د. مناف الحمد
لا يفوتني في البداية أن أشكر الأستاذ أحمد الطيار عللى نقده للافتتاحية التي كتبتها عام 2017، وأعدت نشرها مؤخرًا، وهي بعنوان: “الجمهورية السورية: حذف الصفة لا يبدل الحال”، كما أشكر تنبّهه الذي عبر عنه متأخرًا في رده إلى أنه حمّل الافتتاحية التي لا تزيد كلماتها على خمسمائة كلمة فوق ما تطيق؛ إذ طالب كاتبها بتقديم حلول لمشاكل ينبغي أن تفرد لها مجلدات. وأرجو أن يتسع صدره للرد، لكي يكون ما قصده من غاية فتح النقاش متجسدًا على الحقيقة.
في قراءتي للرد -مستثنىً منه ما عدّه هو مما لا يرد على مقال قصير- فوجئت بالفرض الذي ينطلق منه الكاتب، والمتمثل في أن الدعوة إلى حذف صفة العربية هي عينها الدعوة إلى دولة مواطنة يتساوى فيها الجميع من دون إعلاء لهوية إثنية على غيرها، وهو فرض ينطلق منه لكي يحاول أن يشتق حججًا يأخذ بعضها بنواصي أخرى؛ لكي يرسم مشهدًا يقف فيه هو مع تيار واسع -كما يسميه- في صف مناقض للصف الذي يقف فيه كاتب المقال الأصلي، وهو صف من لا يؤمنون بدولة المواطنة الحيادية تجاه التنوع الديني والإثني. وهو فرض يعاني معضلتين منهجيتين:
أولاهما أن المقال الأصلي لم يفصح أبدًا عن رفض لدولة المواطنة التي يتساوى فيها المواطنون بغضّ النظر عن اختلافاتهم المذكورة، وجلّ ما حاول تسليط الضوء عليه، هو أن حذف كلمة العربية ليس كفيلًا بالخلاص من حالة الإقصاء التي كرّسها نظام الاستبداد، وهو ما ينطوي بالضرورة -لو أمعن الناقد النظر- على رفض لهذا الإقصاء والتشوّف إلى نقيضه.
والأخرى أن صنع معسكرين: معسكر لدعاة دولة المواطنة -ينتمي الناقد بالطبع إليه- ومعسكر رافض لها، و على النقيض منها -يُزج كاتب المقال الأصلي في صفوفه- هو شببيه بصنيع أهل الفسطاطين الذين انتشروا كالفطر في الساحة العربية الدينية والعلمانية مقتفين دون أن يشعروا خطا مبتدع فكرة صراع الحضارات على مستوى ميكروي.
ولا يخلو الأمر من تعلق بالعرضي دون الالتفات إلى أسسه -كما هو ديدن الكثيرين من المشتغلين بالفكر السياسي- وهي أسس مفهومية ينبغي الانطلاق منها لصياغة خطاب متماسك، ومن قبيل هذا، ذاك التناقض الموهوم بين المطالبة بدولة المواطنة المتساوية، وبين الإبقاء على صفة العربية (التي لم يطالب المقال الأصلي بها، وإنما اكتفى بالتنبيه إلى أن وَهْم حذفها هو الحلّ، وهم يسيطر على أذهان شرائح معينة لأسباب أشار إليها كاتب المقال في حدود ما تسمح به مساحته)
أقول إن هذا التناقض المصنوع ليس تناقضًا إلا في ذهن صانعه، فليس ثَمّ مفهومان غير قابلين للاجتماع معًا، والارتفاع معًا، كما هو تعريف التناقض، فليست دولة المواطنة، وصفة العربية في وصف الجمهورية نقيضين غير قابلين للاجتماع معًا والارتفاع معًا بلا قبول بحلّ وسط ، وافتراض تناقضهما الحتمي مشتقّ من الانطلاق في النقاش من فروع، لا أصول، ومن سمات عرضية، لا من مفاهيم كلية.
وما يجعل نقد الناقد فاقدًا لأسسه العلمية، هو أنه يأتي على تجربة السوريين الديمقراطية بعد الاستقلال بطريقة لا تناقش ماهيتها كتجربة وليدة في ظل تدخلات إقليمية ودولية، وإنما بمجرد الاكتفاء بالإشارة إلى هنات أصابتها وعيوب شابتها لكي يخلص إلى نتيجة تبعث على العجب، وهو أن تمجيدها( وهو بالمناسبة تمجيد لم يكن موجودًا في المقال الأصلي) هو مجرد فعل مماحكة لنظام الاستبداد.
وليس أغرب في قراءة الظواهر التاريخية من هذه القراءة المبتسرة لتجربة الديمقراطية السورية الباكرة التي مهما قيل في عيوبها ونواقصها كأي تجربة وليدة لم يُتَحْ للفاعلين بلورتها، فإنه من الاختزال غير العلمي، والمفتقر لأدنى منهج في البحث التاريخي المرور عليها بهذه الصورة.
إن الفرق الجلي بين المقال الأصلي وبين الرد عليه، أن الأول يسلط الضوء على وهم الواهمين بأن حذف كلمة كفيل لوحده بالقضاء على السمة الإقصائية، وهو يقترح منهجًا علميًا لصياغة الهوية غير الساكنة من دون أن يدعي أن هذا يمكن أن يضطلع به فرد، بينما يحسم الرد مسألة هوية الدولة بالتمترس بما يظنه كفيلًا بصد كل سهام المصنَّفين قسريًا أو بإرادتهم في خانة النقيض، وهو الدولة الحيادية القائمة على المواطنة المتساوية مع أن المقال الأصلي بتحميله الاستبداد مسؤولية جريمة الإقصاء، إنما يتضمن بالضرورة الدعوة إلى دولة حيادية تتحقق فيها المساواة بين المواطنين من دون تفرقة على أي أساس ديني أو غير ديني..
إن إشارة المقال الأصلي إلى أن صفة العربية لم تمثل عائقًا أمام نضال السوريين ضد الاستعمار، ولا عائقًا أمام محاولتهم -الجديرة بنظرة جدية أكثر من نظرة الناقد- لصنع ديمقراطيتهم الباكرة، لا تعدو أن تكون إشارة إلى أن دولة ما لا يمكن أن تقوم بدون أحياز من أهمها تراثها، وهو تراث تمثل العروبة- بلا شك- كثقافة أحد مكوناته، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإنها إشارة إلى ملاط حضاري ثقافي، وليس إلى رابطة عرقية.
ليس المقال دعوة إلى تثبيت صفة العربية في وصف الجمهورية، ولكنه دعوة إلى نقاش مفتوح حول الهوية وفق منهج علمي، وإلى عدم التحامل على العروبة بدافع رد الفعل على تحويلها إلى مفهوم يختزن كل عوامل الإقصاء، أو بدافع وهم أن وجودها كفيل بإعاقة الدعوة إلى دولة المواطنة، وأن حذفها كاف للشروع في تأسيسها.
وأخيرًا، فإن لزومًا منفكًا -بمصطلحات علم المنطق- يقيمه الناقد بين وجود عرب غير مسلمين ومسلمين من غير العرب، وبين انتفاء علاقة العروبة بالوجدان الجمعي للمنتمين إلى دين الأكثرية، وهو لزوم لا يمكن أن يكون إلا منفكًا؛ بمعنى عدم وجود صلة بين اللازم والملزوم، فَصِلة العروبة بهذا الوجدان الجمعي قائمة في حال وجود عرب غير مسلمين وغير عرب، وفي حال عدم وجودهم.
في المقال الأصلي اقتراح لفتح الباب لنقاش حول الهوية وفق منهج علمي للاختيار، ولا يدعي صاحبه أنه يقدم حلولًا ناجزة للتمثيل والبدائل الأمثل للواقع تحت ظل الاستبداد، بينما ينطلق مقال الرد من فرض غير علمي إلى نتيجة تدعو إلى نبذ الإقصاء، بينما تقدم رؤية واحدة يزعم صاحبها أنها، هي لا غيرها، السبيل لمن اهتدى، أو ألقى السمع وهو شهيد.
- كاتب سوري