
لطالما كان الفن رسالة سامية في مدى التصاقه بالناس، في حزنهم وفرحهم، لكنه أيضاً قد يتحول إلى وسيلة لإعادة تشكيلها وفقاً لمصالح معينة، مما يجعله أداة قوية للتضليل وإعادة كتابة التاريخ. في هذا السياق، يُعدّ الممثل السوري غسان مسعود مثالاً واضحاً على تجسيد “التفكير المزدوج“، المفهوم الذي ابتكره جورج أورويل في روايته 1984، والذي يعني قدرة الشخص على تصديق حقيقتين متناقضتين في الوقت نفسه والقبول بهما معاً. هذه الازدواجية لا تعني فقط الانفصال عن الواقع، بل أيضاً الاستعداد للمشاركة في عملية إعادة تعريف الحقائق، بحيث تتغير المعاني والدلالات وفقاً للسياق السياسي أو الإعلامي الذي يتم توظيفها فيه.
تجلّت هذه الظاهرة بوضوح في مشاركة غسان مسعود في مسلسل مقابلة مع السيد آدم، حيث استُخدمت صور مسربة حقيقية لضحايا التعذيب في سجون النظام السوري، لكن ليس لإدانة النظام أو تسليط الضوء على الجرائم التي ارتكبها، بل لإعادة تقديمها في سياق درامي مضلل، يظهر هؤلاء الضحايا على أنهم قتلى نتيجة جرائم جنائية مرتبطة بتجارة الأعضاء. هذا الاستخدام لم يكن مجرد “خطأ فني”، بل كان جزءاً من عملية منظمة تهدف إلى تحريف الواقع، وتقديم رواية بديلة تنفي مسؤولية النظام السوري عن الجرائم الموثقة دولياً. ما يجعل الأمر أكثر تعقيداً هو أن المسلسل لم يتعرض لأي مساءلة أو محاسبة، بل مرّ مرور الكرام كعمل درامي اعتيادي، بينما كان في الحقيقة يشارك في طمس واحدة من أبشع الجرائم في التاريخ الحديث.
وهنا يظهر جوهر “التفكير المزدوج“، حيث يصبح من الممكن أن يشارك ممثل في عمل كهذا، يساهم في تبييض صورة النظام، ثم بعد فترة قصيرة يتصدر بطولة مسلسل آخر يدّعي معارضة النظام وكشف انتهاكاته. هذا ما حدث عندما أُعلن مشاركة غسان مسعود في مسلسل “قيصر“، الذي يتم تصويره في السجون السورية بعد تحريرها من النظام. المسلسل الجديد يفترض أنه يستند إلى “ملفات قيصر”، الضابط المنشق الذي سرّب آلاف الصور التي توثق جرائم النظام السوري ضد المعتقلين، وهي الصور نفسها التي استخدمها مسلسل مقابلة مع السيد آدم، ولكن في سياق مختلف تماماً، أي إن الصور نفسها التي تم تحريف دلالاتها في مسلسل سابق، تُستخدم الآن في عمل جديد، ولكن من دون الاعتراف بالمغالطة السابقة أو التناقض الفج بين الموقفين، ومن دون أي ندم أو اعتذار!
التفكير المزدوج هنا ليس مجرد تناقض بسيط، بل حالة ذهنية تتيح لصاحبها تبرير مواقف متناقضة من دون أن يشعر بأنه يناقض نفسه. عندما شارك غسان مسعود في مسلسل يضلل الجمهور حول ضحايا التعذيب، كان ذلك مقبولاً وفقاً للسياق الذي قُدم فيه العمل، والآن عندما يؤدي دور البطولة في مسلسل يدّعي فضح انتهاكات النظام، فإن ذلك أيضاً يصبح مقبولاً، حتى لو كان التناقض واضحاً. في عالم 1984، كان على المواطنين تصديق شعارات مثل “الحرب هي السلام”، و”الحرية هي العبودية“، حيث يتم التلاعب بالوعي الجمعي إلى حدّ يجعل التناقضات تبدو طبيعية أو حتى ضرورية للحفاظ على النظام القائم.
ما يجعل الأمر أكثر إشكالية هو أن هذه الازدواجية لا تقتصر على غسان مسعود بوصفه شخصاً، بل تعكس ديناميكية أوسع في المجال الفني والثقافي السوري. فالممثلون والمخرجون والكتاب الذين عملوا على تبرير جرائم النظام أو التقليل من فظاعتها، يمكنهم بعد فترة قصيرة أن يصبحوا وجوهاً لأعمال درامية تدّعي معارضة الاستبداد وكشف الحقيقة. هذا الأمر يعكس كيفية استخدام الفن ليس فقط أداةً للتعبير، ولكن أيضاً وسيلةً لإعادة صياغة التاريخ وفقاً للحاجة السياسية. تماماً كما في عالم أورويل، حيث كانت الحقائق لا تُنفى، بل يُعاد تشكيلها لتناسب الرواية الرسمية، فإن الدراما هنا لا تقوم فقط بسرد الأحداث، بل تتحول إلى آلية للتحكم في الطريقة التي يفهم بها الجمهور تلك الأحداث.
التفكير المزدوج هنا ليس مجرد تناقض بسيط، بل حالة ذهنية تتيح لصاحبها تبرير مواقف متناقضة من دون أن يشعر بأنه يناقض نفسه
هذه الظاهرة تجعل من الصعب التمييز بين ما هو عمل فني موضوعي، وما هو مشروع سياسي مقنّع بالدراما. هل يمكن لممثل أن يكون في صفّ السلطة عندما يحتاج إليها، ثم يصبح في صفّ معارضيها عندما تتغير الظروف؟ هل يمكن تصديق عمل يدّعي كشف انتهاكات النظام عندما يكون أبطاله أنفسهم قد شاركوا في طمس تلك الانتهاكات سابقاً؟ هذه الأسئلة تتجاوز قضية فردية، وتمتد إلى مفهوم أعمق: كيف يُصنع الوعي الجمعي، ومن يتحكم في تحديد “الحقيقة” عندما تكون كل الحقائق قابلة لإعادة التأويل؟
المفارقة في حالة غسان مسعود ليست فقط في مشاركته في مسلسلين متناقضين من حيث الموقف السياسي، بل في أن هذه الازدواجية لم تمنعه من الظهور بمظهر الفنان “الملتزم” و”المثقف” الذي يمتلك رؤية نقدية تجاه الواقع. هنا يتجلى التفكير المزدوج في أوضح صوره: القدرة على أن تكون جزءاً من الدعاية المضللة، ثم أن تُقدَّم لاحقاً بوصفك وجهاً للحقيقة والعدالة، من دون أن يكون هناك أي تناقض ظاهري في ذلك. تماماً كما في رواية 1984، حيث يمكن للمرء أن يكرر الأكاذيب في الصباح، ثم يؤمن بالحقيقة في المساء، من دون أن يشعر بأنه يناقض نفسه.
هذه الظاهرة ليست محصورة بالفن السوري وحده، بل تعكس نهجاً أوسع تستخدمه الأنظمة السلطوية في مختلف المجالات، الإعلام، والأكاديمية، وحتى المنظمات الحقوقية، كلها قد تشهد تناقضات مماثلة، حيث يتم تبنّي مواقف متناقضة بناءً على تغير المصالح أو الاتجاهات السياسية. وكما في عالم أورويل، فإن الحقيقة ليست شيئاً ثابتاً، بل هي متغيرة، تُعاد صياغتها بحسب الحاجة، ويُطلب من الجميع أن يقبلوها كما هي، حتى لو كانت تناقض نفسها.
في النهاية، في ظل هذا التناقض العميق بين الأدوار التي لعبها غسان مسعود، وبين الحقيقة التي لا يمكن طمسها مهما حاولت الدراما إعادة تشكيلها، ربما يكون الخيار الأفضل أمامه هو أن يواجه هذا التفكير المزدوج بدلاً من أن يكون جزءاً منه. فبدلاً من التنقل بين السرديات المتناقضة، لماذا لا يقدم عملاً فنياً يضع هذا التناقض نفسه تحت المجهر؟ لماذا لا يكون مسلسله القادم: “التفكير المزدوج، غسان مسعود نموذجاً”، بوصفه ظاهرة فكرية واجتماعية وسياسية، حيث يكشف كيف يمكن للإنسان أن يعيش بين حقيقتين متناقضتين من دون أن يشعر بالتناقض؟
إن تقديم مسلسل يتناول هذه الظاهرة بصدق وشفافية، وهو الممثل البارع، مستنداً إلى تجربته الشخصية، قد يكون فرصة له للاقتراب من الحقيقة، والاعتراف الضمني بالأخطاء، وربما حتى تقديم اعتذار رمزي للسوريين الذين تعرضت مأساتهم للتشويه والتضليل. مثل هذا العمل يمكن أن يكون بمثابة كفّارة فنية، ليس فقط لتاريخه في الأعمال التي ساهمت في التلاعب بالحقائق، بل أيضاً لمساعدة الجمهور السوري والعربي على فهم كيف يتم التلاعب بالوعي، وكيف يمكن أن يصبح التناقض أداة للسيطرة على العقول.
إذا كان غسان مسعود فناناً ملتزماً كما يحب أن يقدَّم، فقد حان الوقت لأن يستخدم فنه لكشف الحقيقة بدلاً من المساهمة في طمسها. وربما، عبر هذا العمل، يجد هو نفسه الإجابة عن السؤال الذي يطارده: كيف يمكن للمرء أن يكون جزءاً من الزيف، ثم يدّعي الدفاع عن الحقيقة؟
- العربي الجديد