بعد عشرين عاما إلا نيفا، ما زالت ملامحه لم تختف بعد. سحنته البيضاء ظلت كما هي، عيناه الشهلاوان ينطان نزقا وفطنة وبصيرة. وبطربوشه الدائري، الذي يقيه حرارة شمس أكدال في الرباط الصاهدة، يمشي الهوينى على قارعة شارع النخيل، وأمامه دار الإذاعة والتلفزيون. إنه أستاذ علم البلاغة المحاضر في جامعة محمد الخامس كلية الآداب. في سنواتي الأولى، في الجامعة، كان الدرس البلاغي، خصوصا عند البلاغيين العرب، يخيفني كثيرا، ويأتيني صعبا كأنني أتناول الشوك بفمي.
فعبد الجليل ناظم كان له الفضل الكبير في انفتاحي الكلي على هذا العلم الوسيم والجميل. كنا في المرحلة الثانوية نحفظ دروس علم البلاغة عن ظهر قلب فقط، دون وعي حقيقي بخطورة هذه المادة المطواعة، وبلا ضفاف. ولعل الدرس البلاغي عند ناظم، ومن خصوصياته المسلمة، كان لا يفارق البتة الطريقة الكلاسيكية في التدريس، ألا وهي، السبورة والقلم. فكانت تنهال علينا الجمل كصيب من السماء فنقوم بعملية التبويب؛ ما يصلح أن يكون مجازا، وما يصلح أن يكون مجازا مرسلا، وما يصلح أن يكون كناية وهكذا؛ كأننا نجمع قطع الغيار.
إن اللقاء في أكدال كان محض صدفة، وكان ذلك أمام الباب الكبير لمركز دراسات اللغة العربية، بالتوهج نفسه، وبالبصيرة ذاتها، كانت أسئلته محاطة بالبلاغة، وتدفع نحو التفلسف؛ لأن العمر تقدم نحو الانحدار السرمدي والفلسفي.
كيف يمكنك أن تعيش خارج هذا الزمن؟ ونحن الذين ألفنا الماء المالح كالأسماك.
هل نحيا بالبلاغة وحدها؟ أم ببلاغة الفلسفة؟
صحيح أن البلاغة العربية، زهاء ثمانية قرون، ظلت على الرفوف. تنتظر من يمسح عنها غبار الإهمال. ولعل مع رومان جاكبسون استطاعت الريتوريكا أن تتنفس الأوكسجين، وتخرج إلى الشارع وتصافح الناس، وأن تضع على جسدها أغلى البارفانات، وترقص في الملاهي الليلية.. وأن تأخذ نفسا تحت جسر ميرابو. مع رومان جاكبسون اكتشفت أن للبلاغة صوتا خارج اللغة، فتعانق الصور، والإعلانات، والإشهارات، والسينما، والمسرح، والتشكيل، والنحت، والحياة اليومية. وفي مصاف ذلك كان ناظم ينظر إلى هذا الزمن البلاغي من منظور معاصر؛ إنه زمن الذكاء الاصطناعي، وتشات، وفيسبوك، وإنستغرام. ما باتت البلاغة في الخطاب قاصرة على المجاز وحده، بل اخترقت جميع التواصلات العرضانية المبنية على الصورة والإضاءة أيضا.
كنت قد اقترحت على الأستاذ ناظم مقترحا ميْسمه الكيفية التي تمكننا، في نظري، الخروج عن هذا الزمن الفيزيقي ـ الدائري، ولعل ما قاله هنري ميشونيك، عن الإيقاع الشعري، كان صائبا إلى حد كبير؛ الإيقاع هو الدال الأكبر، فالوزن الشعري، مثلا، هو جزء من الإيقاع، وما نقوم به في اليوم هو جزء من الإيقاع، بل ما نكتبه، وما نفكر فيه، وما نسعى إليه، وما نحلم به، هو جزء من بحر هذا الإيقاع. فهذا الأخير هو طرف من ذواتنا. إن ما أفرزه الزمن المعاصر هو أنه استطاع إيداع وسائله وتقنياته في دوائرَ إيقاعية، حتى نستجيب، نحن، تلقائيا لما يلبي حاجاتنا النفسية.
من منا يستطيع أن يبقى دون أن يتصفح غوغل، أو فايسبوك، أو أن يسأل الذكاء الاصطناعي عن البحث في موضوع معين، كل ذلك ضفيرته السرعة، والبحث عن المعلومة في ثوان معدودات. بالموازاة أضحى ذلك إيقاعا يوميا؛ ما أثر بشكل سلبي على تلقي المعلومة. فالمتصفح لغوغل يدرك، مسبقا، أن بحثه مقترن بالزمن السريع، والفياض بالسرعة التي تقاس بالضوء. لذا فالقراءة لن تنجو، هي الأخرى، من هذا الفتك الذي يزحف في العتمة.
إيقاعيا، لن نعثر مستقبلا، بل من المستحيل، عن متصفح يأخذ وقته في تدبر، وتأمل المعارف التي تنهال عليه؛ لأن ذلك مقترن، جدلا، بالزمن المتسارع. فقراءة الكتاب من أهم شروطها الإنصات إلى إيقاع الذات في تتبع بناء الأفكار، وفسحة للخيال كي يسافر إلى عوالمه البهية. وفي السياق ذاته، وبمعزل عن الزمن، يأخذ القارئ حصانه المجنح ليحوم على أرخبيلات عائمة وسط المعرفة والثقافة، وأن يعطي لذاته تذوق النص ولذته. فهذه الأخيرة، كما يقول ناظم، مرتبطة بالبلاغة، بما هي الأخرى أشد ارتباطا بالإيجاز، والترميز، والتلميح، والتضمين. فالارتباط بين الدال والمدلول في اللغة، مع أنطون تشيخوف، لم يعد درسا لسانيا سوسيريا، بل بالأحرى أصبح درسا بلاغيا، فإذا كان هذا الترابط يشمل المجاز بنوعيه، فمع تشيخوف أصبح التضمين والتلميح يوحيان إلى أشياء تفهم من سياق الخطاب، وهي بذلك ظاهرة محض بلاغية. ففي قصة «السيدة صاحبة الكلب»، افتتح تشيخوف خطابه السردي القصصي بـ» قيل إن وجها جديدا قد شوهد على المرسى؛ سيدة ومعها كلب صغير»، فالجملة ذات إيقاع عال من التلميح والتركيز والإيحاء. فالجملة الافتتاحية أحالتني مباشرة على أفلام سباغيتي الهوليودية، عندما يحل البطل ضيفا على قرية خالية، إلا من مترددين منتشرين على كراسي المقهى، وهم يتبادلون النظرات فيكسر الغريب الرتابة المقيتة التي يعيشها أهل هذه القرية. إن الدلالة الإيحائية تطوي صورا بلاغية حية، تغني الخطاب اللغوي عند أنطوان تشيخوف.
لذا، نعود ونقول ما قاله ميشونيك إن الإيقاع هو الدال الأكبر؛ فإيقاع الهاتف النقال هو غيره إيقاع الكتاب، وهكذا؛ لأن الدال يختلف في كلا الوسطين. فالهاتف يؤسس للمعرفة السطحية السريعة، بينما الكتاب يغني التأمل والتدبر وعدم الاندفاع وراء البهارات الفانية.
كاتب مغربي
- القدس العربي