أجريت انتخابات كشفت المستوى الذي انحطّت إليه الممارسة السياسية للحكومة، وشابت تلك الانتخابات عمليات تزوير واسعة فضحتها الصحافة وقدّمت حولها طعونات كثيرة، لكن الحكومة لم تلق بالاً لذلك كلّه فهدفها كان أن يفوز أكبر عدد ممكن من المؤيدين لها، واكتشف الشارع السوري أن الهدف من تزوير الانتخابات التوصل إلى مجلس يمرّر التعديل الدستوري الذي كان يُخطّط له.
تقدّمت الحكومة بمشروع قانون يسمح للقوتلي بالترشّح لفترة انتخابية ثانية، ويتيح للحكومة عدداً أكبر من الوزراء. ونجح مشروع الحكومة وأعيد انتخاب القوتلي للمرة الثانية في 10 من نيسان/أبريل عام 1948. وكان قد انتُخب رئيسًا في عام 1943 بموجب دستور العام 1930 الذي حدد ولاية الرئيس بأربع سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة، ومع اقتراب نهاية ولايته، سعت شركاؤه في الكتلة الوطنية بالبرلمان إلى تعديل الدستور للسماح له بولاية ثانية دون مغادرة المنصب. فعُدلت المادة 68 من دستور العام 1930، التي كانت تمنع إعادة انتخاب الرئيس مباشرة بعد ولايته الأولى. وهذا التعديل سمح للقوتلي بالترشح فورًا لولاية ثانية من دون الحاجة إلى حقبة فاصلة خارج الحكم.
قبل ذلك، وبينما كان المجلس النيابي محكوماً بالحزب الوطني الذي تشكل على أنقاض الكتلة الوطنية، وحزب الشعب (الجديد) الذي تأسس في لبنان، منبثقاً عما عرفت بالكتلة الدستورية، المجموعة غير الرسمية التي ظهرت لمواجهة هيمنة الكتلة الوطنية، أسّس جميل مردم بك كتلة سمّاها “الكتلة الجمهورية” وكان عدد نوابها 40 نائباً. أما خارج المجلس النيابي فقد نشط كلٌّ من الحزب السوري القومي الاجتماعي، حزب البعث العربي، الحزب التعاوني الاشتراكي، الحزب الشيوعي، وجماعة الإخوان المسلمين.
في كلمته التي ألقاها أمام ذاك المؤتمر، قال عفلق: “لم يلاق حزب من الأحزاب العربية ما لاقاه (البعث العربي) من صعوبة النشأة والبداية. فقد مضت علية ثلاث سنوات وعدد أعضائه دون العشرة ثم تلتها السنوات الاربع الاخيرة. فكان نموه في نصفها الأول، أي في السنتين الأخيرتين من الحرب لايزال بطيئاً. ولم ينتعش الحزب بعض الانتعاش ويستمتع ببعض الحرية في العمل الا في العامين ألأخيرين. ابتداء من اشتداد الأزمة بين البلاد والافرنسيين عندئذ فرض الحزب نفسه على الحكومة فرضاً”.
واستعمل عفلق كلمتين لا تزالان تستحقان التوقف عندهما ملياً، فقد ابتدأت بهما حال البعث مثلما انتهت إليهما، قال “لقد كانت (العزلة) أكبر تجربة مر بها (البعث العربي) في سنوات البداية الشاقة واخذ الآن يخرج منها ظافراً سليماً. هذه العزلة التي كان عليه أن يتحملها ويريدها ويدافع عنها مهما يطل أجلها وتشتد قسوتها”. أما الثانية فكانت جوهر ما آمن به البعث، وهو التغيّر عبر “الانقلاب” لا عبر انتظر اكتمال ونضج الظروف المحيطة، قال عفلق “التطور إنما هو القناع الذي تتوارى خلفه الهيئات المحافظة ذات المصالح الكبرى التي تعيش على حساب الفساد الحاضر وتستر به تخوفها من الانقلاب الذي يهدّد مصالحها واستغلالها. يؤمن (البعث العربي) بأن الوقت قد حان للشروع بتحقيق هذا الانقلاب لأن التأجيل يضعف من امكانيات الانقلاب”. وقد ورد نص كلمته تلك في جريدة “البعث” في 5 نيسان/ أبريل 1947. وقد داهمت العزلة البعث في العراق، بصورة دراماتيكية، ثم داهمته في أواخر أيامه في سوريا، كما كسرته الانقلابات التي اعتمد عليها للوصول إليه السلطة.
شعور المتسبين إلى حزب البعث آنذاك كانت تحرّكه الحاجة إلى التموضع الاجتماعي والثقافي، ويعبّر عن ذلك وليد طالب أحد أعضاء البعث الأوائل في حوار أجراه مع الدكتور مصطفى دندشلي ونشر في 21 تشرين الأول/ أكتوبر عام 1989 في المركز الثقافي للبحوث والتوثيق في صيدا حين يقول “كنا نتصارع مع مؤيدي الإخوان المسلمين ويقيمون علينا الحجَّة. ونتصارع مع الشيوعيين ويقيمون علينا الحجَّة. ونحن لا نريد أن نكون شيوعيين، وكذلك لا نريد أن نكون من جماعة الإخوان المسلمين. ويقولون لنا: ماذا تريدون إذن؟! نقول لهم: نحن عرب وعروبيون، وإنما نقول ذلك بشكل غامض ومبهم. وفعلاً، فقد كان في أذهاننا أفكار وفي صدورنا عواطف، ولكننا لم نكن لنستطيع التعبير عنها… حتى أتانا في يوم من الأيام أحد الرفاق بمنشور موزَّع تحت توقيع: حزب البعث العربي: لا أذكر تماماً إذا كان منشوراً أو نشرة داخلية أو بياناً صادراً عن المؤتمر التأسيسي الأول. فقرأناه. فلاقى صدى في نفوسنا، فتقدمنا بطلب انتساب إلى حزب البعث العربي، وهكذا كان”.
كان أصغر فرع من فروع حزب البعث آنذاك، هو فرع مدينة دمشق، ويفسّر الأعضاء القدامى ذلك بأن دمشق وحلب كانتا مدينتين كبيرتين والنهضة الصناعية والتجارية بدأت فيهم، فكان “من الطبيعي بصورة عامة أن تكونا ضد الاتجاه الاشتراكي، وبما أن حزب البعث أعلن منذ البداية أنه حزب اشتراكي، فسوف يكون حتماً اتجاههما ضده”.
الإخوان، الذين حار البعثيون في الجدل السياسي معهم، عقدوا مؤتمرهم التأسيسي في حلب عام 1945 وانتخب مصطفى السباعي مراقباً عاماً للجماعة، وأنشأوا مؤسسات وجمعيات متخصصة مثل منظمة الفتوة، منظمة السرايا، ولجنة الإسعاف الطبي التي عنيت برعاية الفقراء والمحتاجين، وصبّت اهتمامها بالرواتب والإعانات النقدية والعينية، واعتمدت في وارداتها على أموال الزكاة والتبرعات. كما أصدرت الجمعة صحيفة “المنار” عام 1946، وانخرطت في الانتخابات النيابية عام 1947 بأربعة مرشحين، فاز منهم معروف الدواليبي نائباً عن حلب، محمود الشقفة عن حماة، ومحمد المبارك عن دمشق.
قرار تقسيم فلسطين يقسّم سوريا
تفجّر الغضب في الشارع السوري، وصدر قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181 القاضي بتقسيم فلسطين بين العرب واليهود، الذي رفضته الحكومة السورية، وشاركها مندوبو الدول العربية، على اعتبار أنه يناقض ميثاق الأمم المتحدة، وأصدروا بياناً مشتركاً يستنكر ضغوط واشنطن ولندن لاستصدار القرار.
وفي 29 أيلول/سبتمبر 1947 طالب المتحدث باسم اللجنة العربية العليا جمال الحسيني، نائب رئيس اللجنة العليا لفلسطين للتي شكّلت بقرار من الجامعة العربية وترأسها أمين الحسيني، بإقامة دولة عربية ديموقراطية على كامل أراضي فلسطين، و قال إن هذه الدولة “ستحترم الأقليات، وتضمن حرية العبادة والوصول إلى كافة الأماكن المقدسة لجميع الطوائف”.
لكن قرار التقسيم مرّ، وينص على قيام دولتين مستقلتين، عربية ويهودية، ونظام دولي خاص لمدينة القدس، على أن يدخلا حيز الوجود بعد شهرين من جلاء قوات الانتداب، وفي موعد لا يتجاوز 1 تشرين الأول/أكتوبر عام 1948، وعلى أن تمنح الدولة اليهودية 55 بالمئة من مساحة فلسطين التاريخية، وثارت ثائرة النخب حول العالم، وفي دمشق تفاوتت المواقف، فقد كان الحزب الشيوعي السوري رافضاً لمشروع قرار التقسيم، قبل إعلانه، وكان مسؤولوه وصحفه ينتقدون هذا التوجه بشدّة. لكن وبمجرّد إعلان دعم السوفيات للقرار، قال خالد بكداش “السوفيات لا يخطئون” ووجّه الحزب وكافة أعضائه باتجاه دعم القرار. أما البعثيون فقد كانوا أكثر المستفيدين، تنظيمياً، من تعاظم الشعور القومي، بسبب المأساة الفلسطينية، بينما سارع الإخوان المسلمون إلى إعلان الجهاد. واستثمر كلُّ تيار في القضية الفلسطينية حسبما يخدم توجهاته ومصالحه وتوسيع نفوذه.
أعلنت جامعة الدول العربية رفضها لقرار التقسيم، ووضعت تحت تصرف اللجنة العسكرية الفنية التي تألفت من اللواء الركن إسماعيل صفوت من العراق رئيساً، والعقيد محمود الهندي من سوريا، والمقدم الركن شوكت شقير من لبنان، وصبحي الخضرا من فلسطين، في حين لم ترسل مصر والأردن والسعودية واليمن أحداً يمثلها فيها، 10 آلاف بندقية، و3 آلاف متطوع، ومليون جنيه إسترليني. ورأت اللجنة العسكرية العربية تشكيل قوة من المتطوعين العرب غير النظاميين سمّتها “جيش الإنقاذ العربي” تحت قيادة فوزي القاوقجي، فيما أفرزت رئاسة الأركان السورية 46 ضابطاً وعدداً كبيراً من صف الضباط والجنود.
القاوقجي قال في خطبة ألقاها في بلدة “جبع” بالضفة الغربية، إن هدف جيش الإنقاذ “إلغاء قرار هيئة الأمم المتحدة بالتقسيم، ودك معالم الصهيونية وتصفيتها نهائيا، وتنفيذ قرارات الجامعة العربية، وتثبيت عروبة فلسطين”. فيما قال أديب الشيشكلي قائد قطعات الجليل وفوج “اليرموك” إن مهمة جيش الإنقاذ هي “تقوية معنويات الأهل في فلسطين، ومعرفة مقدرة القوات الصهيونية المسلحة هناك، واختبار موقف سلطات الانتداب البريطاني بالنسبة إلى الأعمال العسكرية التي تحدث بين العرب واليهود”. وهكذا كانت حال الرؤى بين الجهات السياسية والعسكرية التي أشرفت على المعركة، حتى أن القاوقجي روى أنه حاول الاستفسار من المفتش العام لجيش الإنقاذ اللواء نور الدين محمود عن مهمة هذا الجيش فقال له إن “هذا الجيش مرتبط بجامعة الدول العربية، ويحسن بقائده أن يسأل الأمين العام للجامعة، وإذا كنت تريد البقاء بجيشك حيث هو فلا بأس، ولكن مهمتكم تنتهي بعد دخول الجيوش النظامية”. ووصلت برقية من دمشق ومن عواصم عربية أخرى تأمر جيش الإنقاذ بالانسحاب وحلّت محله جيوش عربية نظامية وصولاً إلى توقيع الهدنة مع كل من مصر ولبنان والأردن، وليس سوريا التي تم تأجيلها حتى تتكامل الظروف المناسبة لذلك.
كان حسني الزعيم يرى أنه من الخطأ مواجهة الصهيونية بالجيوش النظامية، وكان يتمنى لو أن القوتلي عيّنه قائداً للجيش بدلاً من عبدالله عطفة، عوضاً عن منصبه زمن حرب 1948 كمدير عام للشرطة في دمشق. همس بذلك للمقربين منه، فطلب القوتلي أن يكفله أحدٌ كي لا يعود إلى شخصيته “المغامرة والمقامرة”، وبالفعل رفع رتبته إلى “زعيم” وعيّنه قائداً للجيش، ودفع ثمن هذا الترفيع غالياً بعد وقت قصير.
وقد يتتبع القارئ شيئاً ما وراء السطور التي كتبها العقيد أديب الشيشكلي في مقدّمة وضعها لكتاب الوزير فتح الله صقال في 31 تموز/يوليو 1951 قال فيها “ثم كانت محنة فلسطين، أندلس القرن العشرين، فزاد القلق واشتد اليأس وعم الحزن واعتقد الشعب أن الذين يسوسونه غير قادرين على تعجل الإصلاح والاستعداد للخطر الداهم وتحقيق ما تصبو إليه أمة ناهضة. فأخذ يتلمس الطريق الذي يستعين به على تبديل خوفه أمناً وضيقه سعة وعنائه راحة ويأسه أملا باسماً. وقد لمسنا ذلك نحن طائفة من العسكريين ففكرنا طويلا ووجدنا بعد الدراسة العميقة أنه بغير انقلاب لا يصلح الأمر، وكم كنا نودّ أن نحاذر هذا المركب الشائك، ولكن المريض كانت قد أنهكته العلة وليس في مقدور أحد غير الجيش إيجاد المخرج والتماس الشفاء للنهوض المنشود بالبلاد. وكان ما كان وجعلنا علينا المرحوم الزعيم حسنى رئيس الأركان العامة آنذاك، وأوليناه ثقتنا. والناس جميعاً يذكرون أنه سلك في حكمه طريق الرشاد، واختط سياسة حازمة عادلة نشرت الأمن والاستقرار، وأعطى البلاد بعد قليل وجهاً خارجياً ثابتاً انتظم معه للأداة الحكومية جانباها الإداري والسياسي، فتقاصرت شفاعة الشفعاء وتقلصت حظوة المختارين وزعماء الأحياء، ووقعت في النفوس مهابة الحكم وجاد أثرياء الحرب بأموالهم وأخرج من أخرج من الموظفين، وكانوا أكثرهم لا يتناهون عن منكر، ولم تعد الوظيفة مأوى للعجزة الذين لا يحسنون إنتاجاً ولا يقدرون على الاضطلاع بعمل من أعمال الدولة. فاستقامت الأمور وشهد بذلك خصوم المرحوم من السياسيين. ولكن المنصب الجديد ما لبث أن بدل أخلاقه وأفسد برنامجه فطمع أن يسخر قوى الدولة لطماح نفسه ونفاذ حكمه، فأبعد عنه المخلصين للوطن من أعوانه، وعندها عاجله القدر المحتوم، تغمده الله برحمته وتجاوز عن خطيئاته”.
لم تشفع لحسني الزعيم المظاهر القيصرية التي كان حريصاً على أن يراه الناس بها، ولا عصاه الماريشالية المرصّعة بالأحجار الكريمة. ومع أنه قال لزوجته الكردية نوران أحمد باقي قره زاده، التي كانت تصغره بـ 23 عاماً، عند خروجه من منزله ليلة الانقلاب عليه “لا تقلقي سأعود إليك”، إلا أنها ظلّت قلقة عليه وعلى حياتها، لكن الزعيم عيّن لها حارساً شخصياً يرافقها لتأمين حمايتها، وكان ضابطاً شاباً اسمه عبد الحميد السرّاج.
قبل الانقلاب، كان النائب فيصل العسلي، أمين عام الحزب الاشتراكي التعاوني، يشن بصورة دورية حملات كلامية في مجلس النواب ضد حسني الزعيم القائد الجديد للجيش؛ ومرة اتهم العسلي الزعيم وابراهم الحسيني قائد الشرطة العسكرية بالتخطيط لوضع قنبلة انفجرت في أحد مكاتب حزب العسلي. لكن الزعيم أقسم للقوتلي بالقرآن وبشرفه العسكري أنه غير مسؤول عن تلك القنبلة. أما رئيس الوزارة ووزير الدفاع خالد العظم فقد كان حسب وصف معاصريه، “متعجرفاً متعالياً فخورا بالأرستقراطية الإقطاعية التي ينتمي إليها”. وكان يكره الزعيم، ويعبّر مباشرة عن احتقاره له بشكل مستمر، حتى أنه كان يجعل الزعيم ينتظر على باب مكتبه لساعات وفي غالب الأحيان لم يكن يستقبله بعدها.
ضجّت الصحافة السورية بتلك القصص عن خلافات حسني الزعيم مع كبار المسؤولين، وتم اتهامه بالفساد بسبب صفقة سمن مغشوش تم توريدها للجيش بالتواطؤ مع أحد التجار. كل ذلك معع مرضه المزمن بالسكري، جعله عاطفياً جداً، إلى درجة أنه كان يبكي في اجتماعاته مع القوتلي راجياً إياه إعفاءه من منصبه وتعيينه محافظاً على حلب، إلا أن القوتلي لم يستجب. فازدادت الحملات ضد الزعيم، ونظّم بعض النواب حملة لتخفيض موازنة الجيش وتخفيض عدد أفراده وتقليض رواتب الضباط.
في فجر يوم الانقلاب، قطع حسني الزعيم جميع الاتصالات السلكية واللاسلكية التي تربط دمشق بالمناطق السورية أو بالعالم الخارجي. واحتلت الدبابات مبنى الإذاعة في شارع جمال باشا، وجرى اقتحام منزل رئيس الجمهورية شكري القوتلي ومنزل رئيس الوزراء وزير الدفاع خالد العظم. وتم اعتقال الاثنين، فأُخذَ العظم بالبيجاما، بينما سُمح للقوتلي بارتداء ثيابه، وفي قيادة الشرطة العسكرية كان الزعيم يدير العملية ومعه اكرم الحوراني الذي كان منكباً على كتابة بيانات الانقلاب لإذاعتها مباشرة. كان مكان اعتقال الرئيسين القوتلي والعظم في بادئ الأمر سجن المزة. لكن حسني الزعيم أمر بنقل القوتلي إلى المستشفى العسكري “مستشفى يوسف العظمة” في المزة، وبمجرّد وصول القوتلي إلى ساحة المستشفي تلفت حوله وسأل: أين العلم ؟ وكان يقصد العلم السوري الذي لم يشاهده مرفوعاً على سارية مبنى المستشفى.
كانت إذاعة دمشق تذيع المارشات العسكرية وبين الوقت والآخر كانت تبث البلاغات العسكرية المتلاحقة منذرة بإعدام كل من يحمل السلاح، وبمنع التجول اعتبارا من السادسة صباحاً وحتى إشعار اخر، متباهية بأن الانقلاب قد نجح “دون إراقة نقطة دم واحدة”. وفي اليوم التالي بدأ الزعيم بإرسال استدعاءات للسياسيين كي يسهموا في تشكيل النظام الجديد، ودخل عليه بعض الضباط وهم يسوقون أمامهم النائب فيصل العسلي المعروف بشعره المنفوش الكبير، فقال له الزعيم “شوف يا فيصل. أنا كان بمقدوري أن أقتلك لحظة اعتقالك، ولكني حرصت على أن أهينك أمام هؤلاء”، ثم أمر الضباط بالقول “خذوه إلى السجن واحلقوا له هذا القفش”.
ووصلت أخبار للزعيم تتحدث عن مظاهرات مؤيدة له، ترفع صور القوتلي وفوقها أحذية، فأمر فوراً بوقف ذلك، وقال “برغم كل شيء فإن شكري القوتلي زعيم وطني”. كما زار فارس الخوري رئيس مجلس النواب في منزله، وأطلعه على أغراض الانقلاب، وما يهدف إليه من اقامة حكم ديموقراطي صحيح، فبدأ الخوري مشاوراته مع النواب والوزراء السابقين للخروج من هذا المأزق دستورياً. ففشل في مسعاه بسبب تنافس النواب وخلافاتهم الحزبية. فلم ينتظر الزعيم ونصّب نفسه رئيساً، متمتعاً بكافة الصلاحيات الممنوحة لرئيس الدولة، وكتبت صحيفة التايمز البريطانية “لقد بدأ حسني الزعيم في خطته لتنفيذ آرائه التقدمية، منهياً حكم العائلات الغنية في سوريا”.
وقد تحكّمت في عهد الزعيم اتجاهات عديدة. الاتجاه الأول تزعمه فارس الخوري، متمثلاً بإطفاء “النيران التي شبت في البيت”، على حد تعبير الخوري، والعودة بالبلاد تدريجياً إلى عهد دستوري جديد. أما الاتجاه الثاني، فتزعمه أكرم الحوراني وميشال عفلق وصلاح البيطار، وكان ينادي بإصلاحات اشتراكية. والاتجاه الثالث كان بقيادة رشدي الكيخيا وناظم القدسي، وقد طالب بعودة الجيش فوراً إلى ثكناته وإعادة الأمور إلى أوضاعها الطبيعية. أما الاتجاه الرابع فجسّده “الحزب الوطني” الذي دعا إلى مهادنة الجيش والسعي لانتخابات جديدة.
ويروي نذير فنصة أن تلك الأيام كانت حافلة بالمفاجآت، فيقول: “بعد أيام جاءني ضابط سوري كردي؛ أصبح فيما بعد قائداً عاماً للشرطة في عهد أديب الشيشكلي. وقال بعدما حذّرني من وجود معلومات عن تحركات مريبة ضد الزعيم: يجب على الزعيم أن يستبدل حرسه الشركسي بحرس من الأكراد، فوالدته كردية ونحن أولى بحراسته”. وأخذت المبايعات تتوارد على الزعيم، فمنها برقيات ومشاريع عديدة لإقامة تماثيل للزعيم في هذه المدينة أو تلك من سوريا. وأرسل الشاعر الحلبي عادل غضبان، رئيس تحرير مجلة “الكتاب” المصرية، قصيدة يقول فيها:
دعاكَ الزعيم فلبّ النداء
آخر مناسبة ظهر فيها الزعيم كانت حفلاً خيرياً أقامه “فندق بلودان الكبير” لدعم الهلال الأحمر السوري، حيث أقيم مزاد عرض فيه قلم الزعيم للبيع الخاص في “المزاد الاميركي” فبلغ مبلغ المزاد على القلم 60 ألف ليرة سورية، تننافس على دفعها رضا سعيد وحمد الميداني وألفرد كتانة، لكن المزاد رسا أخيراً على المستر كامبل مدير شركة “التابلاين” النفطية. وفي ليلة الانقلاب على سيّد الانقلاب 14 آب/ أغسطس 1949، تم اعتقال حسني الزعيم ورئيس وزرائه محسن البرازي واقتيد حافياً بالبيجاما وبقميص قطني، ليحتجز في ساحة مبنى الأركان العامة للجيش في الصالحية.
ولم تمض مدة قبل أن يتم نقل الزعيم بالسيارة مع البرازي على طريق المزة البعيدة عن المناطق السكنية. طلب منهما الجنود الترجّل وأشهروا بنادقهم تجاهه، فقال لهم “أنا حسني الزعيم. أنا الذي جعلت لكم كرامة. وللجيش هيبة، تقتلونني بدلاً من قتل هؤلاء الكلاب السكارى؟”، تأثر الجنود بكلماته وغيروا اتجاه بنادقهم، لكن الحكم نفّذ في النهاية. واستمر إطلاق الرصاص على جسد الزعيم ثلاث دقائق. ولم يعثر على جثته إلا في 3 كانون الثاني/يناير 1950، أي بعد قرابة خمسة شهور على إعدامه، وقد وجدتْ تحت حجر كبير قرب نهر الأعوج في غوطة دمشق، أما عصاه الماريشالية التي أحضروها له من باريس، فقد تم إيداعها في المتحف الحربي لتشاهدها أجيال السوريين المتعاقبة.
(*) يتبع: خريطة سياسية سورية يرسمها الدم