ثلّة، أو «قرطة» كما سيقول التعبير اللبناني الشائع، من الساسة عديمي الضمير فاقدي الشرعية منعدمي الصلاحية، والصيارفة ورجال الأعمال بالمعنى الأردأ والأبشع للمفردة، وقادة الميليشيات والطوائف والمذاهب المرتهنين لأكثر من خارج إقليمي ودولي؛ يأخذون لبنان رهينة مطلقة منذ عقود، مقيّدة بكلّ ما يمت بصلة إلى اللبناني في مواطنته أو عملته أو دخله أو كهربائه أو مياه شربه أو حليب أطفاله. وإذْ تستمد هذه «القرطة» شرعياتها المباشرة من محاصصات داخلية عتيقة على غرار «الميثاق الوطني» لعام 1943، أو أخرى حديثة على نمط «اتفاق الطائف» لعام 1989؛ فإنّ ما يقيم قوّتها على الأرض، ويبقيها في النفوذ عقداً بعد آخر، هي حشود من أنصار وأتباع وأزلام أقرب إلى دهماء ولاءات منهم إلى جماهير حزب أو عقيدة أو حتى ميليشيا.
وهذا بلد، قياساً على انتماء أهله إليه في أقلّ تقدير، يستعير رئيس مجلسه النيابي نبيه بري من وزير خارجية فرنسا جان – إيف لودريان تعبير السفينة الغارقة تيتانيك في وصف حال لبنان الراهن. لكنّ برّي هو المزمن منذ 29 سنة في رئاسة المجلس النيابي، وزعيم حركة سياسية/ ميليشيا مسلحة ارتكبت المجازر والفظائع وجرائم الحرب؛ ولودريان هو وزير إيمانويل ماكرون، الرئيس الفرنسي الذي استذكر دور «الأمّ الرؤوم» الفرنكوفونية في لبنان، فلم يجدِ التذكّر فتيلاً ما خلا ساعات دفء دعائية قصيرة في منزل فيروز.
وكان زياد الرحباني، الحليف اليوم مع «حزب الله» بما يمثله الحزب من إحكام لمعادلات ارتهان البلد وأهله، هو القائل ذات يوم: «هاي بلد، لأ مش بلد، هاي قرطة عالم مجموعين»، مطالباُ ابن هذا البلد أنْ «قوم فوت نام/ وصير حلام/ إنو بلدنا صارت بلد». وفي سنة 1996، على قلّة ما كان يميل إلى إصدار الكتب مقابل انحيازه إلى المقالة، كان صديقنا الكاتب اللبناني الراحل جوزيف سماحة (1949 ـ 2007) قد نشر كتاباً بعنوان «قضاءً، لا قَدَر: في أخلاق الجمهورية الثانية»؛ تناول فيه ظاهرة «الحريرية الشاملة» نسبة إلى رفيق الحريري. لكنّ الوقت لن يطول قبل أن يختار سماحة صفّ «حزب الله» أيضاً، ضمن اعتبارات شتى متقاطعة ليس هنا مقام استعراضها، فيطلق المنبر الإعلامي ذاته الذي سوف تشمت صفحاته باغتيال الناشط لقمان سليم، الرجل ذاته الذي كان على رأس الدار التي أصدرت كتاب سماحة!
وفي هذه «الجمهورية الثانية» إياها، حيث توازنات «القرطة» ومعادلات وجودها واستيلاد بقائها، ليس من الواضح أنّ قوّة سياسية أو ميليشياتية أو طائفية أو دينية، بما في ذلك الصرح البطريركي كما خلّفه مار نصر الله صفير أو يرثه بشارة بطرس الراعي؛ تدير مشروعاً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وصيرفياً، فضلاً عن ذاك المذهبي الشيعي الإثني عشري الملتزم بولاية الفقيه، مثل «حزب الله». ولعلّ المنعطفات الفارقة في إلقاء قبضة الحزب على هذا «البلد» لم تأت على حين غرّة، أو أنها باغتت أياً من أطراف «القرطة»، حتى حين كانت مصائر الطائفة الشيعية في يد موسى الصدر وحركة «أمل»؛ أو عند الاجتياح الإسرائيلي سنة 1982، أو عدوان 2006، أو دخول «حزب الله» فريقاً ميدانياً مقاتلاً إلى جانب النظام السوري؛ وصولاً، بالطبع، إلى تعطيل تشكيل الحكومات، وابتداع تقنية «الثلث المعطل»، والتسوية التي أسفرت عن رئاسة ميشيل عون بمشاركة أطراف «القرطة» أجمعين.
ولقد كانت زيارة الرئيس الإيراني الأسبق محمود أحمدي نجاد إلى لبنان، خريف 2010، كاشفاً ساطعاً يفقع الأعين حسيرة البصر، حول أبعاد المشروع الأوحد. وكان المديح الذي أغدقه حسن نصر الله على نجاد بمثابة انضواء علني في صف أشرس محافظي غيران من جهة، وكان من جهة ثانية نذيراً صريحاً بأنّ مستقبل «الجمهورية الثانية» في لبنان هو هذا على وجه التحديد: «القرطة» التي تقود سفينة التيتانيك!