ماهر سليمان العيسى
مع أهمية التوقف عند الإعلان الدستوري الذي تسرب قبل أن يوقع، وربما قبل أن يُكتَب، وما يثيره من غبار أكثر مما ينتجه من هواء منعش، أجدني وإن كان الأمر متأخراً شيئاً ما مهتماً بالبحث في جذر ما يجري اليوم، وخصوصاً حين نسمع مباشرةً وبعد ساعات فقط من صدور ذلك الإعلان من يقول: خلاص (قرار وطلع) وبلّطوا البحر!
هناك أربعة عوامل رئيسة تظافرت وساهمت وإن بنسب مختلفة في إنتاج المشهد الذي نراه في الشارع السوري اليوم، أولها ما فرضه التجويف الناتج عن التجريف المستمر والممنهج الذي عمل عليه نظام الشبيحة المدحور في العقل السياسي والوطني السوري، وثانيها ما قابله من عجز وانعدام كفاءة في إدارة واقع الثورة السورية والعجز عن توجيهها نحو تجذير أهدافها الوطنية من قبل المعارضة التاريخية والنخب الديموقراطية السورية، وثالثها سيطرة الحركات الجهادية على واقع الصراع بعد أن تحول مبكراً إلى صراع مسلح حين تلاقت هذه الحركات مع النظام في منتصف الطريق، حيث كان الحل الأمني العسكري هو النموذج الوحيد الذي يتقنه النظام وحلفاؤه، كان تحويل الثورة من فعل شعبي مدني متنوع النشاطات إلى “جهاد” ضرورة حيوية لهذه الحركات الجهادية، كي تنتج شرعيتها وتفرض منطقها على عموم السوريين. أما الرابع فهو حالة “الاستنقاع ” الطويلة للصراع الذي أنهك السوريين وأدخل شريحة واسعة منهم باليأس حين كاد يبدو بلا نهاية.
كل هذا تظافر وأتاح، وعلى مدى أربعة عشر عاماً، أن تمتلئ تدريجياً عقول شريحة واسعة من السوريين بمفاهيم مختزلة، نزقة، دون وطنية، يقودها ويروجها، بعض الصغار والثانويين الذي يبحثون عن دور أو أهمية، ويلقون استجابة من السواد حيث كانت هذه المفاهيم التي يروجونها هي الأقرب والأسرع في ملء الفراغ الذي كان يتعاظم في التصور النموذج السياسي والوطني السوريين، مستفيدين من قاعدتين تاريخيتين الأولى تقول ” العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة ” والثانية تقول ” الطبيعة لا تحب الفراغ “.
الاستقطاب والتعيين في الشارع اليوم، مع استمرار عزلة النخب وضعف التيارات الوطنية والديموقراطية، يتم على أساس عصبوي وطائفي، حتى لو أغمضنا أعيننا، وأنكرنا ضوء الشمس، ولكن ربما يكون من المدهش أن يتم هذا بقيادة مزاج عام لدى (السنة) للمرة الأولى منذ إنشاء الكيان الوطني السوري بداية عشرينات القرن الماضي. وهذا المزاج السني الذي في أغلبه كما يُظهر المشهد العياني، يعتبر أن الثورة قد أنجزت مهمتها، فالدولة برأي هذا المزاج الذي اختطفت من قبل (طائفة العلويين) واستخدمت بكل أدواتها ومؤسساتها للتنكيل بهم، قد عادت لأصحابها المستحقين (طائفة السنة) باعتبارهم طائفة الأغلبية، ونَصبت هذه الثورة رئيساً سنياً (بل سنياً مكثفاً) يقيم صلاة الجماعة في قصر الشعب، وهذا لوحده يكفي.!
ولكن دون أن يلحظ أصحاب هذا المزاج، أن (السنة) في سورية ليسوا طائفة أصلاً، ولا تنطبق عليهم شروط تشكيل وتعيين الطائفة، بحكم أنهم الأغلبية العددية التي تتفوق على كل الطوائف الأخرى مجتمعة، في حين تكون الطائفة حكماً أقلية عددية، وبحكم أنهم غير محددين إقليمياً وديموغرافياً وينتشرون على كل مساحة سورية، والطوائف تتكثف وتحصر نفسها ديموغرافياً وجغرافياً، وبحكم أنهم لا يشكلون نسيجاً موحداً متجانساً فقهياً وفكرياً وسياسياً، والطوائف أحادية الخط الفقهي والمرجعي، وبحكم أنهم لا يحتاجون للانكماش والتكور خشية من الذوبان. والطوائف لكل ما سبق كثيراً ما تحتاج للانكماش والتكور لتبقى. ما يعني أن السنة ليسوا “عُصبة” حسب التعريف الخلدوني للطائفة، ولا يحتاجون موضوعياً لها.
وبشكل عام أصحاب هذا المزاج يعيّنون أهل السنة كطائفة دون أن يلحظوا أن أهل السنة في سورية حين يشكلون حالة معاكسة لكل شروط تشكيل وتعيين الطوائف. فهم أيضاً وبآن واحد يشكلون الهيكل العظمي وغالبية اللحم والشحم من الجسد الوطني السوري. ولأسباب موضوعية، حتى لو لم يختاروا سيكونون حملة المشروع الوطني الرئيسين والتاريخيين. وأصحاب المصلحة الرئيسة فيه. وقاطرة الجر. ولا يجوز أصلاً الانحدار بقيمة كتلة بشرية كبرى، إلى مستوى ” العصبة” لا على مستوى القيمة، ولا على مستوى التعيين.
الأخطر من كل هذا، فقد تبين أن المزاج العام – إياه – الذي بدأ يُحَقِّر ويزيح نخبه الوطنية الديموقراطية، بذريعة احتكار المظلومية على أهل هذا المزاج حتى لو كنت سنياً وممن قدموا التضحيات أضعاف ما قدموا، ولمجرد ألا تتفق مع هذا المزاج إلى حد التطابق سيقال لك (وين كنتو .. لما) مضافاً إليه الشعار المأثور على قلب هذا المزاج اليوم (من يحرّر يقرّر) فقد بدأ يستسيغ الخلط بين مفاهيم الفتح والتمكين التاريخية، والدولة المعاصرة ومفاهيمها، وكأنه في هذا يبحث من جديد عن “الدكتاتور العادل” مادام يعتقد أنه يشبهه” طائفياً “، وكأنه يقاوم السير في طريق دولة المواطنة العصرية، وبمقتضياتها ومكوناتها وعلى رأسها (الديموقراطية)، فهذه تراجعت في هذه الأوساط إلى الحد الذي بدأ يقبل بتوقف الحديث عنها، فهي بكل الأحوال نموذجاً سيحتاج للتدريب والتأهيل ، وتشكيل، أو إعادة تشكيل أحزاب وتيارات سياسية، وبرامج سياسية، وثقافة سياسية وحقوقية واجتماعية، مما يعني أنهم أمام جهد يعتقدونه فائض عن الحاجة وفي غير وقته إن لم يكن (كفراً)، فوصفة “الدكتاتور العادل ” في المخيال التاريخي مجربة، وهي التي ستكون الخلاص وأقصر الطرق.
هذا التراجع للخلف مطرد ومتواصل، وبخطوات لافتةـ وصولاً إلى قبوله حتى بأن يصمم النظام الجديد حياته كما يشاء، بل اعتباره النظام الجديد هو التجلي الأعلى للنصر، الذي يجب التمسك به بالنواجذ لأنها دولته، وبالتالي دولتهم، وهذا ليس ثقةً به فحسب، بل نكاية بالآخرين (أهل الطوائف) وانتقاماً. فهذا بذاته أصبح هدفاً إضافياً (يشف صدور قوم مؤمنين). وعليه يجب حشد أكبر قوة دعم شعبية ممكنة مادام الرجل منا وفينا، ولن يستخدمها ضدنا، هذا في لحظة لا يدرك فيها هذا المزاج الضبابي أن الثورة السورية أياً كان من يحسمها، أو الجهة التي ستسيطر على قصر الشعب فيها، فهي ليست إعادة إنتاج للسلطة فحسب، وستوجب حتماً إعلان (الجمهورية الثالثة) أي إعادة تأسيس الكيان الوطني بكامله، عبر عقد اجتماعي جديد، وتوافق وطني يشمل كل الجماعات الوطنية السورية، وإلا لن تكون هناك سورية أصلاً. ولن تنشأ دولة اليوم بالغلبة، فهذا هو الاستحقاق الموضوعي، والطبيعي، ولم يلحظ هؤلاء حتى الآن أنه وبكل الأحوال فدولة المواطنة العصرية، لن تتيح الاختطاف من جديد، لا من طائفة ولا من عصابة، وبكل الأحوال أيضاً سيكون (للأحقية السنية) التي ينشدها (المزاج السنيّ) الدور والحصة الرئيسة في أي شكل من أشكال الدولة الجديدة، فلم لا نسعى لدولة المواطنة التي ستلم جميع السوريين؟ والتي من الأكيد ستكون المسؤولية الكبرى هي مسؤولية قاطرة الجر فيها.
- كاتب سوري