بانهيار نظام بشار الأسد في سوريا بالشكل الدرامي يكون ما يسمى بالنظام العربي قد طوى آخر صفحة من حقبة تاريخية سياسية ممتدة في عمق التاريخ العربي الحديث، بزخمه الأيديولوجي والثوري والخطابي. وبهذا السقوط للنظام السوري (البعثي) كآخر معاقل النظام العربي القديم، الذي تتصل جذوره بمرحلة الغليان القومي في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، يكون قد مضى من غير رجعة وأصبح في حكم التاريخ، أو تاريخا في مطويات سلسلة الحوادث العربية السياسية، وثوراتها، وتحولات مشروعاتها، التي فشلت في تحقيق حد أدنى مما تبنته من مشروعات بدت طموحة، بما يفوق قدرات دول النظام العربي على تحقيقها، على فرض قابليتها على التطبيق والممارسة على مدى قرن من الزمان.
ودول المشروع العربي أو الحلم العربي للدقة الأدبية لا السياسية، تركزت سياساتها القومية على مركزية القضية الفلسطينية، التي تبدلت مع بدء محادثات السلام مع الكيان الصهيوني في مدريد 1991، يومها كان الموقف العربي في أضعف مراحله السياسية، خارجا من انقسامات حادة عقب حرب الخليج الثانية، ودخول الدول العربية من غير معسكر النظام العربي الممانع، في انتهاج سياسات جريئة إلى العلن، لم يكن التطبيع مع إسرائيل أقلها جرأة.
تشابه البدايات التأسيسية لدول النظام العربي أدى إلى زوالها في ملهاة تاريخية نادرة التكرار، وكانت النهايات هي نتائج البدايات بمنطق التاريخ أو حقائق التطور، التي أتت على النظم في دورتها التاريخية
ولم يكن النظام العربي فاعلا إلا في محيط دوله بعددها المحدود، بوجود أنظمة أكثر كفاءة مهيمنة على مستوى عالمي (النظام العالمي) بسطوتها المطلقة على كوكب الأرض، ونظمها العسكرية والسياسية والاقتصادية، تسيطر عليه وتديره قوى عظمى لا تقترب دول النظام العربي لمنافستها، وبدلا من ذلك آثرت المقاومة الخطابية، والإدانة والشجب للقوى الاستعمارية، التي لا تريد خيرا للعرب. فقد كان للجموح العربي في خطابه السائد تجاوز لحقائق أغفلتها السياسات العسكرية العربية، جعلت نظمها في جمهورياتها العسكرية تعمل على تثبيت ركائز النظم السلطوية، أكثر من سعيها لتحقيق شعاراتها في الحرية والوحدة والاشتراكية. تشابه البدايات التأسيسية لدول النظام العربي أدى إلى زوالها في ملهاة تاريخية نادرة التكرار، وكانت النهايات هي نتائج البدايات بمنطق التاريخ، أو حقائق التطور، التي أتت على النظم في دورتها التاريخية. فدول مثل سوريا والعراق وليبيا، ومن قبلها مصر الناصرية، جعلت مفهوم الدولة العميقة في قبضتها الأمنية تماشيا مع سلطاتها الاستبدادية، فثورات الربيع العربي في 2011 التي بدأت في تونس وليبيا ومصر واليمن والسودان، ثم سوريا، قُمعت معظمها لصالح الدولة العميقة. تعددت رؤى دول مشروع النظام العربي في أفقه السياسي القومي، ما أدى إلى احتدام الصراع بين أنظمة المشروع نفسه، الذي أبقى على السلطة الحاكمة كأساس يسبق المشروع نفسه، ويعلو على أولويات بناء الدولة.
الدولة العربية ظلت إلى وقت قريب مفهوما لا يُعرَّف إلا من خلال عصبيِّة الدولة الخلدونية، أي بتعبير ابن خلدون أنها دول استقرت وتقلص ظلها عن القاصيِّة، آخذة في الاضمحلال كما حلّلها العلاّمة البارز، لتقفز إلى الدولة القومية بنسختها الأوروبية، التي رسم حدودها الاستعمار؛ وما صحبها من مفاهيم ديمقراطية واشتراكية، ولكنها عانت من إفقار نظري، انعكاساً لواقع سياسات غيِّبت المجتمع ليظل النظام الوجه الأقوى في الدولة، أي الحكومة. فإذا ما أخضعت الدولة العربية بنسخها المتعددة للتحليل السياسي، فإن نتائج البحث وحقائقه ستجرد الأطر المزعومة – المؤسسة – لكيانات الحكم العربية، ولا يبقى منها طبقة غير الحاكم والرعية. وفي تركيز المشروع العربي على الدولة، أو السلطة بما تعنيه من الهيمنة على مقدرات الدول، بعيدا عن أي مشاركة من شعوبها زاد من توحش العلاقة بين الدولة وشعبها، وانتهت إلى النهاية التي لم تكن بعيدة عن التوقع، إلا عند الحكام القادة.
إن غالب التيارات الثقافية والسياسية فهمت، وحاولت أن ترسِّخ على مدى استطالة بقاء الحاكم في السلطة مفهوم قوة الدولة (الدولة القوية) في استخدام القانون، وليست دولة القانون وخضوع الدولة بالتالي للقانون. ربما كان العذر في تعسف النخب العربية في وجودها وتشكل بنيتها التحليلية من عناصر مستقلة عن النظم القائمة؛ فهي إما مغيبة ومنفية، أو مدمجة في بنية سلطة النظام السياسي العربي، ووجدت نفسها تدافع عن سياسات أدت إلى بناء دول فاشلة، وتمعن في الهروب من مواجهة النتائج المترتبة عن سياسات شاركت فيها. فالدولة العربية أقرب وصفاً إلى الدولة الفاشلة بمقاييس عالم اليوم من سيادة القانون، والمؤسسية والشفافية والفساد وحقوق الإنسان، وما جاورها من حقوق لم تدخل بعد في نسق تكويناتها. ولم تفلح الدول العربية وأنظمتها على ما تأسست عليه جامعة الدول العربية بدورها المحكوم والمحدود، في إيجاد كيان يستدعي التقدير، فقد تأثرت الجامعة بأهواء سياسات النظم العربية وأصبحت تابعة لا تسهم في القرار العربي، إلا بما تمليه سياسات الواقع العربي، وبانحيازيتها الأيديولوجية تبنت دول منظومة النظام العربي المعسكر الشرقي الاشتراكي (معسكر الشعوب) أيام الحرب الباردة، لينتهي مصيره مفككا عن أوصاله القومية وأحلامه في نظام عالمي تسوده قيم طوباوية، وعلى ما حققه القطب – الاتحاد السوفييتي- الذي راهنت عليها دول النظام العربي من تأثير محدود لم تحقق هذه الدول منه إلا النهايات التي انبثقت عن عيوب في التصميم أثرت على الأداء وعجلت بالسقوط. ولم يجد قادة النظام غير التحول إلى المعسكر الآخر (الأمريكي) وفق شروطه وما يرسمه من سياسات مباشرة في الشرق الأوسط المنطقة الأكثر حساسية، وهذا التداخل في تحول العلاقات كلّف كثيرا، وأحدث تراجعا عن مبادئ وشعارات النظام نفسه، وبينما تراجعت المواقف في السياسة، بقيت قوى النظام العربي قابضة على السلطة، قبل أن تعصف بها شعوبها.
إن صعود التيارات الإسلامية في جمهوريات النظام العربي التي ورثت نظم الحكم انتخابا (مصر، تونس) أو مؤخرا بسياسية الأمر الواقع وقوته في (سوريا) لم تعد تثير الاستغراب. ولأن الفراغ السياسي الذي يعقب سقوط الجمهوريات العسكرية، يقف وراءه تاريخ طويل من القمع والمواجهة ضد هذه التيارات، من دون أن تتبني مشروعا اصطلاحيا سياسيا يتقوم بالمساندة الديمقراطية وحرية التعبير. فكانت نتائج الممارسات في دول المشروع القومي ما يخجل منه المؤرخ في فظاعاته المرتكبة بحق شعوب طالما نادت بتحريرها ورقيها. ولعل هذا التناقض بين الخطاب والممارسة الفعلية المتمثلة في سياسات وإدارة ما جعل من تلك البلدان تتصدر أسوأ القوائم في التنمية والصناعة وحرية والتعبير والفساد، وغيرها من علل متوطنة في جسد المحيط العربي بما ورثه من ماضٍ مثخن بالجراحات. ومع تفسيرات وبعض من التبريرات الرغبوية، التي ترتكن إلى نظرية المؤامرة في إفشال مشروع النظام العربي القومي، دون أن تخضع أهم عوامل الانهيار التي نخرت في بنيتيه غير القابلة للتجديد، إلا في حدود التصورات التي تطيل من عمر السلطة أكثر من مراجعات سياساته إن وجدت. والسقوط الحتمي لنظم استنفدت أغراضها الزمنية لم يكن ليمنعه من السقوط، على الرغم من كل ما استعان به للحيلولة دون ذلك، من استخدام مفرط لقوة القمع التي لا يجيدها غيرها في إدارة الدولة. وكان من الطبيعي أن تنتهي سياسات النظام العربي إلى ركام من الأنقاض شاهدة على مرحلة في التاريخ العربي السياسي راكمت أسباب الفشل والإحباط والهزيمة.
كاتب سوداني
- القدس العربي