لا أصدّق أنني، الآن، في دمشق. لم تتغير عليّ الوجوه، فحسب، وإنما اللغة، أيضاً. اللغة ليست وحيدة البُعد، إنها تتضمّن العديد من المفاصل والمسارب والمشاعر والانزياحات. ما تغيّر في جسد اللغة في سوريا شيء مربك، بالنسبة لي صار الناس يتكلّمون بطريقة ترهق السامع قبل أن تدغدغ مشاعره، كما من قبل. أرأيت بلداً تتغيّر تعابيره مثلما حدث لـ«عشيقة العالَم» دمشق؟ ولكن، أين تريد أن يبدو أثر تلك السنين الخمسين التي غبْتها عنها، إن لم يكن في جسد اللغة؟ لماذا يأخذك العجب؟ أتذكُر أباك كيف كان يغيّر تعابيره في كل بقعة جديدة يحلّ فيها من أجل أن يعيش؟
خمسون عاماً من الاستبداد كانت كافية لكي تغيّر لا طريقة الحياة، فحسب، وإنما كيفية التعبير عنها، أيضاً. لا شيء يبقى كما كان. علامَ تتعجّب، إذن؟ إمشِ! ليست اللغة وحدها هي التي تغيّرت، ولكن أشياء أخرى كثيرة غيرها. وأوّل ما يثير القلق هو عدم التواصل الوَدود بين البشر، الذين يتزاحمون في طرقاتها الكئيبة. تلك هي نتيجة عقود الاستبداد الأسود، الاستبداد الذي فرّغ سوريا من جوهرها. ما تبحث عنه اختفى بشكل لا علاج له. أنظُرْ! رؤؤس الجبال محتلّة، ورؤوس البشر، أيضاً.
دمشق، اليوم، تبدو هيكلاً ترابياً بلا روح بفعل الطغيان الخبيث الذي أعادها قرناً إلى الوراء. ذلك ما تقوله لي الغربة الطويلة التي عشتها بعيداً عنها. الغربة تخلق «رؤية كونية»، لا متواطئة، ولا مجامِلة. تراقب ما تراه. وتعبّر عمّا لا تستطيع «اللغة الوطنية» التعبير عنه. وهو ما ساعدني على الامتزاج مع هذه الكائنات التي تسير صامتة، من حولي. تسير باستمرار، وبلا غاية. لكأن المشي، نفسه، صار، بالنسبة لها، هدفاً وجودياً. أتراها كانت ممنوعة من المشي أيضاً، من قبل؟ هذا ما بدا لي. و«ما يبدو» ليس حقيقياً في معظم الأحيان، وإن تكن الإشارة إليه حقيقية.
في محيط دمشق، التقي بما لم أكن أتصوّره! دمار كبير . وجوه مغبرّة وحزينة. تردُّد في الحركات، وتلعْثم في الكلمات. وحدها الشمس تضحك من بلاهتي. تسخر من توتراتي اللامسيطر عليها وأنا أرى آثار الطغيان الكاسح من التعتير، والتجهيل، والبؤس الظاهر على الوجوه التي تبدو حزينة مثل نباتات اجتُثّتْ قبل نضجها. ويصيبني الهبال، وأنا أتساءل، مؤنّباً نفسي: تعود بعد خمسين عاماً، وتتأسّى؟ لمَ العودة، إذن؟ ماذا بقي من عالمك القديم غير الشمس وضوئها الباهر. والبشر؟ البشر! لا أعرف كيف أجيب. الثابت الوحيد هو الأرض، هو الضوء، والظلال البعيدة في الأفق القصي. حتى أنا لم أعد أنا. أنا الكائن الغريب دوماً.
الآن، هأنذا أقف على «جسر فيكتوريا» التاريخي، أتحرّى الأنحاء مثل نسر هرم. لم يبقَ شيء مما كان. لا «مقهى الأصدقاء»، ولا الأصدقاء، أنفسهم، ولا بردى، ولا «سميراميس» الذي كان. لم يبقَ في العين سوى أشجار عملاقة يابسة الأغصان، وشمس حارقة بلا ندى، وبشر من نوع التراب. بشر مهمَلون يسيرون بلا اكتراث من دون أن يُدِلّوا إلى أين هم سائرون. أعرف ذلك من حركاتهم البطيئة التي لا يشوبها شغف. من رؤوسهم الثابتة أثناء المسير، وكأنهم بلا عيون. من ثيابهم القاتمة التي لا تعبرها الريح. لا أحد منهم يهتم بغيره. ولا أحد يقترب من أحد آخر. الكل صامت وأعمى. أهو الخوف القديم الذي حطّم الصلات الإنسانية، ذلك الخوف القاتل الذي زرعه الطغيان في كائنات دمشق التي أحببناها، ذات يوم؟ الآن، أمشي وحيداً في جنباتها، في قمّة الظهيرة. أريد أن أراها بعينيّ لا بخيالي. أريد أن أعرف كيف تتبدّل الأمكنة كما يتبدّل النوء. ولكن هل سيكون ذلك ممكناً.
«تفريغ الكائن» عرفناه، أمّا «تفريغ المكان» فمسألة أخرى. مسآلة تحدث خلسة، وبهدوء، وعلى سنوات طويلة، لكنها شديدة الخطورة. اليوم، أرى بعض آثار هذه الظاهرة المثيرة للرعب، وأنكفئ. أرى كل شيء، ولكن لا شيء يغريني، أو يكشف لي ما أبحث عنه. آثار الطغيان البائد لا تزال تملأ الفضاء الدمشقي المتخم بالشوائب والانكسارات، التردّي المعمم الذي خلّفه نظام الاستبداد المندثر، يجعلني أقف مذهولاً تحت سَطْوة الشمس وأنا أتملّى الفراغ . كل ما أستطيع أن أفعله هو فضح ما أراه، والتحدث عنه ككارثة إنسانية لا يجوز تجاهلها. الطغيان، «لعنة الإنسانية»، الذي عانت منه سوريا، عقوداً، هو الذي أتى على كل شيء هنا، ومحى أثَر الحياة حتى من الحياة نفسها.
في «مقهى الهافانا» العريق أجلس مرهقاً. المقهى فارغ تقريباً. الجُلساء القلائل فيه يلعبون الشدة باهتمام بالغ، وكأنهم في معركة وجودية. أقلقني هذا الاهتمام العبثيّ بلعبة يومية بلا جدوى، لكنني سرعان ما أتجاوز هذه الأحاسيس الثانوية، وأبدأ أتمتّع بوجودي في مكان كنت أحلم بالعودة إليه، والجلوس فيه. حلم رهيب هو حلم العودة. لماذا نعود؟ وإلى أين؟ وكيف؟ تلك هي طبيعة الوجود التي لا ندرك خفاياها قبل أن نحقّقها. «حلم العودة»، هذا، هو في النهاية، عَرَض جغرافيّ لمأساة إنسانية أزليّة، ومع ذلك، لم أجد ما يعصمني منها، أنا الغريب العائد.
بهدوء يحلُّ المساء على دمشق، وأنا أقف في شارع «الصالحية». أقف طويلاً بلا حراك. أنتظر ما لا أعرف كيف أسمّيه. أنظر حولي متودّداً للعابرين علّهم يألفونني، ولكن لا أحد يهتمّ بي. النوء بارد. الأنوار قليلة وخافتة. الأزياء سود ورمادية. الوجوه متعبة. حركة الناس ثقيلة وبطيئة، وأجسادهم لا شكل لها. الشارع، هو الآخر، يبدو منهكاً. أحجاره قديمة وبائسة. رصيفه مكسّر في أكثر من ناحية. وأتساءل بصمت، وأنا أتلفّت حولي: كيف فقدت الشام إنسها القديم؟ أين اختفى نسيمها العليل؟ وأريج أشجارها الغافية بين البيوت كيف ضاع؟ لكأنني لم أعد أنا الذي كان يتمتّع تحت ظلالها الوارفة بمواعيدي! وفجأة، أبدأ المسير، وأنا أرى نفسي كائنين: كائناً يمشي، وآخر يراقب الفضاء، مُتمتِماً بلوعة: «ماذا فعل الطغيان بالعالم»؟
أخيراً، في هذه الخليط الذي أحس أنه يبتلعني، ثمة شيء واحد منير، أضاء لي الطريق الذي أريد أن أمشيه حتى النهاية: طريق الوجود المتعدد الأبعاد. هذا الشيء العادل والمبهج اسمه: الأصدقاء، والأهل. أصدقاء الشام ، وحلب، والجزيرة. والأهل في الحسكة. لقاؤهم العارم كان بهجتي المطلقة. وعواطفهم الآسرة كانت أقوى باعث لي على الفرح، والسعادة . سلام لسوريا، وأهلها: من نعرفهم، ومن سنتعرّف عليهم، ومن لا نعرفهم بعد، ومن لن نعرفهم أبداً، سلام.
- القدس العربي