سوريا وتركيا وقعتا في 30 تموز/ يوليو 2025، على مذكرة تفاهم، تقضي بالبدء بتأهيل – ثمَّ تشغيل – خط النقل البري الذي يصل بين تركيا والأردن ودول الخليج العربي عبر الأراضي السورية، أو ما أطلق عليه وزير التجارة التركي عمر بولات ” طريق الشرق الأوسط”، وهو توقَّع أن يصبح جاهزاً في العام 2026، والخط يُعتبر من أهم المحاور للتجارة العالمية، كونه سيصل إلى القوقاز والصين وبحر قزوين وإلى أوروبا، وسيتحوَّل من طريق للشاحنات إلى خط نقل شامل، بعد إضافة سكك حديدية وكابلات ألياف ضوئية إلى جانبه خلال السنوات المقبلة، كما قال بولات.
لكن يبدو أن المعوقات أمام تشغيل “الكوريدور” ليست تقنية، أو بسبب التأهيل وتوليف الاتفاقيات التي تنظِّم الحصول على التأشيرات فقط، بل هناك مشكلات وازنة تواجه المشروع، منها سياسي، ومنها أمني، وهو تحوَّل إلى موضوع خلافي كبير، ومقاصة لتصفية الحسابات الإقليمية في سياق السباق على النفوذ، وعلى مدى تأثير الأفرقاء في رسم الخرائط الجيوسياسية الجديدة. ومن الواضح وجود صراع تركي – إسرائيلي واسع النطاق، واحتمالية تحوُّل هذا الصراع البارد إلى توتر ساخن غير مستبعدة على الإطلاق.
منذ الأيام الأولى للتغيير الذي حصل في سوريا بعد انهيار نظام البعث؛ جهدت إسرائيل لتدمير الإمكانيات العسكرية لسوريا واحتلال أراضٍ جديدة فيها، ووصلت إلى حد توجيه ضربات ضد التحركات العسكرية التركية التي حصلت بدافع حماية إدارة الرئيس أحمد الشرع، وهي لم تتورَّع عن قصف المراكز السيادية السورية، مثل مقرّ رئاسة الأركان في دمشق، وبالقرب من القصر الرئاسي، بحجة حماية الدروز، بينما كانت المجزرة التي ارتكبها مُتفلتون ضد هؤلاء قد انتهت في 14 تموز/يوليو الفائت، ولو كانت نواياها صادقة في هذا السياق، لكان باستطاعتها منع العملية قبل أن تحصل.
مع مرور الأيام؛ تبين أن لدى إسرائيل مشروع خاص في جنوب سوريا، هدفه المُعلن إنشاء منطقة منزوعة السلاح لحماية حدودها الشمالية، ومساعدة الدروز المُعرضين للإبادة كما تدَّعي، بينما مقاصدها غير المُعلنة؛ تفتيت سوريا، وشرذمة شرائح شعبها، وإيجاد متاعب أمام حكومتها، ومنع أي استثمار تركي وعربي لمكانة البلاد في المجالات الاقتصادية والأمنية.
وقد تبين أن تعطيل وتهديد “كوريدور الشرق الأوسط” الذي يربط الخليج العربي بتركيا، ومن ثمَّ بأوروبا ووسط آسيا؛ من أهم أهداف الجنوح العدواني الإسرائيلي في سوريا، وهي ساهمت في دعم الجماعات المعارضة للحكومة السورية في الجنوب، لاسيما فلول النظام الذين لجأوا إلى محافظة السويداء، وأغدقت على هؤلاء مساعدات كبيرة شجعتهم على طلب الانفصال، بعد أن استدرجت مجموعات تحتمي بالإدارة الجديدة لإرتكاب أعمال إجرامية بحق مواطنين أبرياء من الدروز، واستفاد معارضي الحكومة من كبوتها الجديدة لطلب الاستقلال عن دمشق، وهذا الطلب يمكن أن ينجح كمشروع توتر دائم، ولكن ليس له أي فرصة للعيش او لتحقيق استقرار.
وإسرائيل لا تكتفي بإنتاج قلاقل خطيرة في الجنوب السوري؛ بل أنها تعمل بجهدٍ كبير لمنع الوصول إلى تنفيذ التسويات التي أبرمتها حكومة دمشق مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد) وتُشجِّع بطريقة غير مباشرة المجموعات الإرهابية التي بدأت تطلُّ برأسها في أكثر من منطقة سورية. ولا يستبعد المراقبون أن تكون إسرائيل عملت بالخفاء على الاستثمار لدى الافراد المتشددين والإرهابيين المُهددين بالطرد من سوريا بعد توقيعها اتفاقية الانضمام إلى حلف محاربة “داعش”، لأن بعض العمليات الاجرامية التي حصلت في حمص وفي تدمر وجنوب دمشق، جاءت مترافقة مع تصريحات رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو والذي اتهم فيها المبعوث الأميركي توم براك بأنه “سفير لتركيا” أكثر مما هو سفير لواشنطن.
من المؤكد أن تل أبيب ليست مرتاحة لتطور العلاقة بين الإدارة السورية الجديدة والولايات المتحدة الأميركية، وهي تعتبرها نتاج مراعاة الرئيس دونالد ترامب لأصدقائه الخليجيين والأتراك. كما أنها مُمتعضة من التوازن الذي تعتمده الإدارة الأميركية في العلاقة بين تل أبيب وأنقرة، بإعتبار أن البلدين حليفان لها. وواشنطن تعمل على تهدئة التوتر بينهما، من دون أن تقدِّم أية حلول، وقبولها بانتشار قوات روسية جنوب دمشق، كما اتفاقها مع الحكومة السورية على استخدام مطار المزة العسكري، لم يشفِ غليل إسرائيل، لأنها تتحجَّج بالخطر على حدودها الشمالية، ولكن مشروعها الأساسي تفتيت سوريا، ومنع أي استفادة من موقعها لمساعدة الدول العربية الخليجية أو لتعزيز اقتصاد تركيا ومكانتها الاستراتيجية. وهي تعتبر أن “كوريدور الشرق الأوسط” بديل عن الممر الهندي إلى أوروبا والذي كان سيمرّ عبر ميناء حيفا.
ولا تكتفي تل أبيب بإشعال التوترات في سوريا لإزعاج تركيا؛ بل إنها لجأت إلى توطيد تحالف نفطي وسياسي مع قبرص واليونان الجارين اللدودين لأنقرة، وهي منعت تركيا من المُشاركة في مؤتمر “مستقبل غزة” الذي عُقد في الدوحة.



























