منذ البدء كانت فلسطين ولا تزال في موقعها الجغرافي المجاور لمصر، لكنها رغم ثبات الموقع والبقعة الجغرافية كانت تقترب وتبتعد إلى درجة تشبه المستحيل، وفقاً للأحوال السياسية ومتغيرات الحوادث وتقلبات الزمان. بحكم الجوار والاتصال الروحي والوجداني بين مصر وفلسطين امتدت الأواصر وتشابكت الروابط من قبل أن تُذبح فلسطين، وعلى مدى عقود الجرح المفتوح النازف، وبينما تخوض مصر هي الأخرى رحلتها مع دورات التاريخ لم تغادر فلسطين في أي دورة من تلك الدورات مكانها في الوجدان المصري، وظلت مساحتها الخاصة محفوظة في القلب لا تبارحها ولا تطالها يد النسيان مهما امتلأ القلب بالهموم. وإن كان كل مصري لا يتوفر له التعبير عن انشغاله بفلسطين ومكانتها في قلبه ووجدانه، فإن كُتاب مصر عبروا عن الشعور الجمعي لشعب مصر، الذي كان ولا يزال يتطلع دائماً إلى فلسطين، وينظر إلى الشرق نظرة ألم وحنين ورجاء.
مصر في نهضتها الثقافية
من هؤلاء الكتاب إبراهيم عبد القادر المازني، أحد كبار كُتاب مصر وأعظم أقلامها في عصرها الذهبي، هو الأديب الشاعر والقصاص والناقد والمترجم والكاتب الصحافي، الذي يقف اسمه عالياً إلى جانب العقاد والزيات وزكي مبارك وطه حسين، وغيرهم من أعلام مصر إبان نهضتها الثقافية الكبرى في النصف الأول من القرن العشرين. كان كل كاتب من أولئك الكتاب واحة جميلة ودنيا واسعة من الثقافة والفكر وفنون الأدب وألوان الجمال، ربما اشترك المازني مع العقاد في أنكلوسكسونيته، مقابل فرنكوفونية كل من الزيات وزكي مبارك وطه حسين، وربما اشترك المازني أيضاً مع زكي مبارك في خفة الظل والتمكن من فنون الغزل، لكن لا شك في أن المازني يتميز عن جميع أقرانه ومعاصريه، بأنه إلى جانب ما يمتلك من رصانة الأدب والنقد كان ساخراً عظيماً ومتهكماً لاذعاً، له جاذبية تشد القارئ بقوة مغناطيسية، ولا يستطيع المرء إلا أن يبتسم وهو يتابع كتاباته الشيقة، وأن يضحك عالياً عندما يفاجئه بإحدى المفارقات، أو بموقف كوميدي من الواقع.
أمام كلمات المازني لا تشعر بأنك تقرأ لكاتب وإنما تجالسه في لقاء جميل وتسمع منه، فقد حقق المازني درجة من القرب إلى القارئ تستعصي على كثير من الكتاب، والكلمة عنده شديدة اللطف والذكاء، وربما يكون أدق من يدمج المفردات العامية في لغته العربية الرفيعة وبيانه المتين، دون أن يشعر القارئ بأنه يستظرف أو ينتحل صفة خفيف الدم. عاش المازني في الفترة من عام 1889 حتى عام 1949، أي أن آخر ما عاصره من حوادث فلسطين كان حرب 1948 وتوابع النكبة حتى العام اللاحق. رحل المازني عن دنيانا وهذا آخر عهده بالمأساة التي لا تزال مستمرة، ونشهد نحن الآن بعضاً من فصولها ونتمنى أن تكون آخر الفصول. منذ الثلاثينيات كانت فلسطين حاضرة في كتابات المازني، وعندما كان يكتب عن فلسطين لم يكن يكتب عن مكان لا يعرفه على أرض الواقع، أو أن معرفته بفلسطين كانت تقتصر على المعرفة النظرية العامة، أو الخبرة السياسية، بل كان يكتب عن بلد يعرفه جيداً ويتردد عليه، ويعد وجهة السفر المفضلة لديه، ففي عصر المازني كانت فلسطين قريبة إلى مصر ولم يكن الذهاب إليها حلماً مستحيلاً، كان السفر إلى فلسطين يتم بواسطة القطار عبر خط سكة حديدية يصل بين البلدين، والمعروف أن الملكة نازلي زوجة الملك فؤاد، وأم الملك فاروق كانت تسافر كثيراً إلى فلسطين، وتحب أن تقضي هناك بعضاً من أوقاتها مع الأميرات. يحكي المازني عن أسفاره إلى فلسطين وذكرياته على أرضها، وما كان يلقاه من كرم وحسن ضيافة وهو بين إخوانه في فلسطين، وكان سفر المازني إلى فلسطين أسهل من سفره إلى الأقصر حيث يقول: «وعلى ذكر فلسطين أقول إني أحب السفر إليها لأنها لا تكلفني إلا أجرة القطار، أما الأكل والنوم والنزهة فعلى الله والإخوان بارك الله فيهم، وقد حدث في العام الماضي أني تعبت من العمل المتوالي، فأشاروا عليّ بالراحة، فقلت أذهب إلى فلسطين، وكان الوقت شتاء والبرد في جبال فلسطين يكون قارساً، فقال لي صديق اذهب إلى الأقصر، فقلت فلسطين أفضل، فاستغرب وبدأ يجادل، فضاق صدري وقلت له يا أخي إن الأقصر تحتاج إلى مال كثير، أما فلسطين فيكفيني أن تكون معي أجرة القطار».
مواكبة ثورة فلسطين الكبرى
في عام 1936 وتزامناً مع بداية ثورة فلسطين الكبرى، كان المازني يكتب عن تلك الثورة العظيمة ويواكب بعضاً من حوادثها، ويؤكد ضرورة الثورة والنضال في مقاومة ما كان يقع في ذلك الوقت، ويصف كيف أثار الشعب الفلسطيني العالم كله بثورته الجليلة، رغم قلة عدده وانقطاع المدد عنه، ويصف كيف كان الفلسطيني يدافع عن حقله وبيته وكل ما يمتلك، وكيف كانت تنسف بيوت الشعب الفلسطيني بالديناميت فيشرد الرجال والأطفال والنساء إلى الجبال، بينما تقتطع السهول الخصبة ويستولي عليها الصهاينة، وكان يشيد باستبسال هذا الشعب واستماتته في الدفاع عن أرضه، وما قرره الفلسطينيون من أن الموت بشرف أولى من الموت في جبال عارية، كان يتم طردهم إليها من أجل التمهيد للاحتلال الصهيوني. يلاحظ على كتابات المازني عن فلسطين، عمق فهمه للسياسة الإنكليزية في ذلك الوقت، ودقة تحليلاته وقراءته للأحداث، واستشرافاته المستقبلية أيضاً التي تحقق الكثير منها بالفعل. كما كان يقارن وضع اليهود في بلاد العرب قديماً، وكيف أنهم عاشوا في كنفهم أحراراً آمنين على الأموال والأرواح، لا يتعرضون لأذى أو اضطهاد، أو أي نوع من التضييق، وبين وضعهم قديماً في أوروبا حيث كانوا منبوذين إلى أقصى درجة، لا يشاركهم أحد الطعام ولا يجالسهم، ويستشهد برواية السير وولتر سكوت عن عصر ريتشارد قلب الأسد. ويشير المازني أيضاً إلى ما كان يتعرض له اليهود في أوروبا في الثلاثينيات من تحقير ومهانة، وكيف كانت تحرق كتبهم وتصادر أموالهم وينفى علماؤهم، ويعير جنسهم بأنه دون الجنس الآري، وتمنع معاملتهم ومخالطتهم وتحرم مصاهرتهم، حتى إن اتخاذ الخدم منهم كان جريمة تستوجب العقاب، ويدين المازني أوروبا التي تسومهم كل هذا العذاب، ولا ترتفع فيها أصوات تدافع عنهم أو تستهجن ما يحل عليهم من عذاب ومقت شديد، وبالإضافة إلى كل ذلك تريد أن تتخلص منهم وتقذف بهم إلى فلسطين.
وكان المازني يدعو إلى مقاطعة السلع الصهيونية التي كانت تغزو الأسواق في تلك الفترة، مقاطعة تامة جامعة مانعة في فلسطين وكل الدول العربية، ويقول إن الصهاينة غزوا الأسواق العربية بسلعهم، مغتنمين فرصة الحرب وقلة الواردات من الغرب، ويؤكد على قوة وأهمية المقاطعة كسلاح ماض.
كاتبة مصرية
- القدس العربي