لقاء السلم الأهلي في حمص محاولات مُتأرجحة بين الأمل والتوجّس

منى رافع

    • تعيشُ مدينة حمص احتفالات متواصلة بسقوط النظام، وبعودة بعض المهجَّرين بعد غياب طويل. رغم الفرح والتفاؤل، تسود المدينة «فوضى منظمة» تشمل غياب شرطة المرور وازدحام الشوارع وعدم الالتزام بقوانين السير، بالإضافة لانتشار البسطات والبائعين المتجولين في شوارعها الرئيسية. التعاملُ مع الاحتقان الطائفي يشبه المشي في حقل ألغام، حيث تتباين الروايات وتكثر المظلوميات.

      بعد سقوط النظام، كنتُ وآخرين نترقّبُ الإعلانات عن فعاليات للمشاركة فيها، وعند قراءتي عن اجتماع للسلم الأهلي في 15 كانون الأول (ديسمبر)، عقدت العزم على حضوره. وقد أعلنت عن هذا الاجتماع ونظّمته «مجموعة السلم الأهلي» التي تضم مدنيين معارضين من مختلف الطوائف والانتماءات، وأكّدت ديما العلي، إحدى المنسقات، أن المجموعة تهتم بالعدالة والحريات، وأن الاجتماع جاء بسبب الوضع الحسّاس في حمص وأهمية الاستجابة السريعة لتخفيف الاحتقان.

      كان من المفاجئ أن يُعقَد الاجتماع في فندق السفير، الذي كان يشبه الثكنة العسكرية سابقاً، ولكن هذه المرة، دخلنا الفندق لنجد في استقبالنا ابتسامات وجوه المنظمين السعيدة والمترقّبة. كان الحضور من مُختلَف الأعمار والانتماءات، لكن الفئة الشبابية كانت قليلة جداً مقارنة بغلبة النخبة الأكاديمية، ودون وجود ممثلين عن السلطة الجديدة. علمُ الثورة وصورة الساعة الجديدة كانا أول ما رأيناه عند الدخول.

      حضر الاجتماع  حوالي 150 شخصاً، وكان عبارة عن جلسة حوارية تناولت مواضيع مثل تعزيز السلم الأهلي والأمان المجتمعي ودور الشباب والنساء وبناء دولة المواطنة. جاء هذا اللقاء بعد أن شهدت مدينة حمص، بعد سقوط النظام بفترة وجيزة، حالات شبه يومية من الخطف أو القتل في الأحياء ذات الكثافة العلوية، مثل النزهة والحضارة والزهرة ووادي الذهب. كثيرٌ من هذه الحوادث تبدو غامضة أو ذات طابع ثأري، وقد استمرّت رغم عملية تمشيط الأحياء المذكورة التي قامت بها قوات تابعة لإدارة العمليات العسكرية، والتي انتهت بالقبض على مئات الأفراد وإقامة حواجز في داخل بعض هذه الأحياء ومداخلها، وإغلاق بعضها الآخر بمتاريس لفصلها عن بعضها. كل ذلك، جعل أصابع الاتهام تتجه نحو قوات الإدارة نفسها، رغم نفي الأخيرة صلتها بتلك الحوادث. تقول بنان، وهي موظفة ثلاثينية تسكن مع أسرتها في منطقة الزهرة: «كل ما يحدث يبدو غامضاً وغير مفهوم، مَن يقوم بعمليات الخطف والقتل إن لم تكن قوات الهيئة؟ ولماذا لا يجمعون السلاح من أيدي الجميع وليس من أيدينا فقط؟ ولماذا لا يسمحون بتشكيل لجان أهلية مُشترَكة لحماية المدنيين؟»؛ لكن الأجوبة على تلك الأسئلة تبدو صعبة، وغالباً لن تعجب من يسألها.

      «تم توجيه دعوات حضور الاجتماع إلى أشخاص لديهم تاريخ نضالي، من معتقلين سابقين ووجهاء، وفئات متنوعة من الذكور والإناث ممن يهتمون بهويتهم السورية»، بحسب ديما علي. كما ضمَّ الاجتماع ممثلين عن منظمة الخوذ البيضاء، وتم توجيه الدعوة للمحافظ والإدارة الجديدة لكنهم لم يلبوا الدعوة.

      «الهوية» والإرث الثقيل

      بدأ الاجتماع بالمحور الأول حسب جدول الأعمال الذي وُزِّعَ على كل الحاضرين، والذي يتحدث عن «تعزيز السلم الأهلي، الشفافية، لغة الخطاب»، تحدث خلاله النائب السابق في مجلس الشعب، شحادة ميهوب، عن أن «التحديات التي تواجهها حمص مرتبطة بالإرث الثقيل الذي خلّفه النظام البائد. وبناء على كل ذلك لا بدّ من التركيز على القيم السورية التي توحدنا كسوريين مثل السعي للكرامة والحرية، ورفض جميع أشكال الثأر الشخصي الذي يؤدي إلى تعميق الجراح».

      كما تحدّثت لينا الوفائي ضمن هذا المحور لتؤكد أنّ «الأساس هو تشكيل هوية وطنية، حيث أن النظام السابق كان قد سرق هوية سوريا، أما الآن فنحن نستعيد هويتنا السورية، كما أننا نحتاج لتشكيل هويتنا الجامعة، ولا يوجد تَعارُض بين هويتنا الفرعية التي تخص محيطنا الضيق وبين هويتنا السورية. كذلك بحاجة إلى عقد اجتماعي جديد، وكتابة دستور يعبر عن كل السوريين».

      في فقرة النقاش المفتوح، سأل أحد الحضور إن تمّت دعوة أحد من الهيئة (يقصد الإدارة الجديدة في دمشق)، لأنه يجب «شرعنة» هذه الاجتماعات بوجودهم. كما أن محامياً من الحاضرين، والذي عَرَّفَ عن نفسه بأن «النظام المجرم قتل والده»، قال إننا «يمكن أن نخطب هنا لساعات، لكن لماذا القضاء متوقف منذ خمسين يوماً؟ وكيف يحصل أنَّ دولة بلا شرطة منذ خمسين يوماً؟»، وقال إننا «نحتاج لإجراءات على الأرض» وإن «هناك أحداثاً مهمة حصلت مؤخراً أولها تشكيل مجلس علوي لا يمثلنا» بحسب قوله. أضاف أيضاً أن «الخطاب الطائفي يشكل جريمة»، وأنه «خائف على أطفاله من تعديل المناهج». تابع الرجل وهو يصرخ بأنه: «يجب أن نقف أمام المرآة ونحاكم أنفسنا أولاً».

      وكانت ملصقات قد انتشرت في جميع أحياء حمص تدعو لارتداء اللباس الشرعي، بالإضافة إلى ملصقات أخرى تُحذّر من سب الذات الإلهية وما يترتب عنها، كما أن الخوف جعل بعض النساء العلويات يرتدين الحجاب، أو يرتدين قبعة ووشاحاً لإخفاء شعورهنّ. تقول بنان وهي تغطي شعرها بالقبعة إن عناصر الحواجز في حيهم يحسبون زوجها سنيّاً لأن بطاقة هويته تقول إنه من ريف دمشق، وإنها عندما كانت جالسة إلى جواره في السيارة وشعرها ظاهر، تَوجّه أحد العناصر بالسؤال إلى زوجها على الحاجز: «مين هالحريمة اللي معك؟»، ما جعلها ترتدي ما يغطي رأسها تفادياً لأي مشكلة. كانت تضع القبعة والوشاح لتغطي شعرها بخجل، وقالت إنّ بعض السيدات لاموها على قيامها بذلك لكنها تريد السلامة ببساطة.

      حمص وين رايحة؟

      المحور التالي للاجتماع كان حول الأمان المجتمعي؛ نزعُ السلاح ومعالجة الانتهاكات. قال المهندس أمير الملحم إن «امتلاك السلاح من شأنه أن يهدد السلم الأهلي، وبأنه من المفروض جمع السلاح من المجموعات والأفراد بحيث يكون ذلك بطريقة ترغيبية». وقال المحامي أسامة جندي في مداخلته: «يجب علينا كسوريين أن نُدرك حساسية المرحلة في سوريا، وأن نذهب مجتمعين لبناء الدولة الوطنية لكي يشعر الناس أنها دولتهم، وبأنه يجب الحفاظ على بنية الدولة».

      أما المهندس تمام السهلة فقال إننا «نختبئ خلف إصبعنا إذا لم نقل إن هناك توزيعاً طائفياً في الأحياء. يجب مشاركة الأهالي جميعاً من كل الطوائف من أجل سحب السلاح، وأن نعترف بأنه يتم السؤال على الحواجز: إنت سني أو علوي؟».

      وبالفعل كثيراً ما يقوم عناصر الحواجز في حمص بسؤال الناس عن طوائفهم، وقد وقعت حادثة في حمص حينما مرّ بعض الشبان من أحد الأحياء المختلطة على حاجز وتم سؤالهم عن طائفتهم فقالوا إنهم من السنّة، وعندما نظر العنصر إلى هوياتهم عرف أنهم علويون، فتعرضوا للضرب قبل أن يُترَكوا في حالهم.

      أضاف أحد الحاضرين مشاركاً في النقاش ضمن هذا المحور: «يجب ألا نسكت على خطأ من عناصر محسوبة على الثورة، ويجب التعويل على السلطة الجديدة لتعزيز السلم الأهلي لأن المجتمع متعب، كما أن هناك مسألة عدم التجانس في القوى الأمنية، وأنه من الخطورة أن يتم تسريح عمال وموظفين قبل أن يجدوا لهم منفذاً يسترزقون منه».

      وفي لقائه مع الجمهورية.نت قال الصحفي أندريه ديب، وهو مدير مكتب سوريا الحدث في حمص، إن «هذه الجلسات ضرورية في حمص، ويجب على الإدارة الجديدة أن تكون حاضرة في هذه الاجتماعات ليكونوا على ‘خلطة بالناس’ وكل فئات المجتمع الحمصي». وقالت المحامية مها شلاش للجمهورية.نت أيضاً إنها «حضرت عن طريق تسجيل اسمها على رابط الدعوة للاجتماع»، وإنّ «الذي جذبها للحضور عنوان اللقاء». وأضافت المحامية سعاد الكردي، وهي أيضاً من اللواتي حضرنَ عن طريق رابط الدعوة: «نريد سوريا لكل السوريين، نحتاج أن نكون يداً واحدة، وأن نتعاون لنبني سوريا، وأن نضع القوانين بأيدينا، وأن نُشارك ببناء الوطن لأنه ‘تعبنا كتير’».

      أما عيسى بدران، وهو مدير جمعية كريم الخيرية، فقد قال لنا في لقاء إنّ هناك «تشابكاً» في الآراء بين أهالي المدينة: «في هذا الحوار أُحب أن أكون مستمعاً كي أعرف حمص ‘وين رايحة’، وهل الناس الموجودون قادرون أن يؤثروا بأفكارهم على الواقع. الكلمة هي التي تؤثر، لأنها أقوى من الرصاصة».

      عبد المنعم صطيف وندى الراشد كانا حاضرين كممثلين عن الخوذ البيضاء في الاجتماع، وهما حمصيان مُهجَّران إلى إدلب منذ سنوات. قال عبد المنعم صطيف للجمهورية.نت إنه «يجب أن نبقى يداً واحدة»، وإنهم «اجتمعوا مع فرق تطوعية من كل الطوائف»، وإنه هنا «لأنه يريد أن يرى ما هو الإطار الذي ستعمل عليه مجموعة السلم الأهلي»، يريد أن يرى ما سيُطرَح، وما هي النتائج التي ستصدر عنهم، وقال إنه «على يقين بأن العدالة ستتحقق».

      وفي كلمة وجَّهتها ندى الشيخ عثمان للحاضرين، وهي من المنسقين للّقاء وناشطة مدنية ومعتقلة سابقة، قالت: «نحن هنا لأننا نؤمن أن ما يجمعنا أكثر مما يفرقنا، وأنه لا بد أن نعمل بصدق وإخلاص كي لا تتكرر المآسي».

      الجمهورية.نت التقت مطر حسين، وهو طالب في المعهد العالي للفنون المسرحية وأحد الأعضاء المؤسسين لمجموعة السلم الأهلي في حمص، حيث قال إنه «لا يوجد أي صوت شبابي واضح، والخسارة المشتركة لهذا الجيل -يقصد جيل الألفينات- هي فقدان الطفولة». وأضاف: «سقطت صورة الشباب التي رسمها النظام، والآن صار بإمكان الناس رؤية إعلان لجلسة حوارية»، مؤكداً أن الاجتماع جاء نتيجة تصوّر لكيفية تعزيز السلم الأهلي للمدينة التي «يجب أن يكون بين أهلها جسور تواصل».

      الصبر، التريُّث، الوقت

      جاءت مداخلة الدكتور لامع الدروبي مختلفة عن البقية، إذ دعا أهالي حمص من كل المكونات إلى التحلي بالصبر قليلاً: «نحتاج للصبر حتى نصل إلى السلم الأهلي الذي ننتظره جميعاً»، وأضاف أن «حالة حقن الدماء التي حصلت في حمص أبهرت العالم، لذلك يجب أن ننظر إلى الجزء الممتلئ من الكأس ونبارك للقيادة الجديدة». وتابع قائلاً عن الأمن العام: «لم يَرِد أي اتصال للأمن العام ولم يستجيبوا له، وما يدهشني أن هذه الحالة وليدة شهر، وهنا أقف وأدعو وأقول إن سوريا لجميع السوريين، وهذا ما لمسناه من النظام الجديد، لذا لنتريث قليلاً ونعطي الإدارة الجديدة بعض الوقت».

      تحدثت الجمهورية.نت أيضاً إلى محمد أحمد، مسؤول تجمُّع العمل الشبابي في حمص، والتجمّع كما وصفه هو حركة سلمية ميدانية. قال أحمد إن «لدينا مشكلة في موضوع الوعي»، وإن «الشباب قبل الثامن من ديسمبر كان همهم الأول السفر»، كما تحدث عن تخوفه من جيش كامل من العاطلين عن العمل.

      كذلك تحدث المحامي عاصم الملحم قائلاً إن «مفهوم المواطنة حديث النشأة، والسلطات الحالية لديها شرعية ثورية جاءت من دموع الأمهات والمعتقلين والثكالى والشهداء، ومن هذا المنطلق لا يحق لها أن تُصدر قرارات دون استشارة المجتمع الأهلي»، مؤكداً أن «المجتمع السوري قلبَ صفحة النظام، لكنه بحاجة مدِّ يد من الإدارة الجديدة».

      في نهاية الاجتماع، سمعتُ في الخارج رجلاً يصرخ، وقد تَجمَّعَ الناس حوله ليعرفوا ما القصة. كان الرجل يصرخ بعدة أمور منها اتهامه للحاضرين بأنهم «ثورة مضادة»، قائلاً إنه لولا شباب ردع العدوان «ما كنا هون»، و«نحن عم ندمر بلدنا بهالطريقة». حاول الناس التحاور معه، لكنه لم يهدأ وأدار ظهره ومشى بعيداً.

      لمحتُ رجلاً يُدخّن ويتابع ما يحدث. سألته عن رأيه بالاجتماع بشكل عام، فقال إن «البلد تحتاج أن نبنيها برموش العين»، وإن «ما حصل نصرٌ لكل السوريين»، مضيفاً أن «الشيء الذي نطمح له هو توزيع عادل للثروة، نريد دولة مؤسساتية، وبرلماناً حراً وحقيقياً بغض النظر عمّن ينجح في صندوق الاقتراع». قال أيضاً إنه يتفق إلى حدٍّ ما مع الشخص الذي كان يصرخ، فليس من المعقول خلال شهر أن ننتقل من حالة إلى حالة، مضيفاً أن جزءاً من الحاضرين كانوا مع النظام، وكلُّ منهم حاضرٌ و«شيطانه تحت باطه» حسب تعبيره: «نحن بدنا خبز وسلم وحرية، وأهم شيء هو تأمين العدالة للناس».

      التعطُّش لإعلاء الصوت

      يمكن بسهولة لحظُ رغبة الجميع بالتحدّث وتعطُّشهم لإيصال أصواتهم خلال الاجتماع، الأمر الذي ليس مُستغرَباً بطبيعة الحال؛ لأول مرة منذ سنوات يُعقَد اجتماعٌ في حمص حول مواضيع هامة تتطلب حضور ممثلين عن السلطات للمشاركة الفعالة مع المجتمع الأهلي. تتبادر أسئلة حول فاعلية هذه الاجتماعات ومدى تمثيلها للناس وتأثيرها على الأرض، وحول مفهوم «السلم الأهلي» وأهميته لبناء الدولة التي تحتاج إلى الأمان والاستقرار والانتعاش الاقتصادي والديمقراطية.

      بالنظر إلى تجارب شعوب أخرى عاشت ظروفاً مشابهة لظروفنا، مثل رواندا، نجد أنها احتاجت إلى عشر سنوات للوصول إلى حالة الاستقرار الكامل. وحمص اليوم ما زالت تحمل في ذاكرتها ثارات بين أهالي بعض الأحياء؛ الجروح العميقة لم تُشفَ بعد، وهذه عوائق أمام تحقيق السلم الأهلي. تعيش المدينة وضعاً هشّاً هو أقرب للفوضى المُنظَّمة كما ذكرت آنفاً، لكن دون تسلط النظام القديم ومراقبته، ويبدو أن الوقت وحده جدير بحسم النقاط الخلافية ورأب الصدوع الكثيرة بين فئات المجتمع الحمصي.

Next Post

اترك رد

منتدى الرأي للحوار الديمقراطي (يوتيوب)

مارس 2025
س د ن ث أرب خ ج
1234567
891011121314
15161718192021
22232425262728
293031  

Welcome Back!

Login to your account below

Retrieve your password

Please enter your username or email address to reset your password.

Add New Playlist