ملخص
يبدو أن “حماس” و”حزب الله” لا تزال لديهما قوة على رغم كل الضربات التي تلقوها أما دمشق فلن تسمح للجماعات الفلسطينية بالنشاط في سوريا، وأرسلت الإدارة الجديدة تطمينات إلى إسرائيل.
في 20 يناير (كانون الثاني) الجاري جرى التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى بين إسرائيل و”حماس“، وعند مشاهدة فيديوهات التبادل يلاحظ أن عدد عناصر الحركة الذي كان سابقاً يقدر بنحو 40 ألف مسلح ربما قد انخفض إلى ما بين خمسة إلى 10 آلاف، والسبب في ذلك الاشتباكات والقصف والحرب التي استمرت 15 شهراً.
وعلى رغم كل ما حدث في غزة، ظهرت وحدات شرطة “حماس” غير المسلحة في الشوارع والطرقات بعد وقف إطلاق النار. وتحدث الناطق الرسمي باسم “كتائب عز الدين القسام” عن “ملحمة المقاومة والنضال”. كذلك ظهر بعض مسلحي “حماس” بالزي الرسمي والأعلام وعُصب الرأس، وكل هذا يدل على أن التنظيم الأيديولوجي لم ينته.
في الأصل، ككل التنظيمات الأيديولوجية التي تقاتل من أجل قضية ما، فإن “حماس” و”حزب الله” لم يتم استنفاذهما أو القضاء عليهما على رغم كل ما تلقاهما من ضربات قوية، ومع أن إعادة تجديد تسليحهم يستغرق وقتاً طويلاً إلا أنه من الممكن أن يشاركوا في المرحلة العسكرية والسياسية مرة أخرى عندما تتهيأ الظروف والأجواء المناسبة، أو عندما تسنح الفرصة.
الصوت الذي يتحدث حول عدم القدرة على القضاء على “حماس” خرج أيضاً من إسرائيل نفسها، على سبيل المثال قبل أشهر من الآن قال الجنرال المتقاعد يسرائيل زئيف، الذي سبق أن قاد عمليات في الجيش، إن “إسرائيل ابتعدت من أهداف الحرب في غزة، وقد يكون الجيش العالق في مستنقع القطاع منهكاً، ويجب عليه الخروج من هذا المستنقع على رغم أن ذلك يفيد حماس”. وبعد قرب الإعلان عن وقف إطلاق النار كرر الجنرال تصريحاته ذاتها، وأضاف أن “ما حدث مع الجيش الأميركي في فيتنام تكرر مع الجيش الإسرائيلي في غزة”.
نتنياهو والشرق الأوسط الجديد
منذ بدء حرب غزة، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بوضوح نيته بتنظيم شرق أوسط جديد. وبحسب وجهة النظر الإسرائيلية فإن الشرق الأوسط الجديد يتضمن القضاء على جميع التهديدات الفعلية أو المحتملة، وحتى الخيالية التي قد تهدد الأمن القومي الإسرائيلي.
منذ أكثر من عام، دخل نظام الشرق الأوسط في عملية تغيير وتحول جذري، وهناك ثلاثة جوانب مهمة للتغيير، أو بمعنى آخر ثلاثة جهات معنية بالتغيير، وهي أولاً رباعية “حماس” و”حزب الله” وإيران وسوريا، والثاني كل من الولايات المتحدة وروسيا، والثالث إسرائيل وتركيا.
هذه الجهات المتنافسة انقسمت بين بعضها بعضاً، وانتهت المنافسة بخسارة مدوية لإيران وحلفائها فخسرت جغرافياً وعسكرياً وسياسياً، أما الولايات المتحدة فقد انتصرت مع حلفائها على رغم أنها لم تهيمن على المنطقة بشكل كامل بعد، والهدف الأهم الذي حققته هو تعطيل الدور الروسي في الشرق الأوسط، وفي ما يخص تركيا فهي لا تزال تحتفظ بدور اللاعب الإقليمي والقوة الإقليمية القادرة على التحرك، لكن أيضاً لم تحقق كل ما تريد.
أما إسرائيل التي تنفذ هجوماً تلو الآخر ضد أعدائها باتت اليوم دولة مرشحة للمشاركة القوية في بناء الشرق الأوسط الجديد، وأهم ما أسهم في ذلك هو وقوف الدول الغربية خلفها.
في بداية عمله سيلتقي فريق الرئيس الأميركي دونالد ترمب بنحو 400 ضابط وسياسي إسرائيلي، من بينهم ثلاثة جنرالات رفيعي المستوى، سيناقشون تحديد استراتيجية جديدة في الشرق الأوسط، وستشمل هذه المناقشات دعم تحسين العلاقات الإسرائيلية مع الدول العربية، كما سيكون توقيع معاهدة سلام مع السعودية هدفاً مهماً لإدارة ترمب، وهناك حديث حول أن مشروع السلام المقبل في المنطقة ربما يشمل إيران أيضاً.
قصة الخريطة الكاذبة
إن الحكومة الائتلافية الإسرائيلية الحالية، تمثل أكثر الحكومات تطرفاً وتهوراً، وقائمة على ثقة مفرطة بقدرتها على تعطيل النظام الإقليمي الموجود وإقامة نظام جديد، وهي أيضاً تبدي استعدادها للدخول في أي حرب. ولعل أحد الأمثلة على تطرف هذه الحكومة هو التعميم الذي أرسله وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، أحد الشركاء المتطرفين في حكومة نتنياهو، في 11 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، إلى مديرية شؤون الإعمار والاستيطان ومديرية الإدارة المدنية بأن لهما صلاحية اتخاذ القرارات المتعلقة بالأراضي الفلسطينية المحتلة.
هنا يجب الإشارة إلى أن هاتين المديريتين تعملان تحت إشراف وزارة الدفاع وليس وزارة المالية، وبحسب هذا التعميم، ينبغي للمديريتين المذكورتين البدء في استثمارات في البنية التحتية التي يمكن أن تضمن السيادة الإسرائيلية على أراضي الضفة الغربية، تلا ذلك انتشار أخبار في الإعلام الإسرائيلي بأن نتنياهو سيضع خطة لضم الضفة الغربية.
بعد هذا نشر حساب “إسرائيل بالعربية” على منصة “إكس” خريطة لإسرائيل القديمة، أثارت هذه الخريطة سخطاً واسعاً بخاصة من الجمهور العربي. تتحدث الخريطة عن وجود إسرائيل في المنطقة قبل ثلاثة آلاف عام، وتشير إلى أن الملك شاؤول حكم هذه الأراضي لمدة 40 عاماً، خلال الفترة ما بين 1050 و1010 قبل الميلاد، فيما حكم الملك داوود هذه المملكة في الفترة ما بين 1010-970 قبل الميلاد، وبعد ذلك حكم الملك سليمان قرابة 40 عاماً، لتستمر بذلك فترة حكم الملوك الثلاثة ما مجموعه 120 عاماً.
الخريطة التي نشرها الحساب الإسرائيلي تشمل أجزاءً من سوريا ولبنان والأردن، وهذا أثار سخطاً ورداً على الصعيد الشعبي والرسمي، فأصدرت وزارة الخارجية الأردنية بياناً شديد اللهجة نددت فيه بنشر مثل هذه الخريطة، ورفضت “بشدة مثل هذه التصريحات الاستفزازية”. وطالبت الحكومة الإسرائيلية بوضع حد فوري لهذه المواقف الاستفزازية. من جهته، قال المتحدث باسم الرئاسة الفلسطينية نبيل أبو ردينة إن هذا الخريطة كاذبة، وتهدف إلى إعادة احتلال الضفة الغربية وغزة.
هل يمكن ضمان سوريا على المدى البعيد؟
في ما يخص سوريا، على رغم الرسائل التي وجهتها الإدارة الجديدة، والتي تتحدث عن أن دمشق لا تريد حروباً أخرى، ولن تهدد دول الجوار، نشرت صحيفة “يديعوت أحرونوت” الإسرائيلية، تقريراً يستند إلى “تقارير سرية”، مفادها بأن بعض المسؤولين في حكومة نتنياهو يشعرون بالاستياء والغضب من كثرة زيارة الوفود الغربية إلى دمشق، حتى أن أحد المسؤولين الإسرائيليين قال إن “أميركا وبريطانيا وألمانيا يؤدون مناسك الحج في دمشق على إيقاع الجولاني، فإما أن عيون الغربيين عميت أو أن أفعالهم هذه مقصودة”.
وأوضح التقرير أن المسؤولين الغربيين يعتقدون أن الجولاني سيضمن حقوق الإنسان والعدالة والمساواة والتسامح والديمقراطية ببلاده، ويتحدث بـ “لسانه المعسول عن الموقف المعتدل”، ويبحث عن رفع العقوبات المفروضة على سوريا، ويريد مساعدة الغرب له لتعزيز سلطته. وقال مسؤول إسرائيلي وفق التقرير إنه “مندهش من أن شخصية مثل الجولاني بعد أن كان مرصود 10 ملايين دولار لاعتقاله استطاع أن يوقع الغرب بهذا الفخ”.
النظام السوري سقط وانتهى، وهذا أمر مفيد للجميع، وأيضاً بهذا السقوط خسرت إيران مقراً مهماً لها، وهنا يرى بعض الإسرائيليين أن التهديد القديم انتهى فيما ظهر تهديد جديد، إذ قال الصحافي الإسرائيلي ناحوم برنية، إن “السيد الجديد في دمشق يحاول توجيه رسائل معتدلة تجاه إسرائيل، لكن هذه الرسائل لا تخفف من مخاوفنا، فمثلما غادر 60 ألف مسلح إدلب ووصلوا إلى دمشق، يستطيع نفس هؤلاء الـ 60 ألفاً الوصول بسهولة إلى مرتفعات الجولان، ويبدو أن المنظمات الفلسطينية المسلحة مثل (حماس) و(الجهاد الإسلامي) تفكر بالعودة للنشاط في سوريا لكن نعتقد أن الجولاني لن يسمح بذلك، وهو أرسل رسائل سرية تفيد بأنه لا يريد محاربتهم”.
والتقدير في إسرائيل يشير إلى أن السلطات الجديدة في سوريا قادرة على الالتزام بوعودها لمدة تتراوح بين 10 إلى 20 عاماً، لكن لا يمكن ضمانهم على المدى الطويل، لذلك يتعين على إسرائيل إبقاء الأراضي السورية تحت السيطرة العسكرية. كذلك فإن المجتمع العربي ليس لديه إجماع كامل حتى الآن على الوضع في سوريا، وبعض الجهات العربية حذرت الغربيين بضرورة التعامل مع سوريا الجديدة بحذر، لكن الغربيين لم يبالوا بهذه التنبيهات.
قلق إسرائيلي من الوجود التركي في سوريا
يعبر المسؤولون الإسرائيليون عن أسباب مختلفة لتبرير شكوكهم في شأن الإدارة السورية الجديدة الشام وتركيا ويحاولون إقناع المسؤولين الغربيين بهذه النقطة. وأحد أكبر أسباب القلق الإسرائيلي هو الوجود التركي في سوريا، وهذا تمت مناقشته على مستوى رئاسة الوزراء، إذ يشعر نتنياهو وحكومته بعدم الارتياح للدور الذي تلعبه أنقرة في دمشق، وبالطبع مما لا شك فيه أن التغيير الذي حصل في سوريا مفيد لإسرائيل من ناحية إضعاف “حزب الله” الذي كان حليفاً قوياً لنظام بشار الأسد، لكن في المقابل فإن صعود جماعات سنية قد تكون متطرفة، ومدعومة من تركيا قد يشكل الأمر خطراً على إسرائيل في المدى البعيد، وقد يكون هذا الخطر أكبر من خطر وجود الجماعات الشيعية سابقاً.
وتخشى إسرائيل من تدهور وضع الإدارة السورية الجديدة، واحتمالية إغراق البلاد بحرب أهلية مرة أخرى، ومن جانب آخر فإن إنشاء حكومة إسلامية سنية موالية لتركيا في دمشق وتوجه سوريا الجديدة للدفاع عن مصالح أنقرة يتعارضان مع مصالح إسرائيل في المنطقة بخاصة فكرة الأمن الإقليمي.
ويبدو أن كبار المسؤولين الإسرائيليين قد اتفقوا على أن الأراضي السورية التي سيطرت عليها إسرائيل أخيراً في الجنوب السوري يجب الاحتفاظ بها وعدم الخروج منها. وتحدث المسؤولون في إسرائيل على ضرورة الحفاظ على نفوذ استخباراتي يصل إلى 60 كيلومتراً في العمق السوري، بهدف منع الجماعات المسلحة في سوريا من وضع منصات إطلاق صواريخ تجاه الجولان، ومنع أي تهديد محتمل. وربما لهذا السبب هاجمت إسرائيل بلدة غدير البستان في القنيطرة منتصف يناير الجاري باستخدام طائرة من دون طيار ما أسفر عن مقتل عنصرين من الإدارة السورية الجديدة في حادثة هي الأولى من نوعها ضد الإدارة الجديدة، إضافة إلى سقوط ضحايا مدنيين.
ملاحظة: الآراء الواردة في هذا المقال تخص المؤلف ولا تعكس بالضرورة السياسة التحريرية لصحيفة “اندبندنت تركية”.
- إندبندنت