-
-
يقوم هذا المقال البحثي على فرضية أساسية مَفادُها أن اللامركزية هي الشرط الأهم؛ إن لم يكن الوحيد، لبناء وطنية سورية جديدة، بعد انهيار الإطار الوطني؛ وبالتالي انهيار الوطنية ذاتها، خلال سنوات الثورة والحرب الأهلية. واللامركزية ليست مجرد خيار إداري أو هيكلي، بل هي الشرط السياسي البنيوي للوطنية الجديدة التي نطلق عليها اسم «الوطنية اللامركزية». إن قيام دولة وطنية جامعة في سوريا لا يمكن أن يتحقق ضمن نموذج الحكم المركزي الذي شكّلَ أساسَ النظام السابق، بل يحتاج إلى إطار وطني جديد كلياً ومختلف نوعياً، فجوهر المسألة لا يتعلق بتوزيع السلطة فقط، بل بطبيعة العلاقة بين الدولة والمجتمع، بين القانون والسلطة، وبين المواطن والمركز السياسي.
لقد كشفت التجربة السورية الممتدة منذ الاستقلال، وبصورة أكثر فجاجة في عهد نظام الأسد الأب ثم الابن، أن المركزية السياسية ليست أداة توحيد بل آلية إنتاج للانقسام. فالنظام المركزي القائم على الولاء والغَلَبة، لا على المشاركة والمُساءلة، حوّلَ الدولة إلى هرم مغلق يختزلُ الوطنَ في القائد، والمجتمعَ في أدواته الأمنية. ولأن هذا النمط من الحكم عجزَ بنيوياً عن تمثيل التنوع الطائفي والإثني والثقافي للمجتمع السوري، فقد لجأ إلى نفيه أو تطويعه عبر آليات الخوف والتخوين وانعدام الثقة، فتحوّلَ الولاء إلى القيمة السياسية الأبرز، وأُلغيت فكرة المواطنة المتساوية من روح العقد الاجتماعي الوطني لتبقى شعاراً أجوفَ للاستهلاك النظري، دون أي تطبيق عملي في أجهزة الدولة وبنيتها السياسية.
لذلك تبدو اللامركزية السياسية الإطارَ الوحيد الممكن لتأسيس وطنية سورية جديدة، وطنية تقوم على المُشاركة لا الوصاية، وعلى الثقة بالقانون لا بأخلاق الطقم الحاكم، وعلى توزيع السيادة بدل احتكارها. واللامركزية المطروحة بهذا المعنى ليست نقيضَ الدولة، بل شرطَ وجودها الحديث؛ إذ هي ما يُتيح قيام الدولة كجهاز تمثيلي تَعدُّدي، لا كأداة سيطرة فوقية.
لكن اللامركزية هي أيضاً سيف ذو حدّين، يمكن أن تُبنى كآلية ديمقراطية لتوسيع قاعدة القرار، أو أن تتحول إلى محاصصة طائفية جديدة كما في النموذج اللبناني. والفارق بين هذين النوعين دقيق جداً، ويعتمد بالكامل على نوعية السلطة القائمة في المركز، فإن بنت نفسها على أساس ديمقراطي، سندخلُ فيما يسمى في الأدب السياسي «الديمقراطية التوافقية»، 1 وإن بنت نفسها على أساس الغَلَبة، سندخل في نظام محاصصة طائفية مبنية على حرب أهلية خامدة أو نشطة قد تُفكِّكُ الدولة. يضمن الاتجاه الأول السلم الأهلي ويعززه ويُبعد المجتمعات المنكوبة عن العنف، بينما يتجه الطريق الثاني نحو العنف والتدخلات الخارجية ورعاية الدول الأجنبية للطوائف بأكثريتها وأقلياتها.
سيناقش المقال بالتفصيل إذن فرضيته الأساسية التي تدّعي أنه: لا سلم أهلي ولا دولة مواطنة ولا وطنية جديدة ممكنة في سوريا إن لم تكن وطنيةً لامركزية. وطنية ما بعد الحرب والديكتاتورية، التي عليها أن تتجاوز منطق الغَلَبة والاحتكار نحو منطق المشاركة والمواطنة. ولذلك سنسعى إلى تحليل جذورها النظرية، وتطبيقاتها المقارنة، والسُبُل العملية لتحويلها من شعار سياسي إلى بنية دستورية واجتماعية تُعيد للسوريين شعورهم بالانتماء إلى وطن يتسع لجميع أبنائه المختلفين وجودياً وفكرياً وعقائدياً، والساعين للتساوي حقوقياً ومدنياً وإنسانياً.
أولاً: نظرة على التنوع السوري في ظل «دولة السلطة»
كان التنوع الطائفي والإثني والديني للمجتمع السوري هو القائم تاريخياً، ومازال هو واقع الحال في سوريا. وقد ظهر هذا التنوع بأسوأ أشكاله الجماعوية (وأفضل أشكاله الفردية)، خلال سنوات الحرب والثورة. ثم ظهر بشكل أكثر فجاجة بعد سقوط الأسد ضمن مجتمع مسلّح بشكل شبه كامل. وقد وصلنا اليوم إلى نقطة حرجة بحيث أن أي نظام سياسي لا يقرّ بهذا الواقع التعددي بوصفه معطى تأسيسياً لا يمكن تجاوزه، سيجدُ نفسه أمام خيارين متناقضين ومُحطِّمين لأي وطنية ممكنة: إما إعادة إنتاج الديكتاتورية الطائفية على نحو جديد، أو الانزلاق نحو حرب أهلية مُعلَنة بعدما كانت الحرب الأهلية المُضمَرة إحدى ركائز النظام السابق. ذلك أن الدولة المركزية الاستبدادية لم تكن، في جوهرها، سوى آلية لإدارة التناقضات الاجتماعية بالإكراه لا لحلّها، وآلة لتجميد الصراعات الداخلية لا لمعالجتها.
إذا أخذنا نظام الأسد بوصفه نموذجاً مثالياً للديكتاتورية الطائفية؛ وهو كذلك، فإنه من المعروف جيداً أن نظام الأسد لم يكن نظاماً للعلويين، لكنه بالمقابل جعلَ من كل العلويين أداة لحكمه بغض النظر عن قبولهم أو رفضهم لتلك الأداتية، وهذا ما طيّفَ الجماعة بالقوة وأنشأ ما سمّاه الراحل صادق العظم بـ«العلوية السياسية». فالديكتاتورية الطائفية لا تُطيِّفُ طائفة الحاكم وحدها، بل تُطيِّفُ جميع الطوائف الأخرى، وتُطيِّفُ المجالَ السياسي بأكمله، كما تجعل النظام أقلوياً «أقليّاً» حتى لو كان الحاكمُ من الأكثرية. تُعيد صياغةَ المجتمع على أساس الجماعات لا الأفراد، وتُحوِّلُ الدولة إلى وسيط دائم بين هذه الجماعات. وهكذا يُنتِجُ النظامُ مجتمعاً بلا أفراد، وأفراداً بلا ذاتٍ سياسية، وهذا يقود إلى ما سمّته حنّه أرندت عند تحليلها للتوتاليتارية بـ«تَفكُّك المجال العام»، حيث تصبح السياسة مجرّد إدارة شمولية للخوف والولاء، وتُستبدَلُ فكرةُ الشعب بفكرة الجماعة المؤمَّمة داخل جسد الدولة.
لكن تطييفَ الجماعة السنيّة الذي يمضي فيه اليوم نظامُ الشرع على خُطى النظام الأسدي؛ بعد استبدال العلويين بالسنّة، لن يجعلَ من نظامه مجرد نظام ديكتاتوري طائفي فحسب (على الرغم من طائفيته وأقلويته ضمن الجماعة السنّية)، بل يحوله إلى نظام ديكتاتوري فاشي الطابع، فحين يكون رأس السلطة «الديكتاتورية تحديداً» من الأكثرية، تفقد الطائفية المنسوبة للنظام معناها الوصفي والدلالي، لأن النظام لا يعود بحاجة إلى حماية أقلية حاكمة، بل يسعى إلى توحيد الأكثرية في هوية واحدة شمولية، وهنا يتخذ النظام طابعاً فاشياً بالمعنى الآرندتي، ويصبح الوصفُ الأكثر دِقّة هو الفاشية: أي سلطة تسعى إلى تطهير المجال السياسي من التعدُّد، وتحويل الجماعة إلى كتلة متجانسة في طاعة الزعيم.
لكن من المهم التأكيد أن الفاشية هنا ليست وصفاً للجماعة السنّية أو لأي انتماء ديني، بل وصف لبنية النظام ذاته الذي يستغل الأكثرية الدينية لتبرير الاستبداد والعنف وإنتاج وحدة قسرية تُلغي الفرد والمجتمع معاً. في الواقع، إن القول بـ«فاشية سنيّة» 2 هو بذاته قولٌ فاشي، لأنه لا يُميّز بين الناس والنظام من جهة، ولا بين النظام والطائفة من جهة أخرى، وهو تماماً مثل الحديث عن «النظام العلوي/النصيري» سابقاً، (وهو ما اعتمدته الحركات الجهادية والمستشرقون، وكلاهما لا يميز بين الناس والنظام). في الحالتين، النظام هو الذي يستخدم الطائفة، لا العكس، وهذا لا يلغي أبداً حقيقة أن الأسد عَلَوي وأن الشرع سُنّي.
لكن كما لم يكن نظام الأسد نظاماً علوياً بل نظاماً طائفياً سلطوياً وظّفَ العلوية سياسياً، فإن نظام الشرع ليس «سنّياً» بل نظاماً إسلاموياً فاشياً يوظف السنّية؛ أو الدين السنّي، كأداة شرعنة. وفي كلتا الحالتين، يُختطَفُ المعنى الديني ليُستعمَل في إعادة إنتاج الاستبداد. العلوية أقدم وأعمق وأبقى من النظام الأسدي، كما أن السنيّة أوسع وأكثر تنوعاً من النظام الإسلاموي الجديد. وهكذا، فإن مطابقة النظام بالطائفة أو الطائفة بالنظام ليست خطأً تحليلياً فحسب، بل وقوعاً في مطبِّ الاستشراق الذاتي الذي لا تتوقف عن ممارسته جميع الرؤى الماهوية والثقافوية الكئيبة.
ثانياً: حول مفهوم الوطنية
قبل الحديث عن صفات الوطنية السورية، إن كانت مركزية أو لامركزية، نجد أنه من الضروري؛ معرفياً وسياسياً، الدخول والتشابك مع مفهوم الوطنية ذاته. ذلك أن هذا المفهومَ خلافيٌ ولا يُحيل إلى المعنى نفسه في النقاش الثقافي أو الخطاب السياسي، ولا يصدر عن الفهم ذاته، لا عند الكتّاب الذين يستخدمونه، ولا في الخطابات السياسية والمعرفية السائدة اليوم في الفضاء الواقعي أو الافتراضي. وعلى الرغم من ذلك نجد أن الجميع يستخدم هذا المفهوم وكأن معناه بديهيٌ وثابتٌ ومُتَّفقٌ عليه، أو كأنه لا يحتاج إلى نقاش يوضح المقصود منه وفيه قبل استخدامه، أو كأنه «كان، وما زال، وسيبقى» هو ذاته على مرِّ الأزمان، لا يتغير مع تغير المجتمعات وحركة التاريخ.
من الملفت للإنتباه أيضاً أن يكون المعنى الأكثر سواداً وتداولاً للوطنية هو معنى أخلاقي هلامي وغير مُحدَّد، يتم عبره ربطُ الوطنية بالوطن لا بالمواطنة، بالأرض والتاريخ واللغة لا بالحقوق المدنية والسياسية والقانونية، ودمجه بحب الوطن والاخلاص له والتضحية في سبيله، بدلاً من الحماية والحرية التي يتمتع بها مواطنو الدولة. وهذا ما ينتج، بطبيعة الحال، الثقافة السائدة اليوم حيث يُوصَف أحدهم بأنه «وطني» بقصد المدح والتكريم الأخلاقي، بينما يوصف آخر أنه «غير وطني» بقصد الذم الأخلاقي والاتهام بالخيانة أو العمالة ضد الوطن.
لذلك سنقوم أولاً بالتمييز المعرفي وفَكفكة الاندماج والانصهار الحاصل بين مفهوم «الوطنية» والمفاهيم التي ارتبطت به وتشابكت معه، ولاسيما مفهومَي الوطن والمواطنة، ثم سنقوم ثانياً بالتمييز المعرفي والتفكيك الابستمولوجي للمعاني الأخلاقية والسياسية والثقافية التي أخذها مفهوم الوطنية ذاته.
لكن من الضروري التأكيد، قبل ذلك، على أن التمييزات التي سنقوم بها لا تعني النفي المطلق لأي تشابك معرفي بين مفاهيم «الوطن، الوطنية، المواطنة»، ولا نفي التشابك الواقعي القائم بين معاني الوطنية «الأخلاقية، السياسية، والمعرفية»، فالتفكيك كمنهج يحمل على الدوام طابعاً إجرائياً لا يكتمل إلا بإعادة التركيب بصيغ جديدة. وتلك المفاهيم موجودة ومترابطة واقعياً على نحو دائم، لكنها تحتاج لإعادة خلق روابط جديدة؛ تُغيّرُ معناها ذاته أولاً، وتُغيّرُ العلاقات فيما بينها ثانياً، وتُغيّرُ علاقتنا بها في النهاية. وإذا كان صحيحاً أننا لا نقوم بإعادة اختراع العجلة هنا؛ كما يُقال، فإنه من الصحيح أيضاً أن اختراع العجلة المطاطية الصلبة بدلاً عن العجلة الخشبية، هو إعادة اختراعٍ للعجلة أيضاً، وبالتالي إعادة اختراعٍ لمعنى المركبة كلها.
تفكيك مفاهيم الوطن، الوطنية، والمواطنة
1- مفهوم الوطن: يتم التعبير عادة عن الوطن بوصفه الدولة، أو عن الدولة بوصفها الوطن، لكن ليس هناك تطابق تاريخي ولا معرفي بين مفهومي الوطن والدولة، فمفهوم الوطن هو مفهوم قديم جداً قياساً بمفهوم الدولة الحديث نسبياً. للوطن معنى مادي مُجسَّد، يمكن لأي شخص الإحساسُ به وتصّوره وتذكره من خلال الأشخاص والأماكن والأشياء؛ الأرض التي نشأت عليها والتراب الذي تعرف رائحته والناس الذين كبرت بينهم. وبكلام آخر، الوطن كيان مشخّص وعاطفي يمكن الشعور به والحنين إليه، وأما الدولة فهي كيان سياسي مجرّد وهيكل مؤسساتي وظيفي، لا ينتمي لحقل المشاعر والعواطف بل العقلانية والحسابات والمنافع والحقوق والواجبات.
في الأصل، مفهوم الوطن (home – homeland) ومفهوم الدولة (state) ليسا الشيء نفسه. الوطن يرتبط بالانتماء العاطفي والثقافي والذاكرة الجماعية، هو «الأرض؛ أي الـ land، التي نشعر أنها بيتنا»، حتى لو لم يكن مُعترَفاً بها سياسياً (فلسطين مثلاً). أما الدولة، فهي كيان سياسي/قانوني قائم على عناصر محددة (أرض، شعب، سيادة، سلطة)، مُعترَف بها ضمن النظام الدولي.
قبل صلح وستفاليا عام (1648)، الذي نشأت معه الدولة الحديثة، كن الناس ينتمون إلى إمبراطورية، مملكة، أو طائفة دينية أكثر من «وطن» بالمعنى القومي. كما أن مفهوم «الوطن/البيت/home» كان يُدرَك بوصفه القرية أو القبيلة، وليس الدولة. لكن مع صعود القومية في أوروبا في القرنين الثامن والتاسع عشر، بدأ يُنظَر إلى «الوطن» على أنه مرتبط بالشعب واللغة والثقافة، وصار الهدف أن يكون لكل «أمّة» دولة خاصة بها. هنا بدأ يقتربُ الوطن من الدولة (مثلما حصل مثلاً في إيطاليا وألمانيا بعد توحيدهما في القرن 19). لكن ليس إلا في القرن العشرين، وتحديداً بعد الحربين العالميتين، حتى تأسَّست فكرة أن الدولة القومية (Nation-State) تُساوي الأرض والشعب والثقافة والتاريخ والسلطة السياسية. وهنا بدأ يحصل التطابق أو الدمج بين الوطن والدولة.
في سوريا، نشأت الدولة بالمعنى الجغرافي مع خرائط سايكس/بيكو 1916-1920 التي قسّمت التركة العثمانية. لكنها لم تصبح دولة بالمعنى السياسي والسيادي حتى خروج الفرنسيين عام (1946). تركت فرنسا تشريعات وقوانين ودستور عصري يفصل بين السلطات ويحددها، لكن تلك التركة العصرية لم تصمد أمام البنية الأهلية للمجتمع من جهة، وسيطرة العسكر على السلطة من جهة أخرى، حيث خرجت البنى الأهلية/العسكرية من قلب تلك التشريعات التي لبستها كقشرة خارجية، لتُشكّل هي بذاتها وبالعمق مضمونَ الدولة. في الشكل ستجد الحزب والبرلمان والقضاء والجيش، وفي العمق ستجد القبيلة والعشيرة والطائفة والقرابة. الهيكل الحداثي للدولة إذن بقي كما تركته فرنسا، لكن فقط من حيث الشكل، أمّا من حيث المضمون فقد تم لوي عنق الدولة لتصبح قبيلة كبيرة على شكل دولة، وذلك بكل ما تعنيه القبيلة من قوانين وأعراف وعلاقات رعوية وتنافس ذكوري قبلي وعبادة للزعيم.
احتكارُ العسكر للسلطة الذي تجذّرَ بعد الوحدة مع مصر ثم الانفصال عنها، وَحَّدَ مفهومَ السلطة مع مفهوم الدولة دون أن يُوحِّدَ أو يُطابِقَ بين مفهوم الدولة ومفهوم الوطن، فبقي الوطن هو الوطن القومي العربي الكبير؛ لكن الغائب، بينما الدولة هي مجرّد السلطة «القُطرية» الحاكمة. ذلك التوحيد أو الدمج بين السلطة والدولة الذي أصبح ثابتاً بعد استلام حافظ الأسد، وما زال مستمراً حتى يومنا هذا، منعَ من جهة أي تَطابُق؛ شعوري أو قومي أو مؤسساتي مُقونَن، بين مفهومي الوطن والدولة، حيث ما تزال فكرة «الوطن السوري» غريبة عن الاجتماع السياسي. ومن جهة أخرى طابقَ في المخيلة الجمعية والفعل السياسي بين السلطة والدولة، وبين معارضة السلطة ومعارضة الدولة، فبات الموالي «وطني-مع الدولة» والمعارض «خائن- ضد الدولة»، والخلاف السياسي على/مع السلطة هو خلاف وجودي على/مع الدولة، وهو ما أوصلنا إلى أن يؤدي انهيار السلطة بالفعل إلى انهيار الدولة ومؤسساتها، وأن يصبح صعود السلطة الجديدة هو إعادة هيكلة للدولة بشكل كامل، وإعادة دمج بالطريقة والأدوات ذاتها لمفهومي السلطة والدولة.
2– مفهوم الوطنية: مرَّ مفهوم الوطنية (Patriotism /Nationalism) بعدّة مراحل وتغيرات تاريخية بالتزامن دائماً مع تغيُّر وتطور مفهوم الوطن ذاته في التاريخ من جهة، وتغيُّر شكل وحدود ومعنى الدولة الذي تحدثنا عنه في الفقرة السابقة من جهة ثانية.
ارتبط مفهوم الوطنية على نحو دائم بجملة المبادئ والقيم والمعايير السياسية، التي تحدد بدورها شكل العقد الاجتماعي القائم بين السلطة والمجتمع، ولذلك نجد أنه في الإمبراطوريات القديمة (روما مثلاً) كانت الوطنية تعني الولاء المطلق السياسي/العسكري للإمبراطورية ولشخص الإمبراطور بالذات. وفي العصور الوسطى بشكل عام كان الناس يَدينون بالولاء للإقطاعي أو للملك أو للكنيسة. ثم مع ظهور الدولة الحديثة لم تعد الوطنية تقتصر على الولاء لشخص الملك، بل الانتماء إلى الدولة/الأمة. ولم يلبث أن انزاح مفهوم الوطنية نحو طابع شعبي/جمهوري مع الثورتين الأميركية (1776) والفرنسية (1789) اللتان مثّلتا نقطة تحول في التاريخ، حيث ظهرت الوطنية لأول مرة بوصفها انتماءً للأمة والشعب وليس للملك والعرش، كما أصبحت القيم التي أفرزتها الثورة الفرنسية (الحرية، المساواة، الحقوق) في صلب الفكرة الوطنية.
أخذَ مفهوم الوطنية تحولاً جديداً مع صعود القومية في ألمانيا وإيطاليا في القرن التاسع عشر، حيث تمّ ربط الوطنية باللغة والثقافة والتاريخ المشترك (وهو المعنى الذي اعتمده فيما بعد نظاما البعث في سوريا والعراق). وإذا كان صحيحاً أن ذلك التحول نقلَ الفكرة الوطنية من الولاء المحلي والديني إلى الانتماء الوطني، إلا أن امتداداته في القرن العشرين مع النازية الألمانية والفاشية الإيطالية تجسدت في القومية المتطرفة والعرقية المتعصبة التي تقدّس الدولةَ والولاءَ للزعيم. وإذا كان من الصحيح أيضاً أن الفكرة الوطنية في كل من آسيا وأفريقيا ارتبطت بحركات مقاومة الاستعمار والتحرر الوطني وبناء الدول المستقلة كما في (الهند، الجزائر، سوريا)، إلا أنه بعد الاستقلال لم تجد الأنظمة التي نتجت عنها أمامها إلا إحياء المفاهيم النازية والفاشية ذاتها حول الوطنية، وهو ما جسّدته الأنظمة العسكرية التي انتهى إليها الحكم بعد الاستقلال (سوريا نموذجاً)، فأعادت بناءَ الوطنية على أسس اللغة والثقافة والأرض والتاريخ المشترك، والأهم؛ بالمعنى السيئ للكلمة، كان تقديس الدولة وعبادة القائد.
على المقلب الآخر نجد أنه بعد انتصار الحلفاء ونهاية الحرب العالمية الثانية تمّت إعادة تعريف الوطنية في أوروبا الغربية كلها بعيداً عن التطرف القومي، لتعلو مبادى الديمقراطية وحقوق الإنسان ويظهر مفهوم الوطنية الدستورية (Constitutional Patriotism) الذي طوره يورغن هابرماس 3 بحيث لم يعد الانتماء الوطني يُؤخَذ من روابط الدم أو العرق أو الأمة أو روح الشعب بل من القيم المشتركة المُصاغة في الدستور والمُعبَّر عنها في القوانين، كما لم تعد الوطنية مرتبطة بالولاء للسلطة بل بتطبيق القانون والولاء للقيم الدستورية القائمة على حقوق الإنسان والمواطنة والديمقراطية والمشاركة السياسية.
في سوريا، اتخذت الوطنية طابعاً غنائياً مثالياً وعاطفياً، أقرب إلى قصيدة الزجل منه إلى العقد الاجتماعي. لم تتجذر الوطنية في مؤسسات أو قوانين أو منظومة حقوقية، بل ظلت فكرة أخلاقية تُستدعَى في الخطب والاحتفالات، منفصلة عن واقع الدولة وعن علاقة الفرد بها. لقد ارتبطت الوطنية بمفهوم الوطن لا بمفهوم المواطنة، وارتبط الوطن بالمكان والانتماء القبلي والعاطفي أكثر من ارتباطه بالمواطنة والحقوق والحريات الفردية، وغالباً ما اتخذت شكل تمجيد للذات الجمعية وإعلاء لها إلى درجة الشوفينية، عبر تقديس اللغة والثقافة والتاريخ العربي والإسلامي، والتشبث بأوهام البطولة في الماضي تعويضاً عن الهزائم والانكسارات في الحاضر.
بهذا المعنى، يمكن القول إن الوطنية السورية نشأت محمولة على نزعة مركزية ترى في الوحدة والانصهار قيمة مطلقة، وفي التعدُّد والتنوع تهديداً لبنية الدولة والمجتمع. لقد قدّست مركزيةَ القرار، وعدّت الاختلافَ ضعفاً، واعتبرت التنوع خطراً ينبغي احتواؤه أو نفيه. والأخطر من ذلك كله أن الوطنية تحوّلت مع الزمن إلى مرادف مُحكَم للولاء للسلطة لا الولاء للدستور، حتى باتت السلطة نفسها هي التي تحتكر تعريف الوطن وتملك حق تحديد من هو الوطني ومن هو الخائن. وهذا التحوّل من وطنية المواطنين إلى وطنية النظام سيشكّل لاحقاً أحد المفاتيح الجوهرية لفهم انهيار مفهوم الوطنية في سوريا، وهو ما سنناقشه بتفصيل أعمق في الفقرة التالية عند تحليل معاني الوطنية.
3– مفهوم المواطنة: كانت المواطنة امتيازاً نخبوياً في أثينا، فليس جميع الناس مواطنين أحرار أو متساوين، بل إن المواطنة ظلّت مقصورة على فئة ضيقة من الرجال المحليين من أصول معينة، بينما كان العبيد والنساء والأجانب محرومين من ذلك الامتياز. أما في روما فقد توسَّعَ مفهومُ المواطنة، وأصبح المواطن الروماني (Civitas Romanus) يحمل حقوقاً وحماية قانونية حتى لو كان خارج روما.
أوروبا الإقطاعية في العصور الوسطى والعالم الإسلامي (العثماني/المملوكي) لم يعرفا مواطنة بالمعنى القديم أو الحديث وقتها، فالعلاقة «المواطنية» كانت ولاءً شخصياً للملك أو الإقطاعي في أوروبا، أو ولاء شخصياً للسلطان والخليفة أو الوالي أو الملّة أو الدين في العالم الإسلامي. لكن مع صعود الدولة الحديثة بعد صلح ويستفاليا 1648، ظهرت نظريات العقد الاجتماعي مع كلِّ من توماس هوبز 1588-1679 وجون لوك 1632-1704 وجان جاك روسو 1712-1778 على التوالي، والتي اشتركت بفكرة جوهرية وهي أن المُواطِن يتنازل عن بعض حرياته مقابل الحماية والأمان التي تفرضها السلطة. وعلى اعتبار أن الوطن بات يعني الدولة ذات السيادة، صار المواطن مرتبطاً بدولة محددة يسود فيها عقد اجتماعي بين الشعب والسلطة، يتحدد فيه شكل الحقوق والواجبات المفروضة على أفراد المجتمع.
أعطت الثورة الفرنسية معنىً جديداً للمواطنة، يقوم على المساواة أمام القانون زائد المشاركة السياسية، إلا أن التصاق المواطنة بفكرة «الأمة» مع القومية الألمانية/الإيطالية في القرن التاسع عشر، جعل المواطنة تقتصر على من ينتمي للأمة (لغة، ثقافة، عرق، تاريخ)، ويبقى الآخرون مهمشين ومَقصيين، ولا سيما الأقليات، الأمر الذي انتهى بكارثة المحرقة النازية في منتصف القرن العشرين. إلا أنه بعد نشوء الأمم المتحدة عام 1945، ثم اعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة لنصوص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948، جرى تحوّل عميق في معنى المواطنة حيث باتت حقوق الإنسان «المواطن» أعلى حتى من سيادة الدولة، بمعنى أن الحقوق الأساسية للإنسان/المواطن باتت «عالمية» أو فوق وطنية، وينبغى ضَمانُها لجميع البشر من حيث المبدأ، بغض النظر عن العرق أو الجنس أو الدين أو اللغة، وضَمانُها للقاطنين ضمن نطاق الدولة حتى لو كانوا مهاجرين. وبكلامٍ آخر، لم تعد سيادة الدولة مطلقة كما كان الحال في السابق، بل يمكن خرقها والتدخل عبر الأمم المتحدة في حال قام نظام سياسي بارتكاب المذابح والانتهاكات المروعة لحقوق الإنسان ضد مواطنيه.
في سوريا، لم يُختبَر معنى المواطنة الحديثة يوماً في أي مرحلة من تاريخ الدولة الوطنية. فالمواطن لم يكن سوى رعية في دولة ترى نفسها مالكةً للرعايا، لا خادمةً لهم. الرعية ليست طرفاً في عقد اجتماعي، بل موضوعاً في خطاب الطاعة؛ كياناً يُراقَب ويُعاقَب، لا يُشارَك ولا يُسأَل. وهكذا، لم يكن لحياة الأفراد قيمة مستقلة عن إرادة السلطة، إذ سُمحَ بقتلهم تحت التعذيب، أو بقصفهم بالبراميل المتفجرة والأسلحة المحرّمة دولياً، أو بفتح الأبواب أمام تدخلات عسكرية وميليشياوية أجنبية داخل حدود الوطن لحماية السلطة الحاكمة، أو أخيراً تم ذبحهم بالسكاكين وارتكاب المجازر ذات الطابع الإبادي بهم، كما فعلت قوات السلطة والعشائر الرديفة في الساحل والسويداء. لكن على طول خط الزمن السوري بالعموم، بقيت مفاهيم الحرية والكرامة والمساواة والحقوق المتساوية كلمات معلّقة في هواء الشعارات.
لقد استقرَّ في بنية الدولة السورية نوع من التمييز البنيوي العميق بين الأفراد، لا يقتصر على السياسة بل يتغلغل في الاجتماع والثقافة والإدارة: تمييز طبقي وجنسي وعشائري وديني وطائفي ولغوي وإيديولوجي بين المواطنين. وأصبحَ يمكن القول: إن اللامساواة هي القاعدة التي يقوم عليها النظام السياسي والاجتماعي؛ وما زال، بينما المساواة استثناء مؤقت أو امتياز شخصي تحدده درجة القُرب من السلطة والولاء لها والانتساب لإيديولوجيتها.
تفكيك معاني الوطنية في السياق السوري، أو الوطنية بين الأخلاق والحقوق والسياسة
قلنا سابقاً إن هناك مشكلة في معنى الوطنية ذاتها في السياق السوري حيث تختلط المعاني الأخلاقية والحقوقية والسياسية للمفهوم، وحيث نجد أن المعنى المُدرَك عادة في الاستخدام، أو المعنى الأكثر تداولاً ضمن الخطابات السياسية والثقافية يتمركز حول الجانب الأخلاقي الذي يستغرق أو «يبتلع» كل المعاني الأخرى الممكنة، ولذلك لا بدَّ أولاً من تفكيك معنى الوطنية قبل إعادة تركيبه وصياغته بشكل واضح ومتميز. والخطوة الأولى في ذلك هي التمييز بين ثلاثة مستويات أساسية للوطنية، أو ثلاثة طبقات داخل المعنى:
1- المعنى الأخلاقي للوطنية: من هذا المعنى تصدر عدة أحكام وقضايا أخلاقية، مثل حب الوطن، الدفاع عنه ضد الأعداء، الإخلاص للوطن وعدم تفضيل أي وطن آخر عليه، أي عدم خيانته، التضحية من أجل الوطن وتفضيله على العائلة والأهل والانتماءات الضيقة…الخ. وجميع ما سبق هو كلام أخلاقي وخلافي وغير قابل للقياس، حيث أنه يصدر عن المشاعر والتصورات أكثر من صدوره عن أي معايير موضوعية. وهذا المعنى هو الأكثر شيوعاً في الأدبيات السياسية السورية، نسمعه في كثير من الأحكام من مثل: «إنسان وطني» «قلبه على البلد» «معارض شريف». ومن هذا المعنى تصدر أيضاً أحكام التخوين والعمالة وفرز الناس إلى وطني وغير وطني. وعبره تصبح الوطنية معياراً أخلاقياً/سياسياً لتصنيف الأفراد والحكم على النوايا.
المشكلة التي لا ينتبه لها أحد، أو يتجاهلها الجميع في تلك التركيبة، هي أنه باعتماد المعنى الأخلاقي، يمكن وصف جميع الأنظمة بأنها «وطنية»، بغض النظر عن طبيعتها سواء كانت فاشية أو ديمقراطية، دينية أو طائفية: فالنظام البعثي في سوريا، نظام الولي الفقيه في إيران، أو حتى نظام طالبان في أفغانستان، جميعها وطنية طالما تُقدّم نفسها باعتبارها حامية للوطن من الأعداء وتحافظ على تماسكه. بالمعيار الأخلاقي، كان نظام حافظ الأسد نظاماً وطنياً بامتياز، حيث أراد أن يبني دولة قوية لها وزنها الإقليمي والدولي، وأراد أن يحافظ على السلم الأهلي حتى ولو بالقوة أو بتحويل المجتمعات المتنوعة إلى قنابل موقوتة يقوم بوضع نفسه ونظامه كصمّام أمان لها. فسيّجَ المجتمع بحدود السلطة الوطنية ورؤيتها ومعاييرها وحاجاتها الأمنية، وحوّلَ الوطن إلى مزرعة والمواطنين إلى قطيع، ولذلك لم تلبث في عهد ابنه أن قامت الحراكات الاجتماعية لتُسمِعَ صوت المجتمعات وتطالب بحقوقها السياسية والمدنية حتى انهار السياج الوطني وانهارت معه الوطنية ذاتها.
تكمن خطورة هذا المعنى، كما أوردنا سابقاً، في أنه يربط الوطنية بالوطن لا بالمواطنة، ويجعلها حكراً على السلطة القائمة، حيث يصبح أولاً، السلطة تمثل الوطن وتحتكر تعريف الوطنية. ثانياً، نقد النظام السياسي يُترجَم إلى «خيانة الوطن». ثالثاً، تُصبح الدولة «عائلة مُوسَّعة»، والنظام هو الأب الذي يعرف مصلحة الأبناء أفضل منهم و«يضبضبهم» إلى العائلة بالقوة. وتلك الأشياء بالجملة، تبدو الوصفة، أو النموذج المثالي للوطنية الذي تسعى له سلطة الشرع وهيئة تحرير الشام، ولذلك نراها تسلك الطريق ذاته الذي أسَّسه حافظ الأسد وتجعل منه «مثلاً أعلى» وطني من حيث لا تدري، أو من حيث تَطابُق الكاره والمكروه في العمل رغم عدائهما في الإيديولوجيا والعقيدة.
2- المعنى الحقوقي للوطنية: ضمن هذا المعنى تتحول الوطنية إلى إطار قانوني، مرتبط بالنصوص الدستورية والقوانين الواضحة. وعلى هذا الأساس، يصبح الوطن وطناً حقيقياً عندما يضمن الدستور حقَّ المواطن في الأرض، والتنقل، والملكية، والتعبير الحر، والإقامة في أي مكان ضمن الحدود الوطنية.
إن شرط الوطنية الحقوقية هو المساواة التامة بين المواطنين دون تمييز على أساس الدين أو الطائفة أو العرق أو اللغة. وبالتالي لا يحق لأي سلطة أو فرد حرمان المواطن من حقوقه إلا بموجب حكم قضائي عادل محدد بقوانين معروفة ومعلنة. وأخيراً نجد أنه بهذا المعنى الحقوقي الصرف، لا تعود الوطنية شعوراً أو ولاءً لا يمكن قياسه كما هو الأمر في المعنى الأخلاقي، بل مجموعة حقوق والتزامات مترجمة في القانون.
المعنى الحقوقي كان وما زال شبه غائب في سوريا، حيث ما زالت المساواة الحقوقية التامة بين المواطنين المختلفين دينياً وعرقياً وطائفياً، أو بين الرجال والنساء، حلماً بعيد المنال عن الواقع الذي عاشه وما زال يعيشه السوريون، فالسلطة الحالية تمعن في التمييز الحقوقي الذي أسَّسته في نص الإعلان الدستوري المؤقت عبر إعطاء الرئيس صلاحيات شبه مطلقة «شبيهة بصلاحيات بشار وأبيه»، أو عبر انتخابات مجلس الشعب وتشكيل الحكومة وسيطرة السلطة التنفيذية على السلطتين القضائية والتشريعية، كما تتعامل مع الأقليات بوصفهم أهل ذمّة أكثر من كونهم مواطنين متساويين في الحقوق والواجبات مع غيرهم.
3- المعنى السياسي للوطنية: وفق هذا المعنى، كل فرد يحمل الجنسية ويتمتع بحقوق المواطنة هو وطني بحكم التعريف. واستناداً لهذا المعنى، لا فرق بين الموالي والمعارض والصامت أو الرمادي، ولا حتى بين من وُصفوا بـ«الإرهابيين» أو «الشبيحة» أو «الفلول» أو «الهجريين» أو «القسديين». طالما هم مواطنون، فهم وطنيون. وإذا كان يمكن محاكمة أي فرد بوصفه مواطن إذا ثبت أنه مجرم أو إرهابي، فإن تلك المحاكمة تفقد «وطنيتها» إن تحولت إلى محاكمة سياسية بحتة بدلاً من كونها محاكمة قانونية وحقوقية بالدرجة الأولى.
ضمن المعنى السياسي للوطنية، فإن الخلافات السياسية أو الإيديولوجية أو الأخلاقية لا تلغي وطنية المختلفين، بل تعكس تعددية في رؤى بناء الوطن. وتلك التعددية، كانت وما زالت غير مُقرَّة أو مؤسسة في بنية النظام السياسي، وغير مُتقبَّلة ولا مُدمَجة في الثقافة السياسية السورية عند غالبية المختلفين في الإيديولوجيا أو السياسة أو العقائد أو الأخلاق، وذلك على الرغم من وجودها الواقعي أولاً، وضرورتها ثانياً، والحاجة لوجودها ثالثاً، وذلك من أجل إبراز الغنى والتنوع الوطني بدلاً من الانمحاء الوطني والمجتمع المقموع «المتجانس» الذي تنتجه السياسة الواحدية بالمعنى العقائدي أو الأيديولوجي. وفي المحصّلة، إن ما ينبني عليه المعنى السياسي للوطنية، هو أن الوطنية ليست انتماءً عاطفياً وحكماً أخلاقياً، وإنما وضعاً سياسياً وقانونياً مشتركاً، لابد أن يعيشه ويمارسه الجميع ضمن الفضاء الوطني والحقل السياسي والاجتماعي.
كخلاصة لكل ما سبق حول معاني الوطنية، يمكننا القول إنه في السياق السوري، لا بدَّ من العمل السياسي والحقوقي والثقافي، على ربط الوطنية بالمواطنة، وفصل ارتباطها العضوي بالوطن، لأن حالة الانصهار التي كانت وما زالت سائدة في سوريا بين الوطن والوطنية، لم ولن تُنتِجَ لنا إلا معانٍ أخلاقية يسهل تأويلها سياسياً تبعاً لمصالح وعقيدة النظام السياسي. فطالما بقيت الوطنية محصورة في معناها الأخلاقي، وبقيت تُرَدُّ للوطن بدل المواطنة، ستظل عرضة للاحتكار من قبل السلطة، وتبقى معادلة «الخروج عن النظام تساوي خيانة للوطن» هي السائدة. ولذلك فإن المعنى الحقوقي والسياسي للوطنية يسمح بفك هذا الارتباط، إذ ينقل الوطنية من الولاء للسلطة نحو الولاء للقانون والدستور.
من هنا تكون إعادة تعريف الوطنية على أنها نتاج المواطنة؛ لا مجرد حب للوطن أو ولاء للنظام، ضرورة وجودية ومبدأً تأسيسياً للوطنية اللامركزية. فالوطنية الحديثة لا تترسخ إلا إذا بُنيت على المواطنة، أي على الحقوق والواجبات المضمونة بالدستور. وربما تكون الحالة السورية بعد الحرب هي الحالة المُثلى التي لم يعد من المجدي فيها أن تُبنى الوطنية على «العروبة» أو «الإسلام» أو «القومية» أو «المقاومة والممانعة» أو أي هوية مغلقة، بل على دستور يساوي بين الكردي والعلوي والسنّي والدرزي والمسيحي. المُواطَنة هنا تصبح أداة توحيد، لا أداة ابتزاز وإقصاء. وإذا انهار النظام فلن ينهار الوطن، لأن الرابط سيكون القانون والمؤسسات، لا الولاءَ لشخص. لكن ذلك بالجملة هو ما تبتعد عنه السلطة التي يؤسسها أحمد الشرع كل يوم أكثر فأكثر منذ وصوله مع هيئة تحرير الشام إلى الحكم، وإن استمرت على ما هي عليه، فلا يبدو أننا ذاهبون باتجاه وطنية لامركزية دستورية في أي وقت قريب في المستقبل.
ثالثاً: المركزية واللامركزية، مقاربة فلسفية-نقدية
حين نتحدث عن نظامِ الدولة، النظامِ القائم في أي دولة، يتبدى أمامنا سؤال جوهري: من أين تنبع السلطة؟ هل تتجسد في مركز سيادي واحد يحتكر القرار ويوزعه نحو الأطراف؟ أم أنها تتوزع على مستويات متعددة بحيث يصبح القرار انعكاساً لإرادة متشابكة ومتنوعة تنتج السلطة وتتشاركها؟
هذا السؤال ليس سؤالاً تقنياً محضاً، بل هو سؤال فلسفي-سياسي يرتبط بالتصور العميق للسيادة، للمواطنة، وللوطنية ذاتها. وفي النظام المركزي، لا تكون مركزية القرار مجرد آلية حكم ولا مجرد ترتيب إداري، بل هي رؤيةٌ للعالم السياسي وفلسفةٌ سياسية (غالباً ميكافيلليّة). رؤية تُصوِّرُ الدولة جسداً متماسكاً، تنبعث وحدتها من رأس الهرم، ثم تُختزَل الدولة في الرأس الحاكم. هذا التصوّر يجعل من المواطنين موضوعاً للتربية والتوجيه، لا شركاء في الإرادة العامة ولا في الولاية على أنفسهم. وبالتالي ينبثق القرار الحقيقي من الأعلى لأن المركز يظهر بوصفه أقدرَ على معرفة المصلحة العامة. بل يتم التعامل على أساس أن تدفق السلطة من المركز إلى الأطراف هو «نعمة» تنظيمية لا بد منها.
بالمقابل، فإن اللامركزية ليست مجرد تقسيم إداري أو جغرافي أو سياسي/فيدرالي، 4 بل فلسفة سياسية مختلفة تماماً، تقوم على الثقة بالناس واعتبارهم فاعلين سياسيين قادرين على المشاركة في صياغة مستقبلهم. وبالتالي لا تقف اللامركزية عند كونها تقنية نقل صلاحيات من المستويات العليا إلى المستويات المحلية، ولا عند كونها فصلاً حقيقياً بين السلطات الثلاث: التنفيذية، التشريعية، والقضائية، بل هي فلسفة تفسيرية للسياسة، تقوم على الثقة في قدرة المجتمعات المحلية المتنوعة على إدارة شؤونها، وقبول أن المصلحة العامة لا تُحجَّمُ في صيغٍ موحّدة واحدة، وأن تعددية الإجراءات والمشاركات تعزز الحرية والفاعلية والعدالة على المستوى الوطني.
هذان التصوُّران ليسا متقابلين فحسب على مستوى التنظيم؛ إنهما يحملان فهمين مختلفين للغاية لماهية الدولة، وللعلاقة التي تجمع الدولة بمواطنيها. ويطرحان أسئلة من قبيل: هل الدولة كيان، أم جهاز؟ هل الوطن قيمة أخلاقية أم فضاء حقوقي؟ هل المواطنة علاقة مبنية على الطاعة أم على الحق؟ الإجابات على تلك الأسئلة تقرر شكل الحياة السياسية في أي مجتمع، وتضعُ الأسسَ الأخلاقية والثقافية والحقوقية للاجتماع السياسي ضمن أي دولة.
1- المركزية: منطقها التاريخي ومآلاتها البنيوية
لم تنشأ الدولة الحديثة، التي أسَّستها معاهدة وستفاليا 1648، إلا بوصفها دولة مركزية. وفيها تَقرَّرَ أن السيادة هي وحدة غير قابلة للتجزئة. الدولة الأوروبية المركزية بُنيت كسلطة مطلقة للملك، ثم تحوّلت تدريجياً إلى جهاز بيروقراطي قوي. في فرنسا مثلاً، أوجد نابليون بونابرت النموذج الأقصى للدولة المركزية، حيث رُسمت الحدود الإدارية من باريس وصارت جميع الطرق تؤدي إلى العاصمة. 5 هذه المركزية أعطت الدولة قوة هائلة لكنها زرعت بذور البيروقراطية الجامدة. وأما في العالم العربي، فقد ورثت الدول المستقلة هياكل استعمارية مركزية، غالباً مُشوَّهة، ولم تنشأ من عقد اجتماعي محلي، فمصر الناصرية مثّلت نموذجاً مبكراً لمركزية الدولة/الأمة المحكومة بالديكتاتورية العسكرية والزعيم الجماهيري القوي. وأما في سوريا، فقد مثّلَ عبد الناصر النموذج الأعلى المُقتدى لحكم سوريا على أسس مركزية في زمن البعث، وهذا المسار بلغ ذروته القسرية مع نظام الأسد، إذ لم يعد المركزُ الأمني/العسكري يدير شؤون الدولة فحسب، بل أصبح اسمُ الدولة ذاتها «سوريا الأسد». وفي سوريا الأسد، لا تتجلى المركزية في عربيةِ الدولة وطرد الكرد؛ لغةً وقومية، خارج بنية الدولة العميقة وتعريفها لنفسها فحسب، بل إن الدولة كلها تركّزت في السلطة، والسلطة كلها تركزت في يد الأسد، ولم يعد للدولة معنى وظيفي أو إداري أو سياسي خارج جهاز السلطة.
من الناحية البنيوية، ومن منظور تحليلي، تملك المركزية في العمق «اقتصادها الداخلي للشرّ»، فهي موَلِّدةٌ للفساد بنيوياً وليس كآلية وظيفية فحسب. القرار يتباطأ كلما صعد في السلّم الهرمي، فتشتغل البيروقراطية العمودية ويتحول الفساد إلى وسيلة تسريع للمعاملات، فتُكبَح حركة المجتمع والاقتصاد وتتحول شبكات المحسوبية والوساطة إلى آليات ضرورية وجوهرية للاستمرار. هنا لا يكون الفساد انحرافاً أخلاقياً، بل جزءاً من الاقتصاد السياسي للنظام. فعندما يتباطأ الجهاز الرسمي، يُستبدَل القانون بآليات بديلة من العلاقات «الباطنية» والزبائنية، ويتحوّل الفساد من حل وظيفي إلى سمة دائمة وبنية هيكلية. وهكذا ينشأ ما يمكن تسميته «العقد الاجتماعي على الفساد»، وهو عقد تبنيه السلطة المركزية كضرورة حيوية لبقائها عادةً، فتضطر عبر ميكانيزمات داخلية وممرات اجبارية، إلى إفساد المجتمع وتوليد الفساد الاجتماعي/السياسي كعلاقة «طبيعية» يومية وضرورية بين أفراد المجتمع وبين المجتمع والسلطة.
من منظور بنيوي أيضاً، تُولِّدُ المركزية نوعاً من الولاءات القسرية أو القهرية، فعندما يكون المركز هو من يمنح الشرعية ويُوزِّعُ الحصص والمناصب، يصبح الولاء شرطاً للبقاء، وتصبح الساحة السياسية سلسلة علاقات تبعية انتهازية وعنقودية بدلاً من كونها فضاء مسؤولية عامة. على هذا النحو يصبح الولاء استراتيجية تَأقلُم وبقاء واحتماء، ويتحوّل مع مرور الوقت وبشكل آلي إلى ولاء لانهائي، لا يمكن ضبطه ولا قياسه ولا معرفة حدوده أو نهايته.
المظهر الثالث للمركزية هو الإقصاء المنهجي. ويتحدد هذا المظهر من خلال الاستبعاد السياسي الذي يحلُّ مَحلَّ الاستيعاب الوطني، فالمركز يحدد من يستحق الدخول في دوائر الوطنية ومن يُقصى، وتتحول الوطنية إلى ملكية خاصة للسلطة. والاستبعاد السياسي المذكور لا يطال الأفراد فحسب، بل يقصي فئات كاملة من فرص التمثيل السياسي بناء على أسس إثنية أو طائفية أو جهوية أو أيديولوجية.
أما المظهر الأخير للمركزية فهو توليد الوصاية الدائمة، حيث يُعامَل المواطن كقاصر سياسي، غير قادر على معرفة مصلحته، ويجب أن يُرشَد من الأعلى. يفترض خطاب المركز بالمعنى العميق أن الناس لا يدركون مصالحهم، فتقُيَّدُ الحرية باسم الرعاية السياسية، وتختفي المواطنة بمعناها الحقوقي، ليحلّ محلها انضباطٌ طائفي أو امتثالٌ إيديولوجي سلبي.
هكذا تنقلبُ الوطنية في النظم المركزية إلى طقوس ولاء: هتافات، مسيرات، تصفيق، عروض عسكرية. لا تكون الغاية منها على الإطلاق إظهار الحقيقة بل استدامة اللعبة، حيث يشارك الجميع في تكاذب منظم. السلطة تعرف أن الولاء زائف، والمجتمع يعرف أن السلطة تعرف، ومع ذلك تستمر الطقوس. إنها ما وصفه سلافوي جيجك بـ«اللعبة التي يعرف الجميع أنها كاذبة لكنهم يتصرفون وكأنها الحقيقة». 6
أخلاقياً، تُولِّدُ المركزية ما يمكن تسميته أيضاً بـ«العقد الاجتماعي الباطني»، عقدٌ يُبنى على التقيّة وقول المُتوقَّع، فحين يصبح الصدق السياسي خطراً، يتعلم المجتمع أداء الولاء بدل امتلاكه، ويصبح التكاذب الوطني آلية متبادلة بين الحاكم والمحكوم ثم بين المحكومين أنفسهم. لهذا يغيب القانون الفاعل ويتحول وجوده إلى وجود شكلي بدلاً من قوة تُطبَّق وتُلزِم. وغياب القانون يطلق حكم النوايا، فتهيمنُ التصورات المسبقة وقوالب التقييم المبنية على الانتماء لا على السلوك والحقائق. وهذا بالجملة يُولِّدُ مجتمعاً لا يؤمن بذاته ولا يؤتمَن على موسساته، مجتمعاً لا يعرف كيف يطالب بحقوقه لأنه بُني على فكرة أن الحق يُمنَح وليس متأصلاً أو بديهياً أو مُستحَقَّاً، فعندما يُفرَض على المواطنين الخضوع لوصاية السلطة العليا، يصبحون مع الوقت غرباء عن القرار السياسي ومتلقين سلبيين للإرشاد الرسمي، يسمعون التصريحات المعلّبة، ويؤدون طقوس الولاء المتكررة ليرددوا المُتوقَّع منهم، لا ما هم عليه، الشيء الذي يُشرعِنُ استمرار النظام واستمرار اللعبة الزائفة.
واليوم، يسعى نظام الشرع وحكومته «المؤقتة» إلى إعادة إنتاج الصيغة المركزية للدولة الأسدية نفسها، ولكن بلبوس ديني جديد، يحاول أن يُلبِسَ فكرة الدولة ثوبَ العقيدة، وأن يجعل من الهوية الدينية والمظلومية السنيّة مبرراً للاحتكار السياسي. يستخدم خطاب المظلومية والاصطفاف الطائفي لتعبئة جمهوره، ويُحوِّلُ الدين من مساحة إيمان حرّ إلى أداة للضبط والشرعنة، فيما تُستعاد باسم «الشرعية الثورية»، جميع آليات المركزية السلطوية التي كرّسها النظام السابق، من البناء الأمني/العسكري للسلطة، إلى توزيع المناصب على الثقات والأقارب وأخوة المنهج، إلى حلول «الأمانة العامة للشؤون السياسية» محل منظمات حزب البعث سابقاً والإشراف الأمني/المشيخي على وزارات ومؤسسات الدولة كافة. إلى اعتماد اسم «الجمهورية العربية السورية» بما يعيد الطرد الرمزي للأكراد وباقي القوميات خارج بنية الدولة، إلى اعتماد تسمية دين الرئيس بالإسلام بما يمثّله من طرد رمزي للمسيحيين وباقي الطوائف والأديان خارج المواطنة المتساوية. ومن صناعة العدو الداخلي وإرضاء الخارج على حساب الداخل، إلى توظيف المقدس كوسيلة للهيمنة الرمزية في الفضاء العام.
بتلك المعاني، لا يخرج مسعى نظام الشرع عن خط المنظومة المركزية التي حكمت العالم العربي منذ الاستقلال، بل يعيد إنتاجها على نحو أكثر التباساً: مركزية دينية تسعى لفرض وحدة قسرية على مجتمعات مُنهكَة ومُفكَّكة بعد الحرب، استخدام العنف الانتقائي ضد الأقليات لشدِّ العصب السنّي بوصفه وسيلة لبناء سلطة مؤقتة يراد لها أن تُخلَّد، وأخيراً، استبدال «الرسالة الخالدة» بـ«إلى يوم القيامة». ويُعَدّ هذا بالمجمل، محاولة لإحياء الدولة المركزية من خارج فكرة المواطنة، وإعادة تعريف الوطنية لا بوصفها عقداً بين المواطنين، بل بوصفها ولاءً للعقيدة ولأهلها: نكوصٌ إلى ما قبل الدولة الحديثة، والتزامٌ بتعاليم الدولة الأسدية لكن على الطريقة الإسلاموية.
2- اللامركزية: فلسفة الثقة والحقوق
نشأت اللامركزية كفلسفة مضادة لمَركَزَة السلطة مع التجارب التي رأت في المركزية خطراً على الحرية. فمنذ دستور 1787، قامت الولايات المتحدة الأميركية على الفيدرالية التي توازن بين سلطة مركزية قوية تكفي لحماية الوحدة، وسلطات محلية تحتفظ بهامش واسع من الصلاحيات المحمية بالدستور والقانون الفيدرالي. واعتبر جيمس ماديسون في كتاب الأوراق الفيدرالية أن توزيع السلطة هو الضمانة الأكبر ضد الاستبداد. 7
أما في أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية، فقد صارت اللامركزية إحدى أدوات الديمقراطية التوافقية. ألمانيا الاتحادية، على سبيل المثال، أُعيدَ بناؤها عام 1949 على أساس فيدرالي يوزع السلطة بين الولايات لتفادي تكرار تجربة النازية المركزية. وأما في العالم العربي، فلم تعرف أي دولة عربية حتى اليوم توزيعاً فعلياً للسلطة على أسس لامركزية بالمعنى القانوني والدستوري الحديث، بل ظلت جميع التجارب محكومة بالمركز، ولو اختلفت تسمياتها. فحتى النماذج التي اتخذت شكلاً فيدرالياً، كالإمارات العربية المتحدة أو العراق ما بعد صدام، أو التي تبنّت لامركزية سياسية «طائفية» كالنموذج اللبناني، إنما جسّدت أشكالاً مشوّهة للّامركزية، إذ لم تقم على استقلال حقيقي للسلطات ولا على توازن مؤسسي بينها. فاللامركزية الحقيقية تفترض قبل كل شيء الفصل العملي والفعلي بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، وتوزيع القرار السياسي والمالي على مستويات الحكم المختلفة، وهو ما لم يتحقق إلا بالمعنى الشكلي أو المظهري في التجارب العربية كافة.
فلسفياً، تقوم اللامركزية على ثلاث ركائز مترابطة: الثقة، القانون، وتمثيل التنوع. والمقصود بالثقة كركيزة أولى ليس على الإطلاق ثقةً بنوايا أصحاب السلطة تجاه المجتمع أو ثقة بأخلاقهم الحميدة وكلامهم المعسول، بل بناء الثقة السياسية على أساس أن المواطنين قادرون على إدارة شؤونهم والمشاركة في صنع واتخاذ القرارات المتعلقة بتنمية مجتمعاتهم بما يعود عليها بالفائدة، وبالتالي الإيمان بأن الحكم يُمارَس عن طريق المؤسسات والكفاءة لا عبر الطقوس والشكليات والزعامات.
الركيزة الثانية هي «القانون»، وحُكْمُ القانون هو ما يساعد على تحويل الوطنية من شعور أخلاقي ونوايا حسنة إلى عقد وإطار حقوقي يشمل الجميع، أي أن المواطنة تُحدِّدُ ما يحق للفرد وليس فقط ما يجب عليه أو ما هو مطلوب منه، وبذلك يصبح المقياس هو الحقوق المتساوية لا درجة الولاء للنظام السياسي الذي يسمي نفسه «الدولة».
أما الركيزة الثالثة، «تمثيل التنوع»، ونعني بها تأسيسَ نظام يكرّس احتواء الآخر بدلاً من نفيه، ويقوم جوهرياً على الاستيعاب بدل الاستبعاد. وبكلام آخر، تمثيل التنوع الاجتماعي والسياسي ضمن جهاز الدولة ومؤسسات الحكم، بحيث تصبح الوطنية اللامركزية إثباتاً للحق المُشترَك لا نفياً للآخر المختلف.
لكن اللامركزية كما هو معلوم، ليست حلاً سحرياً غير قابل للاختراق، فقد تؤدي إلى محاصصة طائفية إذا افتقدت إلى ضوابط دستورية، أو تؤدي إلى استحواذ محلي إذا غاب حكم القانون وبناء المؤسسات والقدرات. الفرق الأساسي هنا ليس في الشكل (فدرالي أم لامركزي إداري) بل في الروح المؤسِّسة للمركز ذاته. هل يقوم المركز على مبدأ السيادة المشتركة أم على مبدأ الغَلَبة؟ هل شرعية السلطة دستورية وقانونية «ديمقراطية» أم أهلية وثورية «أوليغارشية»؟ وبكلام آخر: اللامركزية ليست غاية بذاتها، بل وسيلة لتعزيز التشاركية الديمقراطية في صُلب الدولة والتشريع والقانون. ويعتمد وجودها ونجاحها على طبيعة المركز؛ إذا كان المركز ديمقراطياً، صارت اللامركزية ضمانة للسلم الأهلي وآلية لإدراة التنوع، وإذا كان المركز قائماً على منطق الغَلَبة، تصبح اللامركزية أداة لتفكيك الدولة.
يقوم المسار اللامركزي الديمقراطي إذن على عدة أسس: مركز ديمقراطي يدعم التفويض، قوانين واضحة تطبقها الدولة على نفسها قبل المواطنين، حماية دستورية لحقوق الأقليات، آليات مالية تعويضية بين الأقاليم، ومَحاكم دستورية للفصل في النزاعات. وبناء على تلك المعطيات يتم توزيع السلطة والثقة والمسؤولية بين مستويات الحكم المختلفة بما يضمن مشاركة القوى المحلية ويحدّ من الاستبداد. وبذلك أيضاً تصبح اللامركزية آلية لإدارة التنوع ووسيلة لتعزيز المواطنة الدستورية وبناء الديمقراطية التوافقية.
في الحالة السورية كما نراها، لا يمكن اختزال اللامركزية في بعدها الإداري أو الوظيفي فحسب، لأن المعضلة المركزية في بنية الدولة السورية كانت دائماً سياسية الطابع؛ أي أنها تتمثل في احتكار القرار والسيادة والمعنى الوطني داخل مركز واحد.
من هنا، فإن أي حديث عن بناء وطنية سورية جديدة لا يمكن أن ينفصل عن إعادة توزيع السلطة السياسية نفسها، لا مجرد الصلاحيات الإدارية. اللامركزية في سوريا ليست بعيدة ومتعالية عن الواقع ولا هي مجرد غاية تقنية وعملية، بل هي شرط تأسيسي لوطنية تعددية جديدة تعترفُ بالاختلافات الإثنية والطائفية والثقافية لا كمصدر تهديد، بل كمصدر غنى وشرعية ديمقراطية. فإذا ما تأسست اللامركزية السياسية على مبادئ المواطنة والدستور والقانون، يمكن أن تتحول إلى الضمان الوحيد لوحدة الدولة السورية بعد عقود من المركزية الاستبدادية التي انتهت بتحطيم الوطن والوطنية والمواطنة، وأزهقت أرواح ملايين الناس المُفتَرض أنهم «موطنون».
خاتمة..
إذا كانت الديكتاتورية الطائفية والفاشية الإسلاموية تقومان على التوحيد القسري واحتكار تعريف الوطن والهوية، فإن تجاوزهما لن ينجح عبر إعادة إنتاج هوية جماعية مركزية بديلة، بل عبر إعادة تعريف الوطنية ذاتها على أسس جديدة مبنية على لامركزية السلطة والقرار من جهة والاعتراف بالاختلاف والتنوع العميق للثقافات والمجتمعات الوطنية من جهة ثانية. والوطنية اللامركزية المطروحة هنا لا تأتي من الانتماء إلى جماعة أو إلى سردية مقدسة، بل من صناعة عقد اجتماعي جديد، والانتماء إلى فضاء من الحقوق والقوانين يضمن للفرد كرامته واستقلاله بغض النظر عن طائفته أو دينه أو مكان إقامته، ويعيد التوازن بين الدولة والمجتمع.
تبدو لنا الوطنية اللامركزية في السياق السوري بوصفها ضرورة تاريخية وسياسية. فهي تمثل الإطار الوحيد القادر على إعادة بناء العقد الاجتماعي على أساس من المساواة القانونية والاعتراف المتبادل بين المكونات المختلفة. إن الانتقال من الوطنية المركزية إلى الوطنية اللامركزية يعني الانتقال من منطق الغَلَبة إلى منطق المشاركة، ومن دولة الرعايا إلى دولة المواطنين، ومن مفهوم الولاء للسلطة إلى مفهوم الولاء للدستور. وتكمن القيمة السياسية لهذا التحول في أنه يحرر مفهوم الوطنية من حمولته الإيديولوجية والطائفية، ويعيد ربطه بالمواطنة بوصفها علاقة قانونية بين الفرد والدولة، لا بين الفرد والطائفة أو الحزب أو الهيئة الحاكمة.
إن إعادة بناء الوطنية السورية بعد الحرب لا يمكن أن تتم عبر إعادة إنتاج الدولة المركزية التي انهارت إذن، بل عبر صياغة وطنية جديدة تستند إلى مبادئ اللامركزية السياسية، وإلى إدماج التنوع الديني واللغوي والإثني في البنية المؤسسية للدولة. هذه الوطنية اللامركزية ليست مشروعاً لتفكيك الدولة، بل إطاراً لإعادة تأسيسها على أسس ديمقراطية حديثة، تضمن التعدد والمشاركة وتمنع احتكار السلطة. وبهذا المعنى يتحول الاعتراف بالإختلاف إلى مبدأ تأسيسي، وتتحول اللامركزية السياسية إلى آلية لحماية هذا الاختلاف ضمن وحدة قانونية جامعة. وبذلك لا تكون الوطنية اللامركزية السورية الجديدة صدى لخطاب الوحدة القسرية، ولا استعادةً لزمن التطييف، ولا تأسيساً للفاشية، بل تكون تجربة تأسيسية لدولة حديثة تنتمي إلى مواطنيها، لا إلى سلطتها ونظامها الحاكم.
-
1. آرنت ليبهارت، الديمقراطية التوافقية في مجتمع متعدد، ترجمة حسني زينة، مراجعة الترجمة، معهد الدراسات الاستراتيجية، طباعة، الفرات للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، بغداد- بيروت 2006، انظر ص 47 وما بعدها.2. موريس عايق، الحرب الأهلية السورية في طورها الثاني، الجمهورية.نت، تاريخ النشر 22.10.2025.3. رشيد بوطيب، العقل السياسي الألماني بين «الثقافة الرائدة» و«الوطنية الدستورية»، مجلة الفيصل، منشور بتاريخ 5 يوليو 2016.4. محمد الخمنداوي، الحكم الذاتي والنظم اللامركزية الإدارية والسياسية، دراسة نظرية مقاربة، دار المستقبل العربي، القاهرة، الطبعة الأولى 1990، انظر خصوصاً حول النظام الفيدرالي والحكم الذاتي من ص168 وما بعدها.5. موقع الجزيرة، نابليون بونابرت، أول إمبراطور لفرنسا بعد الثورة، منشور بتاريخ 09.11.2023.6. Žižek, Slavoj, The Sublime Object of Ideology, London & New York: Verso, 2008, p28.7. Hamilton, Alexander, James Madison, and John Jay. The Federalist Papers. Edited by Jacob E. Cooke. Middletown, CT: Wesleyan University Press, 1961. انظر الورقة رقم 51.
-
الجمهورية نت
-
-


























