إن اتساع نطاق الحرب في سوريا وطول أمدها وحجم الأضرار الهائلة الناجمة عنها، سينعكس بشكل تلقائي بتعدد كبير في أهداف ومراحل أي استراتيجية سيتم وضعها لإعادة إعمار البلاد وتحقيق التنمية المستدامة. ولأن حجم التمويل اللازم لإنجاز تلك الاستراتيجية هائل بالنسبة للقدرات الوطنية، ولأسباب أخرى موضوعية، فقد أصبح بديهياً ضرورة وقطعية وجود أطراف خارجية في عملية إعادة الإعمار في جميع مراحلها، إلى جانب الأطراف الداخلية الموجودة والمؤثرة بحكم الواقع. تعدد وتنوع الأطراف الداخلية والخارجية في هذه العملية في سوريا سيولد بالتأكيد تحديات جمَّة، تتعلق بالتنسيق والمسؤولية والفعالية وتوازن المصالح، في مختلف النواحي الإدارية والمالية والقانونية، وكذلك السياسية بالطبع، سواء في مرحلة التخطيط أو في مراحل اتخاذ القرارات والتنفيذ، وكذلك في عملية المراقبة والتقييم.
وإذا كان بديهياً وضرورياً العمل على إيجاد جهة وطنية واحدة تتصدى بصورة رسمية لتلك المهام، وهنا يمكن اقتراح إعادة تأهيل هيئة تخطيط الدولة والتعاون الدولي الموجودة أصلاً ضمن المؤسسات السورية الرسمية، فإن الحراك العربي والإقليمي والدولي المستمر لدعم السلطة الجديدة، وفي ظل نتائج الاجتماع الأخير في الرياض وما هو مخطط لمؤتمر بروكسل القادم، يجعل من الموضوعية التفكير بالدعوة لوجود جهة دولية ذات شخصية اعتبارية فوق حكومية تشارك الجهة الوطنية أعمالها، وتدعمها، وتقوم بتقييم إنجازاتها، بحيث تؤول عملية إعادة الإعمار في سوريا إلى تعاون مؤسساتي عضوي وطني ودولي، سيساعد في تحويل التحديات الناتجة عن تعدد الأطراف إلى شراكات حقيقية طويلة الأمد.
فعلى المستوى الداخلي: وللوصول إلى توزيع متناسب للموارد المسخّرة لمشاريع إعادة الإعمار على مختلف أنحاء البلاد، ومجتمعاته المحلية، وفق مبادئ العدالة والتوازن والاستخدام الأمثل لها، لا بد من إيجاد آلية عمل وطنية تشاركية بناءة وشفافة بين الجهة الوطنية المسؤولة رسمياً عن وضع وتنفيذ الاستراتيجية الوطنية تلك وعدد من الأطراف الداخلية الفاعلة من أصحاب المصالح. وهؤلاء ينقسمون -واقعياً- إلى أطراف مساعدة وأخرى معرقلة للسياسات العامة التي تتوازى مع تنفيذ الاستراتيجية الوطنية لإعادة الإعمار والتنمية، سواء منها تلك التي تستند إلى مجتمع السلم كمؤسسات المجتمع المدني من الأحزاب والنقابات والروابط المهنية، أو أصحاب الفعاليات الاقتصادية من الصناعيين ورجال الأعمال. وكذلك الأطراف التي تستند في وجودها ودورها ومصالحها إلى حالة الصراع السابق من بقايا الميليشيات العسكرية المدعومة خارجياً، أو تلك الأطراف التي برزت في الصراع كبعض القبائل والعشائر، وكذلك العديد من المنظمات ذات الصبغة المدنية والإنسانية، والأخطر شبكات الانتفاع غير المشروع، وهؤلاء جميعاً ممن يشعرون أنهم سيتضررون ويفقدون المال والنفوذ والسطوة مع السلام، إضافة إلى أطراف أخرى متعارضة في معتقداتها السياسية وتوجهاتها الاجتماعية ومصالحها الاقتصادية. وهنا تأتي أهمية العمل على الأطراف الداخلية بصورة منفتحة سياسياً وإدارياً، عبر توازن محكم بين احترام حقوق الإنسان والحريات العامة وفرض سيادة القانون، بهدف حشد جهودها بصورة جماعية في إطار ديمقراطي يدعم خطط تحقيق الأمن والاستقرار الداخلي، وتطبيق مبادئ ومعايير الحكم الرشيد، ولا سيما منها ما يتعلق بالمشاركة في بناء المؤسسات ومساءلة السلطة.
وهنا يبرز تحدٍ خطير متمثل بمدى شمولية عملية إعادة الإعمار للجغرافيا السورية، حيث سيؤدي الاقتصار على دعم مناطق وأطراف معينة دون أخرى، إلى استمرار وجود فجوات خطيرة قد تبقي على مسببات الصراع، وتكون مثاراً لممارسة أشكال من العنف على نطاق ضيق أو واسع ذي أثر كبير على التشاركية الداخلية والخارجية في مشروع إعادة الإعمار وإحلال السلام. لذلك ينبغي على الحكومة التركيز بصورة حثيثة على مواجهة الفقر المنتشر في مختلف أنحاء البلاد، وإبراز جهودها في العمل على تأمين العدالة في توزيع الثروة الوطنية، والتأكيد على اللامركزية في عملية إعادة الإعمار، بمعنى بدء تصميم عملياتها من الأسفل والقاعدة الواسعة القريبة من الأرض، ومراعاة الحساسيات الاجتماعية والسياسية الناتجة عن سنوات الحرب، بما يؤدي إلى فرض الشرعية الحكومية من خلال توازن فرص العمل والرفاه الاقتصادي والعدالة وفق تصورات مختلفة للمشاركين السابقين في النزاع، دون التنازل عن استراتيجية تنمية متوازنة وفق مبدأ مردودية الإنفاق الاقتصادية على المستوى الوطني، وبما يؤدي إلى اندماج جميع الشرائح والفئات في عملية إعادة الإعمار وشعورهم العام بمنافعها، والذي سيعزز الهوية الوطنية ويدعم النظام السياسي الجديد ككل.
أما على المستوى الخارجي: ومع وجودٍ تحدٍ سياسي مستمرٍ وضاغط بخصوص العمل بصورة متوازنة وعدم الانجرار وراء أي استقطاب جيوسياسي، يؤدي إلى ربط عملية إعادة الإعمار بهوية أو محور سياسي إقليمي أو دولي معين في مواجهة استقطاب آخر، ينبغي العمل على بحث الجدوى الاقتصادية والمخرجات الناتجة عن أية اتفاقات ثنائية بناءً على المصالح الوطنية. وفيما يتعلق بإمكانية وجود طرف خارجي شريك لإعادة الإعمار، فإن العمل على إقامة صندوق دولي لإعادة إعمار سوريا من قبل الدول الداعمة هو الصيغة الأكثر قبولاً، والذي يعتبر تحقيقه وإنجازه فرصة سانحة للمشاركة المركَّزة الجادة والفعالة، ويعطي خيارات تمويل سريعة بعيدة عن التسيس والعقوبات.
إن العمل مع الأطراف الخارجية المهتمة بدعم إعادة إعمار البلاد والمساهمة في تنميتها يمكن أن تكون متعددة الجهات والصيغ، كالدول التي تقدم الدعم الثنائي المباشر وفق اتفاقات وقواعد عمل واضحة، وكذلك بالنسبة للتعاون مع برامج الأمم المتحدة ووكالاتها التي تهتم بالواقع الغذائي والإنماء القطاعي والحوكمة المالية، ولا سيما البنك الدولي بمؤسستيه مؤسسة التمويل الدولية التي يمكن أن تلعب دوراً مهماً في دعم المشاريع الإنتاجية الخاصة الصغيرة والمتوسطة عبر التمويل الرأسمالي المباشر، وتمنح القروض والمشورة اللازمة لدعم التحول إلى الاقتصاد الحر بالتعاون بين الحكومة والقطاع الخاص، وكذلك البنك الدولي للإنشاء والتعمير الذي يمكن أن يُسهم في زيادة فرص الاستثمار الأجنبي الفعال، ودخول البنوك والشركات الدولية. ومن شأن كل ذلك إلى جانب تأمين التمويل والخبرات اللازمة التي هي غير متوفرة ضمن المقدرات الذاتية للبلاد، فإنها ستعطي لعملية إعادة الإعمار وتحقيق التنمية تشاركية دولية لها فوائد وانعكاسات سياسية طويلة الأمد، بربط المصالح الوطنية بأخرى دولية في السير قُدماً نحو إنهاء تام للصراع وبواعثه الخارجية وترسيخ السلام الوطني ذاته.
وهنا يمكن أن نختم بأن مواجهة كل هذه التحديات والنجاح في التعامل مع الأطراف المختلفة الفاعلة والمؤثرة فيها، سيؤدي بطبيعة الحال إلى تحويل الاستراتيجية الوطنية لإعادة الإعمار إلى مداخل لاستراتيجيات وطنية سياسية داخلية وخارجية عنوانها التوازن والشمول، ويؤدي إلى خلق وتطوير قيادات سورية في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والعمل على تطوير القدرات الوطنية بما فيها المالية لتأمين الاستمرارية في تنفيذها بالاعتماد على القدرات الوطنية أو التي تحفظ سلامة البلاد الداخلية وحسن علاقاتها السياسية مع الخارج، والتي يجب أن تكون مبنية على تشاركية حقيقية في التمويل والعمل والإنجاز وتحقيق المصالح. كما يجب على جميع السوريين أن يعرفوا بأن المساعدات والدعم الخارجي لا يمكن أن يبق مستمراً إلى أمدٍ بعيد، ومن هنا فإن العمل على تحويل البلاد إلى منتجة، وقادرة مستقبلاً على الاعتماد التام على مواردها الذاتية يجب أن يكون الهدف الأكبر لاستراتيجية إعادة الإعمار وتحقيق التنمية في جميع مراحلها.
- تلفزيون سوريا