أظهر خبراء في الحركات الجهادية تشاؤماً كبيراً، عقب وصول «هيئة تحرير الشام» إلى سدة السلطة في سوريا إثر هروب الرئيس بشار الأسد في الثامن من كانون الأول/ديسمبر الماضي. كان أولئك يرون أن هذه التنظيمات المتطرفة، التي توحدت وجمعها هدف إسقاط نظام البعث العتيد، لن تصمد طويلاً عقب استتباب الأمر لها في وجه التحديات.
هذه القراءة كانت تعتمد على مسوغات موضوعية، منها وجود خلافات كثيرة في وجهات النظر بين المجموعات المقاتلة، وهي خلافات كان لها أثرها في السابق، حيث ساهمت في إضاعة الكثير من الوقت والموارد في قتال داخلي، وأدت إلى كثير من الانفصالات، بما شمل الهيئة نفسها، التي كانت قد انفصلت عما عرف بـ»جبهة النصرة».
نقطة أخرى كان يشار إليها في هذا السياق، هي كون هذه الجماعات فوضوية ولا تخفي ميلها للعنف. كان هذا كافياً بالنسبة لأغلب المحللين للقول، إن الإدارة الجديدة سوف تجد نفسها مرغمة على خوض صراعات مع قطاعات شعبية مختلفة، لا تشمل فقط أنصار النظام السابق وحلفاءه، بل تتوسع لتشمل الأقليات الدينية وعامة الشعب من غير المتدينين. هذه الصراعات، التي كان يبشر بها أولئك الخبراء، كان يفترض أن تقود إما لنوع جديد من الفوضى الشاملة، أو لإسقاط الإدارة الجديدة، خلال وقت قصير. فرضية إسقاط النظام الجديد على يد الغاضبين والمتضررين من «الحكم الإسلامي» كانت مطروحة أيضاً في كثير من الكتابات، التي افترضت أن أولوية «الهيئة» سوف تكون تثبيت مشروعها، وتنزيل رؤيتها السلفية الخاصة على جميع منافذ المجتمع. لأن هذه الرؤية المتطرفة تصطدم بقناعة الكثير من السوريين العلمانيين أو الليبراليين، ناهيك عن أصحاب المذاهب والأديان الأخرى، ولأنها أيضاً سوف لن تكون مقبولة، حتى بالنسبة لأصدقاء النظام المتشكل وداعميه الخارجيين، فإن ما ذهب إليه محللون بارزون، في أول أيام التغيير كان، أن مثل هذا النظام سوف لن يصمد، وأنه لن يلبث أن يسقط تحت تأثير الضغوط الداخلية والرفض الإقليمي.
القيادة السورية الجديدة، التي ارتبطت في سنوات نضالها بالشركاء الأتراك، استفادت من اقترابها من السياسة التركية البراغماتية، التي تعرف كيف تجمع بين تحقيق المصالح والبعد عن الصدام
اليوم، وبعد مرور أكثر من شهر على استتباب الأمر للإدارة السورية الثورية الجديدة، فإن ما حدث هو النقيض لما كانت تبشر به كل تلك القراءات، فالمجموعات المختلفة، التي توحدت خلف هدف إسقاط الديكتاتور لم تسمح لخلافاتها أن تطل برأسها لتفسد ما تم تحقيقه من إنجاز. على عكس النبوءات المتشائمة، فقد أظهر أولئك وعياً بالتعقيدات الدولية، وبوضعهم الخاص والحرج، الذي يحظون فيه بأعداء كثر. كان الإعلام الدولي، الذي كان يصوّر الأمر في البداية على أنه إسقاط للنظام بواسطة جماعات فوضوية متطرفة، يراقب الأيام الأولى باهتمام. التوقعات كانت أن تعمد «الهيئة» إلى التوسع في أعمال القتل والإرهاب والتصفية والتعذيب، انتقاماً من الموالين لنظام الأسد وتخويفاً لمن يمكن الظن بأنهم معارضون محتملون لحكمهم. كانت الصورة، التي أجبر الإعلام على نقلها، مغايرة تماماً، حيث حرص الحكام الجدد من أول يوم على إرسال رسائل تسامح وتطمين، بل إنهم أمهلوا، حتى من كانوا يقاتلونهم من قوات النظام، وقتاً حتى يسلموا أنفسهم وأسلحتهم. أضعف كل ذلك فرضية توجه البلاد نحو الفوضى أو تفكير البعض في تعكير صفو الانتقال السياسي الناشئ، خاصة أن «الهيئة»، التي كانت مرتبطة في الأذهان بتنظيم «الدولة الإسلامية»، لم تبد مشغولة بالتركيز على ما يفرق الناس، مثل ما تعلق بالتدين الشخصي، حيث لم تعط هذا الأمر الأهمية، التي تخوف منها كثير من أصحاب الطوائف الأخرى أو من غير المتدينين. لا نقول هنا إنه لم يحدث أي تجاوز خلال عمر «الهيئة» القصير، ولكن المقصود أن كل ما تم تناقله خلال الأيام الماضية من حالات قتل خارج نطاق القانون، أو من إجراءات وصفت بأن بها بعض التشدد يظل قليلاً جداً مقارنة بما كان الجميع يتوقع حدوثه من تفشٍ للعنف، وانعدام للأمن بشكل يجعل استهداف الهيئة مطلوباً، وتدخل أي قوات دولية من أجل «استعادة النظام» مبرراً.
الجولاني، أو أحمد الشرع وفق ما اختاره لنفسه كاسم رسمي، كان يقف خلف هذه الصيغة، التي تجمع التدين مع الاعتدال. يظهر هنا أن القيادة الجديدة، التي ارتبطت في سنوات نضالها بالشركاء الأتراك، استفادت من اقترابها من السياسة التركية البراغماتية، التي تعرف كيف تجمع بين تحقيق المصالح والبعد عن الصدام، كما تعرف كيف تستفيد من تناقضات الساحة الدولية، من أجل أن تجد لنفسها مكاناً وسط أمواج السياسة الدولية المتلاطمة. تتجلى هذه البراغماتية في الموقف من الاستفزازات الإسرائيلية، فكجماعة جهادية تقليدية كان من المتوقع أن يستجيب المتحمسون لها لتلك الهجمات، التي تزايدت عقب سقوط النظام، والتي كانت توحي بعزم الكيان على التوسع، وربما الاقتراب من العاصمة. الذي حدث أن القيادة الجديدة تحلت بضبط نفس نادر، على الرغم من الحملات والاتهامات، التي سيقت خاصة من المرتبطين بالمحور الإيراني، الذين كانوا يروجون لكون هذه القيادة الجديدة هي عميلة للغرب. فحوى تصريحات الشرع ورفاقه كان، أن الوقت غير مناسب حالياً لفتح جبهة قتال جديد، لاسيما مع الكيان، وأن البلاد، التي لا تكاد تتوفر فيها موارد كافية لدفع أبسط استحقاقات الحياة، لا يمكن أن تندفع في أتون صراع قد يجهز عليها بشكل نهائي. لا شيء يمكن أن يفسر هذه التحولات وهذا الانتقال البراغماتي أكثر من فكرة «ما بعد الإسلاموية»، التي سبق إلى التنظير حولها باحثون في مقدمتهم الأمريكي من أصل إيراني آصف بيات. خلاصة هذه الفكرة هي أن الحركات الإسلامية، ومهما أظهرت من تشدد في الفترة التي تسبق اقترابها من السلطة، إلا أنها تجد نفسها مجبرة على إجراء تعديلات على برنامجها وإعادة ترتيب أولوياتها حينما تصبح جزءاً من السلطة السياسية.
الموضوع الفلسطيني كان كثيراً ما يطرح في هذا السياق إبان التغييرات السياسية في فترة ما كان يعرف بـ»الربيع العربي»، وتصدر الإسلاميين المشهد في أكثر من بلد. المفارقة كانت أن أولئك، الذين كانت أدبياتهم تركز بشكل مكثف على موضوع الاحتلال الإسرائيلي لأرض فلسطين، وتتهم كل قيادات المنطقة بالخذلان والتواطؤ، ما لبثوا أن قاموا بتعديل خطابهم بشكل جعله أقرب للخطاب الرسمي العربي الكلاسيكي. في الحقيقة، فإن هذا ليس أمراً خاصاً بالإسلاميين، وإنما هو براغماتية يمكن أن نجد صداها بين كل التيارات، فكثير من الأحزاب اليسارية، التي بنت خطابها على دغدغة مشاعر البسطاء والفقراء ووعدهم بحياة أفضل وبانتقال سريع إلى الرفاه، ما لبثت أن تحولت للرأسمالية الجشعة والاقتصاد النيوليبرالي، بعد فوزها بالانتخابات ووصولها إلى السلطة. لا شك أن بإمكان إظهار الاعتدال أن يكسب النظام المتشكل مزيداً من الأصدقاء والحلفاء، إلى جانب فوائده الداخلية بتقليله أعداد المتضررين من وجوده، إلا أن للإسراف في القفز على الإسلاموية مخاطره أيضاً، فهو قد يقود إلى تصدع البنية الداخلية الصلبة للنظام، والمتأسسة على إسلاميين جهاديين يؤمن بعضهم بأن في الوصول إلى السلطة مع التنكر لأحكام الإسلام خيانة. يمكن لهذا أن يقود أيضاً للدخول في صراع من الأجنحة المقربة من تنظيم «الدولة»، تلك التي قد لا تتردد في وضع الحكام الجدد على قائمة أعدائها.
كاتب سوداني
- القدس العربي