لا يوجد لدى السوريين، اليوم، أيّ اهتمامٍ يُذكر بطرق التفكير السياسي أو تكوين الرأي. وهذه قضية ورثوها من النظام الأسدي الذي فرض عليهم عالمًا سياسيًا يتّصف بالسطحية الدعائية والمزاودات القومية والدينية. عالم ترتّبه وتديره أجهزة الإعلام ومديريات الأوقاف ومؤسسات حزب البعث.. عالم مركب من قوالب جاهزة، الركن الأساسي فيه لـ “بروباغندا” تقوم على الخوف لا على التعايش، على الحفظ لا على التفكير. ولكن لماذا لم يتصالح السوريون، بعد الثورة، مع التفكير السياسي النقدي؟ ولماذا لم يعملوا، بالتوازي مع سعيهم للحرية والتخلص من النظام، على تحرر تفكيرهم السياسي من عالم الأوهام السياسية وأكاذيب مرحلة ما قبل الثورة؟!
السيطرة على التفكير السياسي في سورية أمرٌ جعل من وزارتي الإعلام والأوقاف وزارات سيادية في سورية (الدول الديمقراطية لا يوجد فيها مثل هذه الوزارات)، حتى إن وزيري تلك الوزارتين يُعيّنان من قبل بشار الأسد بشكل فردي، بحسب رياض حجاب الذي قال إن بشار لم يسمح له بالتدخل في أمر تعيين هذين الوزيرين. وهذا يعني، طبعًا، باللغة السياسية السورية، أن اختيار هذين الوزيرين يتم بعناية من قبل القادة الأمنيين الذين يعملون في القصر الجمهوري.
المشكلة في التفكير السياسي النقدي، بالنسبة إلى عالم السياسة، أنه يعيد النظر في المبادئ والمسلّمات، ويراجع البديهيات، وينقد حتى خيارات العمل السياسي، ويحلل كل شاردة وواردة. ولذلك كانت خطاب النظام السياسي يشدد على تحفيظ الناس لـ “المنطلقات النظرية”. السياسة في سورية هي الثبات على تلك المنطلقات وحفظ لتلك الشعارات، لا أكثر ولا أقلّ؛ ليتحول العمل السياسي إلى مجرد شعارات تُحفظ وتردد بشكل ببغاوي (اللافتات التي تكتب عليها الشعارات تُعدّ أحد أهم مظاهر العمل السياسي في سورية). النظام هو الذي يفكر في السياسة فقط، أما السوريون فيرددون ما يقوله. التفكير في السياسة يعني الالتزام بخطوط النظام ودعاياته. الخوف من ألا يقبل النظام بما يقوله المرء دفع الناس إلى الحفظ فقط.
يقوم “التفكير السياسي السوري” على تخويف السوريين من كل شيء. وزارة الإعلام تخوّف الناس من الإمبريالية والبرجوازية السورية العميلة وعرب النفط، في حين تسهر وزارة الأوقاف على تخويف السوريين من الله، وقد وصفته بأنه “رأس الحكمة”. تسهر الوزاريتان السياديتان على تحويل “بروباغندا” النظام إلى مصدر لشعور الناس بالأمان السياسي. ما دمتَ تفكر كما يريد لك النظام أن تفكر، فأنت آمن.
تلك البروباغندا أصبحت أساسًا لتدجين السوريين، وباتت مصدرًا للأمان والفخر أيضًا. وكلّ من يمس بتلك الشعارات، أو يشكك فيها، أو لا يتحمّس لها، يُخرج من دائرة الوطن والأخلاق والدين، ويوضع في دائرة الأعداء والخونة.
هكذا أصبح أمان السوريين في الوحدة، والتخلص من المستعمرين، ومواجهة الإمبريالية، وكلّ ما عدا ذلك كلامٌ لا يصبّ إلا في مصلحة الأعداء. هذا يعني أن كلّ الأفعال والمواقف والآراء السياسية يجب أن تقيّم وتراقب بشكل دقيق. والهيكلية العامة للمراقبة تقوم على مراقبة الأجهزة الأمنية لكل شيء. ولكن الأمر معقد، فكل سوري يحتاج إلى مراقب، ولذلك من الأفضل أن يراقب السوريون بعضهم أيضًا.
إحساس السوري بأنه مراقب أمرٌ في غاية الأهمية أيضًا. هذا الإحساس سيجعله يراقب نفسه بنفسه.
الرقابة المركبة والثقيلة درّبت السوريين على التفكير والنقد السلبي، الذي يجعل الآخرَ إما ملاكًا وإما شيطانًا، بطلًا أو خائنًا، قائدًا أو عميلًا. هناك خيار واحد فقط، وباقي الخيارات كلها عدمية. السوريون وكل العالم العربي ليس لهم أي أهمية من دون الوحدة العربية. كل مساحة بلاد العرب الشاسعة ليس لها أي قيمة من دون تحرير جزيرةٍ “محتلة” من قبل إسبانيا تقع في أطراف القارة الأفريقية. ولكن هل الأمر عقلاني على هذا النحو؟ وهل التفكير في السياسية يكون بهذه الطريقة؟ هذا أمرٌ غير مهمّ. التفكير السياسي عند نظام الأسد هو للسيطرة، وليس لحل المشاكل، لتسويق “البروباغندا” وليس لكشف ألاعيبها.
من أهداف السياسة التي يمارسها النظام الأسدي، ألا يكون السوري خائفًا فقط، بل “تافهًا” أيضًا. يتم تدريب الناس على ذلك عبر ظهورهم على شاشات التلفاز الرسمي أو الراديو، ليقولوا كلامًا تافهًا ليس له أي معنى. يرددون خلطة من عبارات نفاق وجمل مفككة ومزاودات جوفاء. عبارات تسمّيها الوضعية المنطقية “لغوًا” أو كلامًا بلا معنى. الكلام الخالي من المعنى يُقنع الفرد في قرارة نفسه بأنه تافه، وهذا أمرٌ في غاية الأهمية، بالنسبة إلى التفكير السياسي الأسدي.
اليوم، تمّ تحرير السوريين (على الأقل الذين يعيشون في مناطق خارج سيطرة النظام) من وزارتي الأعلام والأوقاف ومؤسسات حزب البعث، ولكن الأمر يحتاج إلى استكمال التحرير بالتحرّر أيضًا. التحرير خروج من سيطرة آل الأسد وطرد مسلحيه، أما التحرر فيعني الخروج من منظومة النظام السياسية وطرق تفكيره في السياسة. ويعني، أيضًا، تمثل السوري الحرية في ذاته، وتحرير نفسه من البروباغندا الأسدية التي أقنعته بأن الأرض أهمّ من الإنسان، وأن الوطن أهم من المواطن، وأن الوحدة أهمّ من الحرية، وأن المجتمع أهمّ من الفرد، وأن الأيديولوجية أهم من الواقع.
شوه النظام مفاهيم الديمقراطية والعلمانية والحرية والاشتراكية، وكل كلمة في السياسة، وأخرجها من ثوبها، حتى تناسبه. أما وسيلته في ذلك فهي تغييب السوريين عن التفكير السياسي، وتحويله إلى محض شعارات تُحفظ ومزاودات تخوّن وتقارير تُكتب.
واليوم، يُعدّ التفكير النقدي في المجال السياسي السوري أمرًا في غاية الأهمية، لأنه يكشف للسوريين أن التحرير بدون تحرر لا يعني أي شيء. وكما تقول الأمثال “فاقد الشيء لا يعطيه”. ومن لا يتمكن من التحرر ذاتيًا، ويتمثل الحرية بداخلة، ويحوّلها إلى ركن أساسي لشخصية وتفكيره السياسي، فلن يتمكّن من تحرير مجتمعه من قوى الاستبداد والقهر التي ما زال يعانيها السوريون منذ عقود.
التحرّر أصعب من التحرير؛ لأنه يتطلب نقد الذات وإعادة ترتيب كلّ محتويات العقل السياسة من جديد، يعني إعادة الدور للفرد في مقابل القوى الاجتماعية التقليدية. يعني التفكير بالسوريين، بوصفهم أفرادًا لهم حقوق لا بوصفهم جماعات تنتظر من يسيطر عليها. يعني التفكير بأن النظام الأسدي ليس سوى واحد فقط من قوى الاستبداد التي تتربص بسورية، وإن كان هو الأشرس والأكثر إجرامًا.
أمان السوري في تحرّره، وليس في تحريره، في إيمانه بذاته وحريته، وليس في الأيديولوجية أو الجماعة التي ينتمي إليها. أمانه يتحقق عندما يتمكن بنفسه من تشكيل النظام الذي يحكمه، ويتمكن من إعادة بناء القيم التي يقوم عليها مجتمعه. التفكير السياسي يبدأ بالذات لا بالمجتمع، وبالحقوق لا بشكل الحكم. ومن دون ذلك، ستبقى العدمية السياسية تحوم حول السوري وقد تفترس مستقبله.