يا زميل! في وداع حسن النيفي

ياسين الحاج صالح

    • رحل حسن النيفي دون مقدمات. أقلّه دون مقدمات يعرفها أصدقاؤه وزملاء سنوات سجنه المبعثرين في بلدان كثيرة. يبدو أنه نُقل إلى المشفى لمرضٍ ألمَّ به في فرنسا، ورحل خلال أيام قليلة.

      في الثالثة والعشرين من عمره، كان حسن طالباً في كلية الآداب في جامعة حلب حين اعتُقل عام 1986، وذلك في إطار حملة واسعة في بلدات وأرياف حلب الشرقية جمعت فوق أربعين شخصاً، اتُهموا بـ«بعث العراق»، أو «اليمين المشبوه» بحسب الرطانة الأمنية للحكم الأسدي في تلك السنوات. كان ذلك تجريفاً لبيئة اجتماعية أكثر مما هو حملة اعتقالات تستهدف تنظيماً سياسياً وتعمل على تقويضه.

      تعرّفتُ على حسن في سجن حلب المركزي، المسلمية، وطوال نحو ست سنوات في ذلك السجن تلقّى معتقلو البعث – القيادة القومية، ومنهم حسن، زيارة واحدة من أهاليهم، وكانت في أحد الأعياد. صرنا صديقين رغم اختلافنا الفكري والسياسي. وقد يكون قرّبَ بيننا اهتمامٌ بالثقافة والكتب، وبالموسيقا. كنا محبّين معاً لأم كلثوم، لكن أذواق حسن كانت أكثر تقليدية مني، وموسيقيوه المفضلون هم زكريا أحمد ومحمد القصبجي ورياض السنباطي. وما كنت أجده عجيباً هو معرفته بالإيقاعات والمقامات الموسيقية. هذا مقام حجاز، والإيقاع سماعي ثقيل، قد يقول.

      ولا أذكر كيف اخترعنا نحن الاثنين قصة تعارفنا قبل السجن في أحد الكباريهات في حلب، حيث كان حسن ضاربَ إيقاع أو طبّالاً، فيما كنتُ أنا صحفياً فنياً أُجري مقابلات مع راقصات الكباريه ومغنّياته، وأنشرها في المجلات. وعلى مسمع من أبي حسن الهنغوري، وهو رجل سبعيني وقتها اعتُقل مع حسن ضمن حملة التجريف نفسها، كنا نُجوّدُ في هذه القصة مفتخرين بماضينا الفني، ونبتدعُ أسماء مغنّيات وراقصات، حين أخذ أبو حسن بتوبيخنا على الإساءة لسمعة أهالينا. كان ذلك مبهجاً جداً في سنوات السجن المفتوحة التي لم نكن نعرف متى تنقضي. كنا في سجن المسلمية منذ سنوات، مع أقدمية لي على حسن بنحو خمس سنوات ونصف.

      وفي عدرا، التي نُقلنا إليها في نيسان 1991 لنُقَدَّم إلى محكمة أمن الدولة العليا في دمشق، نقلنا تفاصيل سيرتنا الفنية العطرة إلى بعض الزملاء، وانطلى الأمر على رفيقنا أبو حيان، عدنان المقداد، وهو شاعر بدوره مثل حسن، ومثله رحلَ مبكراً قبل سنوات في الأردن حيث كان لاجئاً. وأورَثَنا ذلك التاريخُ الفني العريق لقبَ «الزميل» نتبادله في مخاطبة بعضنا.

      بعد أن حُكمنا في أواسط 1994، ونِلنا نحن الاثنين 15 عاماً من الحبس لكل منا، جرت مساومتنا من جديد على أن نتعاون مع المخابرات ويُفرَج عنا، وإلا نبقى في السجن أو نُعامَل بطريقة أخرى. كان ذلك في مساء يوم 22 تشرين الثاني 1995، وكنا، حسن وأنا، ممن رفضوا التعاون. وفي مطلع 1996 نُقِلنا، ثلاثين معتقلاً من ثلاث تنظيمات، إلى سجن تدمر، مَن رفضوا التعاون منا ومن وافقوا. فرّقونا هناك إلى شيوعيين و«يمين مشبوه»، ولم يفرّقوا بين أعضاء التنظيمين الشيوعيين الذين وُزِّعوا على مهجعين، قبل أن نُجمَع معاً في تموز 1996. لكننا لم نرَ حسن أو أحداً من رفاقه الثمانية، أو نسمع عنهم، بينما كنا في تدمر.

      حسن، الذي كان في السجن منذ تسع سنوات ونصف وقت نُفينا إلى تدمر، قضى ست سنوات هناك، وهي لا تُقارَن بمثلها في أي سجن آخر في سنوات حكم الأب، ولم يُنقَل من معسكر التعذيب ذاك إلى صيدنايا إلا قبل ثلاثة أشهر من انتهاء حكمه (وقتها لم يكن سجن صيدنايا ما سيكونه في عهد الابن، مسلخاً بشرياً بحسب ما وصفته منظمة العفو الدولية). وفي طريقه من دمشق إلى منبج عام 2001، كان الأمل اللجوج في قلب حسن هو أن يجد والدته على قيد الحياة، لكنها كانت قد رحلت قبل ثلاث سنوات. زرتُ الزميلَ في منزل العائلة في منبج بُعيد الإفراج عنه، وكان كما هو دائماً: الرجل الودود، المحترم، الصادق، العادل.

      كان حسن شاعراً موهوباً، يكتب القصيدة العمودية، وقد نُشر له كتاب شعري قبل الاعتقال بعنوان: هواجس وأشواق، وطبع عملين بعد السجن: رماد السنين عام 2004، ثم مرافئ الروح عام 2010. وكان يكتب مقالات سياسية بروح وطنية جامعة منذ خروجه من سورية، ينشرها في منابر سورية مستقلة ومعارضة.

      انخرطَ حسن في الثورة السورية منذ البداية، وكان عضواً في مجلس محافظة حلب الحرة، ونشطَ سياسياً في حزب النداء الوطني الديمقراطي. واضطر إلى الخروج من سورية مطلع عام 2014، حيث عاش لسنوات مع أسرته في مدينة عنتاب التركية، قبل أن يُقبَل كلاجئ في فرنسا.

      كانت محنة حسن، صليبه بالفعل، معاناة ابنه البكر من مرض نادر، جعله صعب المراس إلى أقصى حد. كان حسن هو الوحيد الذي يستطيع ضبط الولد الذي قارب العشرين اليوم. وكان مَطمعُهُ من اللجوء إلى فرنسا أن تتولى مؤسسة علاجية خاصة الاهتمام بوضع الابن، وكان قد وُعِد بذلك، لكن أكثر من ثلاث سنوات مرّت دون أن يُوفى بالوعد. وبعد سقوط الحكم الأسدي كان حسن يخطط للذهاب إلى سورية ما إن يرتفع عن كاهله عبء رعاية ابنه.

      يوم 11 تشرين الثاني الماضي، أَرسلتُ لحسن من نيويورك صورة لي مع أناند كوبال، الباحث الأميركي الذي كان يعرف حسن ومنبج، ويُعدّ كتاباً عن المدينة، وسجلتُ له رسالة صوتية أقول إنني سعدتُ بمعرفتهما وبحضوره هو في الكتاب الموعود. وبتهذيبه المعتاد، ردّ حسن بعد دقائق مُسلِّماً على «الدكتور أناند»، ولم ينسَ أن يوصيني بأن أستغل الفرصة لنوسّع عملنا نحو كباريهات نيويورك، وقد وعدته خيراً. سألته إن كان يمكن أن نلتقي في باريس التي كنت سأقصدها بعد أيام، فردَّ بأنه للأسف لا يستطيع لوجوب بقائه قرب ابنه ومتابعة وضعه. واتفقنا على أن نتحدث حين أستقر في سكني في برلين.

      لم أتصل بحسن بعدها، يا أسفي. ولم يكن في البال أن يُخطَف هكذا دون مقدمات، وهو في الثانية والستين. يُخيَّلُ لي أن الألم هو ما قتل حسن؛ طبقات من الآلام هي ما فجّرت قلبه في النهاية.

      أنعيكَ يا زميل، وفي القلب حسرة على أننا لم نلتقِ منذ سنوات، ولم نتكلم في شؤوننا الخاصة، وفي الشؤون السياسية والثقافية والموسيقية.

      يا لها من حياة، يا زميل! ويا له من بلد هذا الذي كان نصيبنا من بين البلدان! ويا له من عالم هذا الذي تركك وحيداً، غربياً، وشبه سجين من جديد!

Next Post

اترك رد

منتدى الرأي للحوار الديمقراطي (يوتيوب)

ديسمبر 2025
س د ن ث أرب خ ج
 12345
6789101112
13141516171819
20212223242526
2728293031  

Welcome Back!

Login to your account below

Retrieve your password

Please enter your username or email address to reset your password.

Add New Playlist