كان السوريون فيما مضى يرددون عبارة: “الغرب يعمل لمصالحه”، وهذه عبارة فيها كثير من المغالطة، إذ هي تحصر العمل من أجل المصالح الخاصة بالدول الغربية فقط، علما أن العبارة لكي تستقيم يجب أن تكون: “إن الدول تعمل لمصالحها”، وهذا ما تطور في خطاب السوريين بعد أن أصبح لنظام بشار الأسد المخلوع مزيدا من الأعداء من خارج دائرة الدول الغربية. رغم ذلك، لم يعد التغيير في العبارة عن كونه تغيير باللفظ من دون المساس بالمضمون، بل يمكن القول إن المضمون أصبح أكثر إيذاء من ذي قبل، خصوصا إذا علمنا أن الغاية الأساسية من مثل هذه المعلومات هي جعل الإنسان منغلقا على ذاته ينظر إلى الآخرين نظرة ملؤها الشك والريبة. فالمصلحة في العقل الجمعي السوري تعني شيئا ذميما، أو ربما تعني أن الجهة أو الشخص الذي يعمل لمصالحه لا يستحق الشكر مهما كان عمله مفيدا لنا.
القشة التي قصمت ظهر البعير
بمنظور آخر، يعتقد بعضهم أن الهدف الرئيسي للآلة الدعائية للنظام البائد من تعميم فكرة العمل من أجل المصالح هو الأصدقاء قبل الأعداء، خاصة بعدما اضطر إلى الاستعانة بالروس والإيرانيين في حربه على الشعب الثائر ضده، ويبدو أن النظام البائد لم يكن يحاول غرس هذه القناعة في عقول السوريين وحسب، بل كان رأس النظام شخصيا يتبنى هذه القناعة، فهو في أحد تصريحاته المتأخرة أشار إلى أن روسيا وإيران تقاتلان في سوريا دفاعا عن نفسيهما. وفي نفس السياق كانت المستشارة الإعلامية في القصر الجمهوري للنظام المخلوع لونا الشبل قد صرحت ذات مرة موجهة كلامها للسوريين المؤيدين: لم يطلب أحد منكم القتال إلى جانب الدولة، أنتم قاتلتم دفاعا عن أنفسكم. وإلى أن جاء الوقت الذي انطلقت فيه عملية ردع العدوان التي أطاحت بنظام الطغيان، يبدو أن هذا النفس الاستعلائي قد فعل فعله لدى الحلفاء ولدى جمهور المؤيدين معا، ويبدو أن هناك من أقسم أنه لن يطلق طلقة واحدة دفاعاً عن هذا النظام فيما لو تعرض للخطر مرة أخرى.
تحطيم البنى الثقافية للمجتمعات أصعب عشرات المرات من تحطيم الأنظمة السياسية، ولعل محاولة تعديل هذه البنى الثقافية بالتشارك مع الركائز الرئيسية لهذه البنى هو الأسلوب الأكثر جدوى وفاعلية.
صناعة الأقلية
سقط نظام الطغيان غير مأسوف عليه وملأت الأفراح والاحتفالات فضاءات الوطن، وكان المحتفلون أغلبية ساحقة غمرت الساحات وهيمنت صورها وتعابيرها على الشاشات بمختلف أشكالها، وما أن بدأت الحكومة الجديدة تتلمس أولى خطواتها في إعادة تشكيل الدولة حتى بدأت الملاحظات وبعض الانتقادات تطفو على السطح، وعلى مستوى أروقة صناعة القرار، أو صناعة المواقف في مختلف مؤسسات المجتمع تواردت أنباء عن حديث خافت يلمح لبداية امتعاض يرتكز في معظم أطروحاته حول مقولة التهميش الذي بدأت تستشعره معظم القوى الثورية. لا شك أن الأصوات المتوجسة لم تصبح تيارا عريضا ينذر بالخطر، فكثيرون مازالوا يلتمسون الأعذار للحكومة الجديدة على مبدأ أن الفترة الحالية شديدة الحساسية، وهي مرحلة تحتاج لفريق متجانس يستطيع تنفيذ المهام المستعجلة بكفاءة أكبر. رغم ذلك؛ فالاستمرار بهذا النهج المتبع حتى الآن سيكون بمنزلة صناعة الأقلية التي لن تجد من يؤازرها عند الأزمات، أو هو بمنزلة القول للآخرين: كنتم تدافعون عن أنفسكم.
تحالف الفساد
لتلافي هذه المعضلة قد تجد الحكومة السورية الجديدة نفسها مضطرة إلى الانخراط في تحالفات مع بعض القوى الاجتماعية التي هي بالمحصلة قوى أنتجتها نظم شبه إقطاعية لا يمكن لها إلا أن تكون عائقا في طريق نمو المجتمع وتقدمه، وتكريسا لحالة الاستغلال والظلم الاجتماعي. إن ما يدفع للشك أو التوجس من اتخاذ الحكومة الجديدة لهذا المنحى هو القدر الهائل من القوة التي تمتلكه الزعامات القبلية والطائفية والدينية وأعيان المناطق، فهؤلاء يتبعهم قطعان كبيرة من الناس تقدس هذا النمط الثقافي – ربما – أكثر من الوجهاء أنفسهم، ولعل في هذا تفسير لماذا لا تتمكن كثير من الثورات السياسية في إنتاج تغيير يذكر، ولماذا هي تجد نفسها مضطرة إلى إعادة إنتاج النظام القديم مع تغييرات طفيفة في أحسن الأحوال. إن أقبح ما يمكن تصوره في هذا النوع من التحالفات أن المحسوبية والفساد قد فرضا نفسيهما كقوتين يصعب التغلب عليهما، وهو ما يتناقض مع التوجهات المعلنة للحكومة السورية الجديدة.
الحكومة بحاجة لحلول إبداعية، فبالإضافة للحلول الكلاسيكية من تفعيل دور الرقابة وزيادة رواتب موظفي الدولة وتسخير التكنولوجيا.
حلول إبداعية
إن تخفيض مستوى الفساد والمحسوبية للحد الأدنى وتطبيق مبدأ سيادة القانون الذي تنادي به الحكومة الجديدة قد يجرد الزعامات المجتمعية – بمختلف أشكالها – من كل مزاياها، وهذا ما سيجعل الحكم الجديدة في مواجهة مباشرة مع هؤلاء، بحيث لن ينفع أي نهج سياسي مهما كان منفتحا وتشاركيا. لذلك، يبدو أن الحكومة بحاجة لحلول إبداعية، فبالإضافة للحلول الكلاسيكية من تفعيل دور الرقابة وزيادة رواتب موظفي الدولة وتسخير التكنولوجيا، لا بد من إيجاد صيغة للتفاهم مع الزعامات المجتمعية من قبيل منحهم صفة الشريك في بناء دولة القانون مثلا. بمعنى إعطائهم ما يشبه الدور الرقابي على حسن تطبيق القوانين ومنحهم بعض الصلاحيات التي تجعلهم يشعرون بأنهم شركاء حقيقيون في بناء دولة القانون، فتحطيم البنى الثقافية للمجتمعات أصعب عشرات المرات من تحطيم الأنظمة السياسية، ولعل محاولة تعديل هذه البنى الثقافية بالتشارك مع الركائز الرئيسية لهذه البنى هو الأسلوب الأكثر جدوى وفاعلية.
أخيرا، وبالعودة إلى مقدمة هذا المقال، يجب أن يعلم جميع السوريين أن المصلحة هي المحرك الرئيسي للدول والجماعات والأفراد، والسوريون ليسوا استثناء. بمعنى أن الحديث عن المصالح يفترض البحث عن مدى تقاطع هذه المصالح ومدى تعارضها، فالمصالح تتقاطع أحيانا إلى حد التطابق أو ما يقارب ذلك، وتتقاطع أحيانا بمساحات تختلف، تكبر أو تصغر. وتتعارض المصالح أيضا بدرجات مختلفة قد تصل لمرحلة الصدام عندما يكون حجم التعارض كبيرا. وبالطبع، يترافق تقاطع المصالح مع نوع من التقارب والود والصداقة كسياق طبيعي للوضع الذي تخلقه هذه الحالة، ويترافق تنافر المصالح مع الفتور في العلاقات أو البغضاء والضغينة. بهذه الطريقة من التعاطي مع مفهوم المصلحة نتحول من مجتمع مغلق إلى مجتمع منفتح. وبالتالي مجتمع قابل للنهوض وعونا لأي حكومة تتطلع إلى التغيير.
- تلفزيون سوريا