عندما نتكلّم عن المنطقة الشرقية في سورية، فنحن نتكلّم عن ثلاث محافظات: دير الزور، والرقة والحسكة. ثلاث محافظات من أهمّ المحافظات في سورية، لما تمتلكه من مقومات اقتصادية واجتماعية وسياسية. تمّ منحها لقب خزان سورية ومصدر ثرواتها، ولا نبالغ إذا قلنا: إن سورية بدون المنطقة الشرقية لن تكون كما كانت عبر العصور.
وهذا ما يدركه كل عارف بالجغرافيا والتاريخ والسياسة في المنطقة السورية. لا أقصد إيجاد شرخ بين السوريين هنا، ولا أن نمنح هذه المنطقة فضلًا على السوريين أو تمييزًا في أي ناحية من النواحي الفوقية، بل على العكس، فإن السوريين أجمع يعلمون حقّ العلم كم تعرّضت المنطقة الشرقية للتجاهل والإهمال في عهد حافظ الأسد الذي حكم سورية ثلاثين عامًا، ولم يقم بزيارة واحدة لدير الزور، رغم وجود أهم ثروات سورية فيها. وأكمل الأسد الابن التعامل مع المنطقة بنفس النهج، وهنا لا نريد أن ندخل في تفاصيل أكثر، فالقاصي والداني يعلم اليوم كل صغيرة وكبيرة عما حدث ويحدث لهذه المنطقة من محاولة للتقسيم ومحاولة لعزل المنطقة الشرقية عن سورية. نحن هنا نحاول تقديم صورة قريبة عن دير الزور والرقة والحسكة، عن منطقة شعبها تعرّض لأشد أنواع الظلم والاضطهاد والتهميش. تعرضت خلال الثورة لتعدد في حكم سلطات الأمر الواقع، من النظام، إلى الجيش الحر، إلى تنظيم الدولة، وأخيرًا قسد. وكل من يعيش في المنطقة يفهم ما أقصد
ما تعرّض له أبناء الجزيرة السورية من إبادة سنية ارتكبتها ميليشيات الأسد وداعش وقسد يفوق الوصف. هذه الهجمة البربرية تركت وراءها المقابر الجماعية والدمار الشامل لكل مظاهر الحياة في المدن والأرياف. ففي دير الزور وحدها، هناك عائلات مُسحت بأكملها من السجلات المدنية. المدينة تعرضت لأبشع أنواع الحصار والجوع والقهر، ونالت من الآخر خُذلان ما بعده خُذلان. الذي حدث في الجزيرة السورية هو وصمة عار في تاريخ سورية، ولن تمحى إلا بتحقيق العدالة لهذا المكوّن العربي الأصيل الفاضل. أبناء الفرات العظيم كانوا السبّاقين بنصرة الثورة ولم يترددوا يوماً في دعم كل المحافظات بالبذل والعطاء والشهداء. شاركوا في كُل معارك الثورة السورية في الصفوف الأولى، وبشدة بأسهم سطّروا أعظم قصص الثبات والبذل والتضحية، وبذلك يشهد لهم القاصي والداني.
أكثر ما يُثير الحزن هنا أن الكثير من السوريين الآخرين تجنّى على أبناء هذه المنطقة، وتجرّأ على اتّهامهم بشتى الأوصاف على مدار الأربعة عشر عامًا الماضية. يحزننا أنهم من قبل الثورة كانت تعتريهم مشاعر الفوقية تجاه أي من أبناء المنطقة الشرقية (الشوايا)، الصفة التي لازمتنا على مدى خمسين عامًا مضت، لا لشيء سوى أن النظام البائد أراد تفريق أبناء سورية، وخلق تلك المشاحنات بينهم، وعزّز لدى السوري الآخر فكرة أن أبناء المنطقة الشرقية جهلة وغير متحضرين، ويجب معاملتهم على أنهم درجة ثانية.
لذلك خلال فترة التسعينات كان النظام يرسل أبناء وبنات الساحل خريجي معهد المدرسين إلى دير الزور لكي يمدّن أبناء دير الزور، وكان يرسل أبناء دير الزور إلى القرى النائية على أطراف الرقة والحسكة، وكذلك فعل مع أبناء الرقة. هذه الخطة الممنهجة في التغيير الديمغرافي الداخلي انسحبت على قطاعات كثيرة في الدولة، ولعلّ أهمها قطاع النفط والغاز، حيث كان أبناء الطائفة يحتلون جميع الوظائف الرئيسية في حقول النفط، وعلى أبناء دير الزور قبول الوظائف الأخرى التي تُصنّف أنها درجة ثانية.
دير الزور اليوم تحيط بها المخاطر من كل حدب وصوب. الحدود العراقية السورية ليست مغلقة، ولا تسيطر عليها القوة العسكرية التابعة للدولة بشكل كامل، يمنع تسرب عناصر النظام البائد الذين هربوا إليها، ولا هي تمنع وصول خلايا ميليشيات إيران التي لا تزال حتى اللحظة، يمكن أن تشكل خطرًا حقيقيًا على سورية الجديدة. ولا توجد قوة عسكرية كافية من وزارة الدفاع قادرة على حماية الحدود. في داخل المدينة، لا تزال سيطرة إدارة الأمن العام غير كاملة (رغم الجهود المبذولة لتحقيق ذلك)، ولا يزال العديد من عناصر الدفاع الوطني وخلايا الإيرانيين، يصولون ويجولون في المدينة.
بعضهم بدأ بالظهور العلنيّ، والبعض الذين كانوا عصا النظام الطويلة بدّلوا جلدهم ( كوّعوا )، وها هم يمارسون وظائفهم، وكأن شيئًا لم يكن، هذا إذا لم يكونوا قد استلموا مناصب فعلية في المدينة، هذا الحال لن يستمر طويلاً، والأهالي الذين ذاقوا الأمرّين يسعون إلى وقف كل ذلك.
اليوم قد تكون الفرحة بالنصر تسكت الحناجر، ولكن غدًا بعد أن يبدأ المواطن في المطالبة بحقوقه، فذلك لن يستوي، وسيدفع الجميع ضريبة الفَلتان الأمنيّ. فالمنطقة الشرقية تُحيط بها هالات سوداء اليوم، رسمتها العناصر غير السورية التي أوغلت في الدم السوري على مدى سنوات طويلة.
ولن تبقى سيطرة قسد والعناصر الداعمة لها من جماعة قنديل قائمة بعد حين، فالمزاج العام في المنطقة تغيّر بعد سقوط النظام، والخوف الذي يملك قلب ابن المنطقة ذهب بلا عودة، والنصر المفعم بالحرية سيحول ذلك القلب الخائف إلى قلب شجاع يمتلك الرحمة والعدل للقريب، والقوة والبطش للغريب، ولأنهم ببساطة لن يسمحوا للغيوم السوداء أن تخيم من جديد، ولا لون الدم أن يغيّب تطلّعات السوريين للقادم المشرق، ولا يناسبهم أن تُقتطع من غدهم المشرق مساحة الحب والحنان والذكريات الجميلة على شواطئ نهر الفرات الوادع، ولا نسمات الهواء العليل في حقول الجزيرة الخضراء.
بشكلهم الحالي يسعى أبناء وبنات المنطقة لبناء دولة سورية لكل السوريين.
بعد سقوط النظام، والنصر العظيم الذي تحقق بإنهاء أخطر نظام عرفه التاريخ البشري، أثبت السوريون اليوم بكل أطيافهم إرادتهم في التعامل مع الماضي بمسؤولية والنظر نحو بناء مشترك للدولة من خلال عدم الدخول، حتى الآن، في دوّامة القتل والعنف، وهو ما ينبغي البناء عليه.
نحن –الساعين- لدولة ديمقراطية مدنية، لن نسمح باستمرار المؤامرة على مناطق الجزيرة، ولا مكان لأي جسم غريب في هذه المنطقة مبنيّ على الكذب والتزوير العلني لواقع المنطقة الشرقية #ديرالزور و #الرقة و #الحسكة. ولن نسمح باستمرار التحريض على التمييز والعنف بين السوريين، وأنه مخالف لكل الأعراف ومخالف لرغبة عبّر عنها السوريون بوضوح، بحرصهم على مساحة الحوار السوري المشتركة. إذا لم تتّخذ الدولة موقفاً حاسماً من قسد، سنكون جميعاً بدون استثناء ضحايا هذا الوضع المشوّه، وسنندم حتماً يوم لا ينفع الندم.
- كاتب سوري