتضخم المشكلات ويزداد التباعد ونصل إلى مرحلة العداء واللاعودة نتيجة للتمترس في دائرة مغلقة والتعامل مع الآخر ممن يطرح وجهة نظر مغايرة على أنه خصم لا شريك، وذلك أكبر خطر محتمل على سوريا.
قبل أن يستكمل السوريون فرحتهم بالتحرير، وبعد أيام قليلة على هروب الأسد، راحت الإدارة الجديدة تصدر قرارات وتقوم بتعيين شخصيات في مواقع حساسة، فضلاً عن الحوادث الفردية وبعض الانتهاكات والتجاوزات التي كان بعضها حقيقياً ومنها ما تم تضخيمه ومنها ما تم ابتداعه بهدف نشر الذعر والإحباط، وإضفاء سوداوية على المشهد برمته والتحذير من سوريا الجديدة ومستقبل السوريين في الدولة الوليدة قبل أن تتضح معالمها الحقيقية.
لم يتمهل المنتقدون والمتخوفون في الترويج للصورة السوداء التي تنتظر سوريا وتهدد مستقبلها معتمدين على بعض تلك القرارات والتعيينات والتصرفات المنفلتة، وفي هذا السياق لا بد من التركيز على نقد الأخطاء كضرورة وطنية حتى لو تمت ممارسة النقد بقسوة قبل أن تتراكم تلك الممارسات وتتكلس ويصبح من العسير تصحيحها، غير أن تحول اللغة المستخدمة في النقد إلى حالة من العداء هو ما يهدد مستقبل سوريا أكثر من التهديد الذي تشكله الأخطاء ذاتها التي ترتكبها الإدارة الجديدة والعاملون معها، لأنها تقودنا إلى الخلف وتعيدنا لمرحلة ما قبل سقوط النظام من حيث شكل علاقاتنا كسوريين، وتقودنا إلى الاصطفاف والاستقطاب الذي ساد في عهد الأسد.
الأمر ذاته ينطبق أيضاً على الموافقين على كل قرارات الحكومة الجديدة بما فيها القرارات الخاطئة والذين ينكرون على المنتقدين حقهم في ممارسة دورهم الوطني في النقد والمراجعة والإشارة إلى الخطأ، ويحاولون تحويل تلك الأخطاء إلى مزايا وبالتالي نكون أمام حالة تمترس وعناد تمهد لانقسام السوريين إلى جبهتين متعارضتين جاهزتين لتبادل إطلاق النار وتحويل فرح السوريين بالتحرر من النظام القاتل إلى جحيم يمكن أن يهدر الفرصة التاريخية لإعادة سوريا إلى مقدمة دول المنطقة.
لم يتمهل المنتقدون والمتخوفون في الترويج للصورة السوداء التي تنتظر سوريا وتهدد مستقبلها معتمدين على بعض تلك القرارات والتعيينات والتصرفات المنفلتة، وفي هذا السياق لا بد من التركيز على نقد الأخطاء كضرورة وطنية حتى لو تمت ممارسة النقد بقسوة قبل أن تتراكم تلك الممارسات وتتكلس ويصبح من العسير تصحيحها، غير أن تحول اللغة المستخدمة في النقد إلى حالة من العداء هو ما يهدد مستقبل سوريا أكثر من التهديد الذي تشكله الأخطاء ذاتها
ينطبق ذلك على الحكومة الجديدة أيضاً والتي تمر بمرحلة امتحان حقيقي في قدرتها على المراجعة والتراجع وفي جرأتها على الاعتراف بالخطأ وشجاعة الاعتراف به وتصحيحه، من حق الحكومة المثقلة بملفات ضخمة أن تخطئ في هذه المرحلة، ومن حق السوريين عليها أن تأخذ اعتراضاتهم ونقدهم على محمل الجدية وأن تكون منفتحة على النقد، فالناقد الذي يشير إلى الفجوات والأخطاء ويرصدها هو مستشار مجاني متطوع، ومن حق كل مواطن أن يمارس دوره في النقد شريطة ألا يحول نقده إلى حالة عداء ومصادمة، وأن يكون الهدف من ممارسة حق النقد هو بناء حالة حوار حقيقية، فالحوار هو ما تحتاجه سوريا اليوم بالدرجة الأولى بعيداً عن التشكيك والتخوين وافتراض سوء النوايا.
إن أخطر ما فعله الأسد هو دفع السوريين للانقسام ما بين مؤيد ومعارض، مؤيدون للحد الأقصى ومعارضون للحد الأقصى يسعى كل منهم لإلغاء الآخر وصولاً إلى حالة القطيعة التامة، صحيح أن النظام كان المسؤول الأول والأخير عن ذلك، ولكن كان من شأن التخفيف من لغة العداء بين السوريين أن يبقي على جسر تواصل بين الطرفين قبل إحراق المراكب تماماً والانقسام إلى فسطاطين حارب كل منهما الآخر حتى النهاية لنكتشف لاحقاً كم كنا بحاجة لذلك الجسر المفترض وليس تدميره، وهو الأمر الذي أشعل حالة العداء بين السوريين وجعلهم يتشاغلون فيما بينهم ويمارسون أقصى درجات الخصومة وهو ما أراح النظام لفترة طويلة حيث كان يتغذى على خصومة السوريين ويستمد منها مزيداً من القوة، وقد كانت خصومة السوريين فيما بينهم أحد الأسباب التي أسهمت في إطالة عمر النظام.
لقد خلف الأسد تركة ثقيلة جداً، ففضلاً عن تدمير المدن وقتل مئات الآلاف واعتقال مثلهم وتهجير الملايين وتدمير الاقتصاد والسياحة والصناعة والثقافة.. الخ، فقد خلف وراءه دماراً أخلاقياً وإنسانياً ووطنياً كبيراً، وخلف أيضاً مفاهيم ما زالت تسيطر على أذهان السوريين رغم رفضهم لها مثل مفهوم الأبدية، فردود الفعل الحادة على الإدارة الجديدة والغضب الذي يبديه كثيرون من قراراتها وتعييناتها ينطلق من إحساس مغروس في اللاشعور السوري وهو أن من يستلم منصباً سيبقى فيه للأبد وهذا ما يبرر استعجالهم ونقدهم المعادي مستغلين فترة السماح بالانتقاد وهم يعتقدون أن الحكومة لن تسمح للنقد إن تمكنت، ولن يكون ممكناً للمواطن أن يلعب دوراً في التغيير لسنوات طويلة، رغم أن أحد أساسات ثورة السوريين اعتمد على نسف فكرة الأبدية، متناسين في هذا الإطار أن من أسقط نظام الأسد المتجذر إقليمياً ودولياً لن يعجز عن إسقاط نظام وليد إن لم يتخذ الخط الوطني الذي تستحقه سوريا.
لن يكتمل إسقاط النظام قبل اقتلاع مخلفاته واستئصال الأورام الخبيثة التي عمل على رعايتها على مدار سنوات، وللوصول إلى ذلك فإن تعلم فن الحوار واحترام الرأي والوعي بضرورة الخطاب غير العدائي هو الوسيلة الوحيدة القادرة على نزع أخطر ألغام الأسد وإعطاء صورة للعالم بأن مشكلة سوريا تسبب بها الأسد وليس الشعب السوري.
- تلفزيون سوريا