شكّل سقوط النظام السوري ضربة قاضية لمشروع الهيمنة الإيرانية على المنطقة في سورية والخليج العربي، ومنع وصول التهديدات الإيرانية لدول مثل السعودية وقطر والكويت والبحرين، ومنع وجود أي أسلحة نوعية تهدّد أراضي دول الخليج انطلاقاً من سورية. سقوط النظام السوري في الثامن من ديسمبر، أفشل كل الخطط الإيرانية لزعزعة استقرار منطقة الخليج والمحيط العربي، لذا وبعد كل ما نعرف عن ذلك وأكثر تخوفاً مما لا نعرفه حتى الآن، يجب على الدول العربية المعنية بالاستقرار في سورية، وعلى رأسها السعودية وقطر ومصر والأردن، الدفع مبكراً نحو استقرار سورية أمنياً، ومساعدة القيادة الجديدة في فرض سيطرتها على كامل الأراضي السورية، والدفع بعجلة إعادة الإعمار دونما إبطاء أو تأجيل؛ حتى تستعيد سورية مكانتها العربية، وتكون الحصن الحصين الذي يمنع أي تمدّد إيراني جديد في المنطقة.
ومتابعة لما تقدّم في الجزء الأول من هذه المقالة، لرصد المصالح الدولية في سورية، نتطرق هنا لدور المملكة العربية السعودية، ومصالحها في سورية، ثم نبيّن دور قطر في نجاح الثورة السورية، ومصالحها المستقبلية في سورية، ولا يمكن أن ننسى دور الولايات المتحدة وإسرائيل وروسيا والتفاعلات الإقليمية والدولية مع الإدارة الجديدة في سورية، وكيف يمكن إدارة مصالحها.
المملكة العربية السعودية
تحظى السعودية بودّ كبير من القيادة السورية الجديدة، وتمثّل ذلك جليّاً في حديث قائد الإدارة السيد أحمد الشرع في مقابلته مع تلفزيون العربية. وهو ما أكّده السيد أسعد الشيباني وزير الخارجية في ردّه على سؤال توني بلير، حين حدّد النموذج السعودي مثالاً تسعى الإدارة الجديدة لتطبيقه في إستراتيجية تطوير سورية الجديدة. والسعودية بدورها لا تضيع الوقت لملء الفراغ الحاصل في علاقة سورية الجديدة بالجوار وبمحيطها العربي، فقد كانت السباقة بزيارة دمشق بعد سقوط النظام من خلال زيارة موفد الديوان الملكي، ليكون أول وفد رسمي يزور سورية، ويلتقي مع القيادة الجديدة. ثم عملت المملكة على عقد اجتماع موسّع في الرياض برئاسة وزير الخارجية السعودي، ضم وزراء الخارجية العرب وعدداً من وزراء الدول الإسلامية، وبحضور وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني، ليكون أول اجتماع رسمي تحضره الإدارة الجديدة. ثم تلا ذلك زيارة وزير الخارجية السعودي إلى دمشق قبل أيام وتوجيهه دعوة للسيد أحمد الشرع لزيارة المملكة حسب ما تناقلته وسائل الإعلام والقنوات الرسمية للإدارة الجديدة. كل تلك الإشارات التي تبعث بها المملكة للمحيط العربي والإقليمي والدولي لسورية لتأكيد حرصها على الدعم الكامل لسورية شعباً وقيادةً لتجاوز المرحلة الصعبة والوصول إلى برّ الأمان.
يدرك السوريون أن موقف العربية السعودية هذا، يمنحهم الكثير من الأمان، ويمنع عنهم أي عوامل خارجية قد تؤثر في استقرار البلاد، بمعنى أوضح: إن وجود العربية السعودية كقوة إقليمية سياسياً واقتصادياً إلى جانب سورية، يمنح الإدارة الجديدة ضمانات كثيرة، وتعني الرعاية والضمان الأمني لسورية، ويمنع أي ملامح لتحركات خارجية تساهم في ثورة مضادة، كما حدث في أماكن ليست بعيدة عن سورية.
العربية السعودية قدّمت نفسها اليوم كحليف قوي للإدارة الجديدة، وهذا يعطي القدرة الكافية للإدارة الجديدة للمضي قدماً في استكمال خطوات التحرير وإسقاط النظام للوصول إلى ملامح مرحلة انتقالية تأخذ بالحسبان كل المخاوف العربية والإقليمية والدولية وتحقق طموحات الشعب السوري الذي ضحّى على مدار السنوات الطويلة بكل ما يملك للوصول إلى لحظة الفرحة العظيمة، ولا أعتقد أن رؤية السيد أحمد الشرع لمستقبل سورية، تختلف عن رؤية أي مواطن سوري في تحقيق العدل والمساواة لجميع أبناء سورية دون تمييز.
مصلحة المملكة اليوم، ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمصلحة سورية من عدة نواحٍ، أهمُّها سقوط الأسد الذي أنهى المشروع الإيراني الذي كان يشكل تهديداً للمصالح السعودية في الداخل والخارج. وباتت رؤية السعودية 2030 للتعامل مع الملفات الخارجية أكثر استقراراً في غياب التصعيد الإيراني في الملف النووي وملف الميليشيات التابعة لها. والتحالف السعودي مع الإدارة الجديدة في سورية، يمنح المملكة أفضلية نفوذ أكبر في العالم الإسلامي والعربي؛ لما يمكن أن يحققه هذا التحالف سياسياً واقتصادياً. وكذلك العلاقة القوية بين المملكة والقيادة الجديدة في سورية، والاتفاقيات والتعهدات التي سيتم الاتفاق عليها خلال زيارة أحمد الشرع إلى السعودية، ستمنح السعودية فرصة أكبر للتعامل مع مصالح حلفائها الذين أعربوا عن مخاوفهم بشأن الحكومة الإسلامية في سورية. وبالمقابل فإن السعودية، من خلال علاقاتها القوية العربية والإقليمية والدولية، تستطيع أن تضمن إعطاء الإدارة الجديدة في سورية الفرصة من أجل استقرار البلاد وبناء سورية وازدهارها، وذلك يضمن عودة سورية بشكل كامل إلى الحضن العربي.
قطر
تبرز قطر كأكبر الرابحين من نجاح عملية “ردع العدوان” بإسقاط النظام في سورية، فهي التي راهنت منذ اليوم الأول على انتصار الثورة السورية، ولم تتخلَّ عن هذا الموقف الثابت حتى في أقصى لحظات التطبيع مع النظام، ولم تتأخر يوماً في دعم نضالات الشعب السوري لتحقيق الحرية والعدالة. لعبت الدوحة دوراً محورياً في دعم الشعب السوري وتطلعاته، حتى في الأوقات التي فقد فيها المجتمع الدولي الأمل في حدوث تغيير إيجابي في سورية. قلائل جداً العارفون بما حدث يوم السابع من ديسمبر في الدوحة، الجهد الكبير الذي بذلته خلية العمل المكلفة بالملف السوري برئاسة رئيس الوزراء ووزير الخارجية القطري الشيخ محمد بن عبد الرحمن، ساهمت بشكل كبير جدًا في وقف الدعم الروسي والإيراني للنظام في اللحظات الأخيرة، من خلال الاجتماعات المكوكية التي شهدتها قاعات فندق الشيراتون. هذا الدور الكبير لقطر ساهم في حفظ الكثير من الدماء السورية ومنع استمرار دعم إيران للنظام بإرسال المزيد من قوات حزب الله إلى حمص التي تلقّت قرار الانسحاب من سورية بعد انتهاء الاجتماع الموسّع لوزراء الخارجية العرب مع روسيا وإيران مساء السابع من ديسمبر..
وبعد زيارة رئيس الوزراء ووزير الخارجية القطري إلى دمشق، تلقت القيادة السورية وعوداً باستمرار دعم الجهود الإغاثية داخل سورية، وتوسيع نطاق هذا الدعم، والدفع نحو حلول أكثر استدامة للتحديات الإنسانية التي تواجه السوريين في ظل استمرار الأوضاع الأمنية والاقتصادية الراهنة، والتعهّد بتقديم المساعدات المباشرة للسوريين من خلال الجسر الجوي، وتوسيع هذه المساعدات من خلال دعم مشاريع تنموية، حيوية تهدف إلى تحسين الظروف المعيشية، وتدفع للاستثمار في مجالات التعليم والصحة والإغاثة. كما وعدت الحكومة القطرية بالتركيز على دعم استقرار سورية وبناء مؤسسات الدولة على أسس قانونية وتنموية، وأكّدت على أهمية احتكار الدولة للسلاح تحت مظلة جيش وطني يمثل جميع السوريين، حفاظاً على وحدة البلاد وسيادتها، وبما يمهّد لانتقال سياسي شامل، يساهم في استقرار سورية على المستويين السياسي والاقتصادي، ويعزز فرص عودتها إلى محيطها العربي..
القيادة السورية الجديدة تثق بأن قطر، بعلاقاتها الدولية وسمعتها السياسية المتميزة كدولة، تسعى إلى تعزيز السلم والاستقرار الإقليمي والدولي، وستبقى شريكاً أساسياً في جهود إعادة إعمار سورية، ويمكنها أن تساهم بشكل كبير بحكم عَلاقاتها القوية مع مُختلف الفاعلين الدوليين والإقليميين، وامتلاكها القدرةَ على المساهمة في حشد الدعم اللازم لإعادة بناء البنية التحتية السورية، وإرساء أسس تنمية مستدامة، تُعيد لسورية مكانتها الطبيعية، وربطها من جديد بعلاقاتها العربيّة والدوليّة المتينة.
وعلى المستوى السياسي تستطيع قطر من خلال عَلاقاتها مع الفاعلين الدوليين الأكثر تأثيراً في المشهد السوري، مثل الولايات المتحدة وتركيا، ومن موقعها كوسيط موثوق لدى العديد من الأطراف، مساعدة القيادة الجديدة من خلال فتح قنوات دبلوماسية، تسهم في إيجاد حلّ سياسي مستدام، وإنجاح مرحلة الحكم الانتقالي، بما يضمن الاستقرار، ويسهم في إقامة عملية سياسية شاملة، تساعد سورية على الخروج إلى برّ الأمان.
العلاقة بين قطر والإدارة الجديدة، تفتح آفاقاً جديدةً للتعاون الاقتصادي بين البلدين، فقد تسهم قطر بشكل كبير في تعزيز جهود إعادة الإعمار، حيث تمتلك قطر القدرة المالية والخبرات الواسعة التي تمكّنها من المساهمة في إعادة بناء البنية التحتية السورية والاستثمار في قطاعاتٍ حيويةٍ مثل النقل والإسكان والطاقة.
الولايات المتحدة الأمريكية
الولايات المتحدة كانت تنتظر سقوط نظام الأسد، ولكنها لم تكن مستعدة للانخراط في أي عملية عسكرية تساعد في ذلك، وهي لا تخفي سعادتها اليوم بهزيمة إيران في سورية، وكسر المشروع الإيراني في أكثر مناطق نفوذه أهمية من حيث الجغرافيا بمعركة “ردع العدوان” التي أطلقتها إدارة العمليات العسكرية. ومنذ اليوم الأول لسقوط النظام، فتحت الولايات المتحدة قنوات اتصال مع إدارة العمليات العسكرية، ونتج عن ذلك عقد عدة اجتماعات بين الفريق الدبلوماسي الأمريكي في العاصمة دمشق مع القيادة الجديدة، وهي كنوع من ردّ الجميل، قد تبدي استعداداً للتعامل مع أحمد الشرع في الكثير من القضايا في الملف السوري، وخصوصاً ملف المنطقة الشرقية وسيطرة قسد عليها. ومن خلال ما تم تداوله عن المحادثات التي تمّت بين الطرفين، فإن الولايات المتحدة تعتقد أن القيادة الجديدة في سورية لديها فرصة كبيرة في المرحلة الانتقالية في سورية لتعزيز تحوّل إستراتيجي كبير في المشرق العربي، وتثبيت هزيمة إيران في المنطقة، وتعزيز العلاقات مع الدول العربية والإقليمية، والانفتاح على الدول الغربية والعمل على ترتيب العلاقة مع إسرائيل.
الموقف الإسرائيلي لا يبدو بعيداً عن موقف الولايات المتحدة، ولا مصلحة لإسرائيل في فتح جبهة جديدة على الحدود السورية. واتّفاق غزة قد يوجّه الجهود الإسرائيلية نحو جبهة إيران أكثر من سورية، ولا مصلحة لبقاء القوات الإسرائيلية طويلاً في المناطق التي سيطرت عليها في سورية بعد سقوط النظام، وسيتمّ انسحابها من هذه المناطق بترتيبات دولية، تسمح للسلطة الجديدة في سورية بالسيطرة على كامل الأراضي السورية.
– روسيا لا يمكن أن تعوّض خسائرها في سورية، فخيار الحرب ضد الشعب السوري الذي اتّخذته، ووقوفها مع نظام الأسد لن يغفره شيء. حتى الأنباء التي نشرتها وكالات الأنباء عن طلب الإدارة الجديدة من روسيا خلال اللقاء مع نائب وزير الخارجية الروسي في دمشق بتسليم بشار وكبار الضباط وإعادة الأموال المنهوبة، لن تدفع الشعب السوري لنسيان الجرائم التي ارتكبتها روسيا في سورية، من تدمير للمدن والقرى والبيوت على رؤوس ساكنيها، وسيأتي اليوم الذي تقوم فيه المجموعات الحقوقية برفع الدعاوى القضائية ضد روسيا وكبار مسؤوليها على ما ارتكبوه بحق الشعب السوري الأعزل. وبعد قرار القيادة السورية بوقف العمل باتفاقية ميناء طرطوس الموقعة مع الشركات الروسية، يبدو أن خروج القوات الروسية من سورية، وإغلاق كافة المواقع العسكرية الروسية، بما فيها قاعدة حميميم الجوية، هو خيار وحيد مطروح على الطاولة. ولا أعتقد أنه في الوقت القريب ستقوم الإدارة الجديدة بأي تغيير في ذلك، حتى تقوم روسيا بتنفيذ مطالب الإدارة بتسليم بشار وأعوانه إلى الدولة السورية؛ لينالوا جزاءهم العادل.
* كاتب سوري