ما جرى في بعض مناطق حمص وحماه والساحل خلال الأيام الماضية من تظاهرات وتظاهرات مضادة، وما رافقها من رفع شعارات طائفية وأعمال عنف ذهب ضحيتها أبرياء من المدنيين وقوى الأمن، هو نتيجة طبيعية لمسار طويل من الخوف المتراكم، والفراغ القيادي، والارتباك الذي تعيشه الطائفة العلوية منذ سقوط نظام الأسد. هذه البيئة تجد نفسها اليوم أمام لحظة حرجة: ذاكرة مثقلة بجرائم ارتكبها النظام الأسدي باسمها، وطائفة لم تنجح حتى الآن في فصل نفسها سياسياً وأخلاقياً عن أرثه الإجرامي، وسلطة جديدة لم تتمكن حتى الآن من بناء مسار عدالة انتقالية يطمئن الجميع ويمنع الانزلاق نحو الانتقام.
من الضروري التأكيد أن العلويين ليسوا كتلة واحدة، ولا يتحملون مسؤولية جماعية عن الجرائم التي ارتكبها نظام الأسد. لكن جزءاً واسعاً داخل هذه البيئة أخطأ في قراءة لحظة سقوط النظام السابق. كان الخطأ سياسياً قبل أن يكون أخلاقياً. فقد جرى التعامل مع سقوطه بوصفه تهديداً وجودياً للطائفة، لا فرصة تاريخية للفصل بين الانتماء الديني للطائفة وبين سياسة النظام السابق الأجرامية. هذا الخلط جعل كثيرين يقفون في موقع الدفاع بدل المبادرة، وفي موقع الخوف بدل المشاركة في صياغة مستقبل جديد.
لقد أمضى نظام الأسد عقوداً طويلة في بناء سردية تربط مصير الطائفة بمصيره، وقدّم بقاءه كضمانة وحيدة لأمنها. زجّ بأبناءها في الأجهزة الأمنية والعسكرية، وقمع أي قيادة اجتماعية مستقلة يمكن أن تمثل صوتاً مختلفاً، وهو لم يتردد في إخفاء المعارض الدكتور عبد العزيز الخيّر وفي ملاحقة أي صوت علوي معارض. ومع سقوطه، وجدت الطائفة نفسها أمام فراغ كامل، لا قيادة، ولا رؤية، ولا خطاب قادر على مواجهة الخوف أو الاعتراف بالجرائم أو تقديم بديل سياسي. هذا الفراغ جعل أي حراك علوي عرضة للاختطاف، وأي احتجاج قابلاً للتأويل الطائفي، وأي غضب قابلاً للاستثمار من قوى داخلية وخارجية.
في هذا السياق جاءت التظاهرات الأخيرة في الساحل. ورغم أن جزءاً منها انطلق من رفض القتل على الهوية بعد مجزرة مسجد علي بن أبي طالب في حمص، وهو أمر مشروع ومفهوم، إلا أن الإنجرار وراء دعوة من رجل دين ورفع شعارات طائفية، واستعادة خطاب النظام الساقط، مثل “نفديك بالروح والدم”، إضافة إلى شعار بالغ الخطورة: “يا فيدرالية يا حرب أهلية”. هذا الشعار لا يطالب بحق سياسي، بل يعيد إنتاج منطق الابتزاز الذي استخدمه نظام الأسد لعقود: “الأسد أو نحرق البلد”. إنه خطاب يربط أي خيار سياسي بتهديد شامل، ويحوّل المطالب المشروعة إلى لغة تهديد، ويغلق الباب أمام أي تعاطف وطني محتمل.
رفع مثل هذه الشعارات يوفّر الذريعة لمن يريد شيطنة تظاهرات العلويين وتعميم الاتهام على الطائفة، ويعيد ربط الاحتجاجات بإرث النظام الأسدي بدل أن تكون خطوة للابتعاد عنه. ورغم ذلك، لا يمكن تجاهل بعض الجوانب الإيجابية التي ظهرت في المشهد: نزول آلاف العلويين إلى الشوارع للتعبير عن آرائهم وهو أمر لم يكن ممكناً في ظل نظام الأسد، وبرزت أصوات تطالب بمحاسبة القتلة وتحقيق العدالة للضحايا، وتدعو إلى الاعتراف بالجرائم وإلى حماية المتظاهرين وحق الناس في التعبير من دون تهديد أو تحريض. إن حضور هذه الأصوات وإن كانت ضعفية فإنها تشكل دليل على إمكان بناء خطاب بديل يجب حمايته وتشجيعه.
وأيضا لا بد من التوقف عند المظاهرات المضادة من طرف المؤيدين للسلطة، التي زادت نار الطائفية اشتعالاً، وصعبت من مهمة قوى الأمن في تأمين وحماية المتظاهرين. وأيضا مشهد هجوم مجموعات مؤيدة للسلطة على بيوت المدنيين. هذا المشهد لم يأت من فراغ بل نتيجة مباشرة لشعور البعض بأنهم محميون من السلطة أو من بعض المشايخ االذين باتوا يتصرفون كمرجعيات فوق القانون. وليس أدلّ على ذلك من انشغال مجلس الإفتاء بإصدار فتوى حول العملة الجديدة، في قضية لا علاقة لها بالدين ولا بالفقه، بينما يُترك أمن الناس وكرامتهم للشارع ولأهواء بعض الخارجين عن القانون. إن ترك المرتكبين بلا محاسبة يعني عملياً أن السلطة إمّا عاجزة أو متواطئة.
إن الهجوم على المدنيين هو بالضبط ما يريده النظام السابق. فهو لا يحتاج أكثر من هذا الهجوم، كي يعيد تسويق نفسه كحامٍ للعلويين والأقليات. كما يمنح الخارج ما يحتاجه ليقول إن السوريين غير قادرين على إدارة أمنهم أو حماية مجتمعهم.
إن حماية المدنيين واجب الدولة وحدها، وأي تهاون في ذلك يفتح الباب واسعاً أمام الفوضى والانتقام، ويعيد إنتاج أخطر ما في إرث النظام السابق: تحويل الطائفة إلى ذريعة، والشارع إلى ساحة تصفية حسابات.
وفي المقابل، على عقلاء الطائفة العلوية أن يدركوا خطورة الوضع، وأن يفهموا أن أي تحرك اليوم لا بد أن يكون بعيداً عن الطائفية، ومتمحوراً حول الخطاب الوطني ومسار العدالة الانتقالية. فأي خطوة خارج هذا الإطار ستفتح الباب لتحركات مضادة، تماماً كما شهدنا خلال الأيام الماضية، وتعيد إنتاج دوامة التوتر والعنف التي نسعى جميعنا للخروج منها.
الدروس واضحة: الخطاب الوطني الجامع ضرورة، والحد من الطائفية شرط للبقاء، والعدالة الانتقالية هي الطريق الوحيد لمنع الانتقام. الدولة مسؤولة عن حماية المتظاهرين وتنظيم الاحتجاجات وضبط تصرفات بعض الجمهور المؤيد لها التي باتت تشكل خطراً عليها قبل غيرها، ومنع أي خطاب تحريضي طائفي أو كرائهي من أي جهة، ومعاقبته بشدة كما أن تعزيز أصوات علوية مستقلة، وتفكيك أكذوبة “الحماية والعودة”، وتشجيع الطائفة على دعم العدالة، كلها خطوات أساسية.
كل تأخير في هذه المسارات يترك الشارع للفوضى وللتدخل الخارجي ولأصوات التطرف. أما كل موقف وطني واضح ضد التعميم والعنف، فهو خطوة حقيقية لسحب الوقود من فتيل الفتنة. وإذا أراد السوريون الانتقال من الفوضى إلى الدولة، فلا بد من تحرك وطني عاجل: على العلويين أن يظهروا أصواتهم المستقلة، وعلى السلطة الجديدة أن تضع العدالة الانتقالية في مقدمة أولوياتها، وعلى الجميع رفض أي خطاب يشيطن الطائفة أو يوظفها كذريعة. فالعدالة لا تُقاس بعدد المشانق، بل بقدرة الدولة على حماية المجتمع من الانجرار إلى منطق الثأر الجماعي.
- المدن





















