لسنوات طويلة، ظلّ قانون قيصر العائق الأكبر في وجه الاقتصاد السوري، رغم وجود عقوبات أخرى فرضتها الولايات المتحدة على سوريا، كان أولها منذ سبعينات القرن الماضي، إلا أن “قيصر” الذي دخل حيزّ التنفيذ عام 2020، كان الأقسى على الإطلاق، إذ شكّل قانون حماية المدنيين السوريين، المعروف بـ “قيصر”، تحولاً بارزاً في شكل العقوبات الأميركية المفروضة على سوريا، ووسّع نطاق العقوبات لتشمل قطاعات حيوية مختلفة بما لا يقتصر على الحكومة السورية وحدها بل كذلك المتعاملين معها.
ومع سقوط نظام الأسد، والتغيّرات السياسية والدبلوماسية المتسارعة التي طرأت على علاقة واشنطن ودمشق، بدأت سلسلة رفع العقوبات عن سوريا، منها الأوروبية وليس آخرها الأمريكية، بعضها مقابل ضمانات معينة وأخرى بشكل مؤقت تحت المراقبة والتقييم، لينتهي الأمر مع نهاية ديسمبر بتصويت مجلس النواب الأمريكي على مشروع قانون موازنة الدفاع الأمريكية، ومن ضمن بنوده إلغاء عقوبات قيصر. ذلك اعتبره البعض الخطوة الأصعب التي تجاوزتها سوريا بنجاح، ليستكمل بعدها مشروع القانون مساره التشريعي مروراً بتصويت مجلس الشيوخ ووصولاً إلى توقيع الرئيس دونالد ترامب، قبل نهاية العام حسب الترجيحات، وبذلك يدخل القانون حيز التنفيذ في العام 2026.
لكن ماذا بعد إلغاء قانون قيصر؟ وما السيناريوهات المتوقعة لمرحلة ما بعد قيصر؟
السيناريو الأول الذي يتبادر إلى الذهن يأتي على شكل انفراجة اقتصادية طال انتظارها، فرفع العقوبات عموماً، يشكل تحولاً جذرياً في مسار الاقتصاد السوري، فيما يُخرج إلغاء قانون قيصر دمشق من عزلتها الاقتصادية، ويدفع بخطوة نحو إعادة دمج سوريا مع النظام المصرفي العالمي، ما يعني دعماً للسياسة النقدية المحلية وتوفيراً للسيولة إلى جانب سهولة تحويل الأموال وتيسير وصول المساعدات والمنح إلى سوريا، فيما تشير تصريحات أخيرة لحاكم مصرف سوريا المركزي، عبد القادر الحصرية، إلى وجود خطط حكومية لتطوير النظام المالي والمصرفي فور رفع عقوبات قيصر، كما أن المصرف تلقى تدريبات في وزارة الخزانة الأميركية وتباحثَ مع بنوك كبرى بشأن خطواته المستقبلية، وفقاً للحصرية. وتبدو دمشق في هذا الإطار مستعدة لمرحلة ما بعد قيصر، فوجود الخطط أمرٌ ضروري لوضوح مسار المرحلة المقبلة، وتشير المعطيات إلى أن القطاع المصرفي السوري سيكون الأكثر تأثراً بإلغاء هذا القانون.
وفي الوقت ذاته، للقطاع التجاري حصّة في عوائد إلغاء “قيصر”، حيث أن القيود على المصدّرين وشركات النقل ستتراجع، وتوفير العملة الأجنبية يفتح الباب أمام عمليات استيراد السلع والخدمات الأساسية والتقنيات اللازمة لإعادة تشغيل المصانع المتوقفة، ما يعزز قدرة المنتج السوري على المنافسة في الأسواق الإقليمية ويعيد اندماج سوريا اقتصادياً في محيطها الإقليمي.
وفي سيناريو ثاني، يهيئ إلغاء قانون قيصر المناخ الملائم لإعادة الإعمار في سوريا، وبذلك تعود إلى الواجهة الاتفاقيات ومذكرات التفاهم التي وقعتها دمشق منذ مطلع العام، مع شركات أجنبية، والتي بلغت قيمتها نحو 28 مليار دولار.
معظم هذه الاتفاقيات ظلّ في إطار الإعلان عنها دون بدء التنفيذ، بسبب استمرار العقوبات، حيث كان “قيصر” يستهدف أي شركة أو فرد يستثمر في قطاعات الطاقة أو الطيران أو البناء أو الهندسة في سوريا، ومع إلغائه، تعود الأنظار نحو ترقّب الجدية والسرعة في تنفيذ اتفاقيات الطاقة والبناء وغيرها من الاتفاقيات التي من المرجح أن يتضاعف عددها بعد التحرّر من “قيصر”، فما قبل قيصر ليس كما بعده، ومن المرجّح أيضاً أن يشجع ذلك شبكات الأعمال ورؤوس الأموال على دخول السوق السورية بعد التردد خشيةً من إعادة فرض العقوبات لاحقاً، حيث أن الشكوك التي كانت تدور حول إمكانية الاستثمار في سوريا باتت تتقلّص بإلغاء “قيصر “والذي سيمهّد الطريق أمام المستثمرين العرب والأجانب نحو الاستثمار في المشاريع الكبرى، في الوقت الذي تبرز فيه سوريا في مرحلة ما بعد الأسد وما بعد “قيصر” كأرض خصبة صالحة للاستثمار والإعمار.
لكنّ ذلك أيضاً يضع دمشق أمام تحديات مقعدة تتمثل بالحاجة إلى إصلاحات قانونية وتشريعية وإدارية، والتحدي الأبرز بضبط الاستقرار الداخلي، فطالما أن المعوقات الخارجية أصبحت إلى زوال، ذلك يعني أن المعطيات الداخلية هي التي ستؤول إلى تشجيع الاستثمارات واستقطاب رؤوس الأموال أو العكس.
وهو ما يقودنا للحديث عن سيناريو مختلف، فعلى الرغم من أن قيصر يستهدف قطاعات اقتصادية، إلا أن أبعاد إلغائه لا تنحصر بالاقتصاد وحده، فبحسب بنود مسودة الوثيقة المعدّة للقانون، إلغاء عقوبات قيصر يخضع لشروط غير ملزمة، منها أن يقدم الرئيس الأمريكي تقريراً أولياً إلى لجان الكونغرس خلال 90 يوماً، ثم تقرير كل 180 يوماً لمدة 4 سنوات. ونصّت المسودة أن على سوريا تأكيد اتخاذها خطوات ملموسة في مكافحة التنظيمات “الإرهابية”، واحترام حقوق الأقليات، وامتناعها عن العمل العسكري الأحادي الجانب ضد دول الجوار، إلى جانب مكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب، وملاحقة الجرائم ضد الإنسانية المرتكبة في عهد النظام السابق. وفي حال عدم استيفاء هذه الشروط خلال فترتين متتاليتين، يمكن إعادة فرض العقوبات، بحسب مسودة الوثيقة.
ذلك يوضّح بما لا يدع مجالاً للشك، شكل المسار المطلوب للمرحلة المقبلة، أوله المساءلة وضمان حقوق الأقليات، الأمر الذي إن تمّ، سينعكس إيجاباً على معالجة الانقسامات والتوترات المجتمعية، كما يحدد مسار ما بعد قيصر شكل العلاقة مع دول الجوار ومن ضمنها إسرائيل، فيما تبدو واشنطن، عبر مبعوثها إلى سوريا توم برّاك، تسعى إلى تفاهمات تضبط من خلالها التوغلات والاعتداءات المتكررة على سوريا.
- 963+


























