كان الشعر لعدة قرون صاحب الصوت الصاخب واليد العليا في فنون القول، وحتى في الماضي القريب كان صوت الشاعر وكلماته لطالما دارت برؤوس مستمعيه، فيرددونها وكأنها كلمات حق، يستشهدون بها في مواقفهم الحياتية تأكيداً لرأي أو وجهة نظر. صوت الشاعر كان صوت صراعات وأفكار كانت تغذيه القضايا الكبرى التي خاضها العرب، أو توهموا خوضها، لكن.. لماذا ابتعد صوت الشاعر عندما غابت هذه القضايا؟ طرحنا السؤال على ثلاثة من الأصوات الشعرية المصرية المختلفة عن الأصوات المجانية الصاخبة، التي يظن أصحابها أنهم شعراء، أو أن ما ينتظمونه من كلمات وعبارات يمكن أن يُطلق عليها لفظ (الشعر) فكانت شهاداتهم كالتالي..
المحنة ومفارقاتها
بداية يرى الشاعر شريف الشافعي، أن الحديث عن اقتراب صوت الشاعر من المتلقي، أو ابتعاده عنه، مرهون في الأساس بالشعرية المجردة، بمعنى موقع الشاعر من ذاته أولًا، وهل هو قريب من الاستماع لصوت نفسه وقصيدته الخاصة، أم أنه لا يزال يتعاطى مع العملية الإبداعية بوصفها منتسبة إلى وهم القضية الكبرى؟ فلا مجال لتماهي القصيدة مع قارئها بسلاسة سوى بقصر الكتابة على العملية الشعرية وحدها، وتنقيتها من رواسب التبعية، بوصف الإبداع كيانا مستقلا بذاته، وفعلا مكتمل الإرادة، وتلك هي النظرة الجديدة للشعر، المخالفة لدوره التاريخي في العالم العربي، إذ طالما كان رد فعل ومرآة دعائية لقوى مركزية استقطابية، ما أدى إلى إفراز نجومية فئات محددة من الشعراء، حسب وظيفة الشعر لديهم: شعراء البلاط، شعراء السلطة، شعراء القضية الفلسطينية، شعراء المعارضة، إلخ.
هل محنة القصيدة الراهنة في داخلها؟ تشير القرائن الأولية إلى ذلك، فلم يعد منطقيا الحديث عن معوقات خارجية وقيود إجرائية تحول دون تطورات الشعر المأمولة في مرحلة السماوات المفتوحة، والبث الإلكتروني والنصوص المتدفقة بسرعة البرق من الكاتب إلى المتلقي. إنها الفرصة الذهبية، بل الاستثنائية، التي لم ينتهزها الشعراء المعاصرون والجدد على النحو الأمثل حتى اللحظة الحالية. مع اتساع الفضاء الرقمي وكثافة الاعتماد على النشر الإلكتروني، من خلال المواقع والصفحات الشخصية والأدبية، غاب شبح الوسيط المزاجي، المتحكم في انفجار الشعر وسيولته، وانتفت سلطة الرقيب، وتلاشت بوابات الإجازة والمنع، وتضاءلت سطوة دور النشر الرسمية والخاصة، وامتلكت القصيدة بفضل النشر المباشر أجنحة التحليق الذاتية، التي يُفترض أن تقودها إلى أعلى مدارات الحرية والانفلات والاستقلالية، وإقامة علاقة تفاعلية مع القارئ. لكن الغريب أن النسبة الأعم من النصوص الشعرية الجديدة، لا تزال متذبذبة ومتوجسة أمام تحقيق آمالها وطموحاتها، لأسباب تتعلق بطبيعة هذه النصوص نفسها في هذه المرة. إن أزمة القصيدة السائدة حاليا ليست ذات صلة بما يحيط بها من ملابسات غير فنية، واعتبارات غير جمالية، وإنما يكمن الانحدار الجوهري في ماهية القصيدة وكينونتها، وفي انفصامها عن روح العصر ولغته وفلسفته، وشذوذها عن الهواء الطلق الذي ينشده سكان الكوكب، بغير أجهزة إعاشة اصطناعية. إن الطريق ممهد أمام القصيدة، لتتحول عفويا إلى فعل حيوي تحرري على سائر المستويات، مكتفية بذاتها في وجودها وتحققها، وتلمس مكانها اللائق في المشهد، ومخاطبتها الآخر بشكل مباشر دون أقنعة، وتفاعلها الإيجابي مع المتلقي العادي غير النخبوي؛ أينما كان، كضرورة لاكتمال دائرة الفن، واتساعها اللانهائي.
ويضيف الشافعي.. ليست هناك وصفة وخريطة استراتيجيات، لكن تصالح القصيدة مع ذاتها يبدأ من منابع الشعرية البكر، الخام، الموجودة بذاتها، المحصنة بنبضها الطبيعي ضد العولبة الفجة، والتصنيع الميكانيكي ومكسبات الطعم واللون والنكهات الإضافية، وألاعيب الزينة والمجازات والتهويمات، أي أن يبقى الشعر شعرا كهدف أول، ويحسن الشاعر قراءة ذاته القريبة دون عدسات، ليتمكن من قراءة معطيات واقعه، ومستجدات عصره، ومخاطبة صديقه القارئ الذي يتقاسم معه الخبز والهموم في الغرفة الكونية. وهذه الشعرية الجديدة تعني في أولوياتها بالإنساني الخاص، والمشترك، ومسألة الوجود، ولا تكاد تتوقف عند الظواهر العارضة والقضايا الزائلة والمثاليات الكبرى التي تنهار تباعا على صخور الأرض. ومع إلغاء الحواجز وإذابة الحدود، يمكن للشاعر أن يستهدف جمهورا أوسع من ذي قبل، هو العالم كله إذا أراد، ومكنته قصيدته المستساغة، على أن يزيل أولًا تلك الفواصل الوهمية بينه وبين نفسه، فتتلاشى المسافات بينه وبين الآخرين.
ابتعد صوت الشاعر عندما خَفُتَ تأثير هذه الصوت واختفت الحاضنة التاريخية من الأفكار والأيديولوجيات، التي فرضت أن يكون هذا الفنان بالذات، بهذه الوضعية والكيفية، مقيماً على مقعد النبي والرائي ومتحصناً ببلاغة الملهمين، الذي يسحر الجماهير ليسلبها سباتها وأنفاسها
القضايا الحقيقية
ويقول الشاعر مؤمن سمير، إنه في ظل حالة السيولة التاريخية التي نغرق وسطها متقزمين وتائهين، أصبح الإنسان يعيد تفكيك أساطيره المؤسسة لحياته أو المتفرعة عنها، ربما دون وعي، وربما تحت تأثير وعي جديد ينبع من حالة الانفتاح الميدياوي، التي تُظهر الإنسان وكأنه قادر ويملك التوجيه ويقوم بتعرية نفسه لنفسه وللعالم، كي يكشفها فينكشف بالتالي هذا العالم، لكنها تبطن، في اللحظة نفسها، أنه مجرد نفثة من تنين وهمي، ريشة في هواء أزلي بلا هوية ثابتة ولا ملامح. هل من الطبيعي والحال هكذا، أن يظل الفنان والكاتب والمبدع عامةً، هو لسان قومه وشعبه ودليله وبوصلته وضميره؟ وإذا خصصنا الحديث عن الشاعر الذي هو ابن زمنه وواقعه بالطبع والذي كلما تطورت أدواته الرؤيوية والفنية، أدرك أن التعبيرات المباشرة والمجانية ضد الشعرية وعملها وكذلك ضد الوعي المتجدد والمتسارع لمتلقي اليوم، سنخالف إذن، ونحن مطمئنون، القول بأن هذا الشاعر هو المسؤول بشكل رئيس ومباشر عن قلة الاهتمام بالشعر وبتعاطيه، في مقابل الاتجاه نحو تعاطي فنون السرد بكثافة أكثر مثلا. فمن الخطأ المنهجي تجاهل كل التغييرات التاريخية والاجتماعية والحضارية متعددة الأسباب والمعقدة والمتباينة والمتحورة باستمرار، والتعامل فقط مع تأثيراتها، ومن زاوية وحيدة هي المبدع فقط وكأنه وحده هو صانع اللعبة الفنية، وليس مجرد طرفٍ فيها.
لقد ابتعد صوت الشاعر عندما خَفُتَ تأثير هذه الصوت واختفت الحاضنة التاريخية من الأفكار والأيديولوجيات، التي فرضت أن يكون هذا الفنان بالذات، بهذه الوضعية والكيفية، مقيماً على مقعد النبي والرائي ومتحصناً ببلاغة الملهمين، الذي يسحر الجماهير ليسلبها سباتها وأنفاسها، ويوقد جذوة روحها بحروفه وكلماته ومجازاته التي يفهمها الجميع أو يحسنها على الأقل، فتمس الجميع في اللحظة نفسها، لينهمر هذا الجميع في الزمان والمكان وكأنما الكل في واحد. الآن اليوم، غادر الشاعر وضعيته بين الكواكب، وعاد إنساناً هشاً، أخاً في التفاصيل والحكايات البسيطة التي هي القضايا الكبرى الحقيقية بالنسبة للشاعر وللمتلقي في الآن ذاته، هذان الوحيدان وسط هذا الزحام الوجودي، اللذان يلتقيان في مأساة واحدة أو في ملهاة تُعدد وجوهها وفصولها كل لحظة.
المهم أن هذا الشاعر الماكر، بتأثيرٍ من وضعيته الجديدة وتموضعه المختلف في العالم، عاد مرة أخرى للسماء، لكنه لم يعد بمفرده كما كان، كخالق أو كأسطورة مشعة ومتوهجة، بل مجرد زائر ومستغل ولاعب، لقد اصطحب المتلقي معه، واستطاع هذان الصديقان أن يستغلا، لمصلحة الشعر، هذا الانفتاح والاتساع في استخدام الهواء والصورة، في الاستفادة من تعدد طرائق التلقي التي تجاورت معاً، لكنها تسمح كل لحظة بابتكار الجديد، فبالإضافة لقصائد الدوريات والدواوين الورقية، والفيسبوك وغيره نجد القصائد المسموعة والمرئية والمصنوعة كأفلام على يوتيوب والمؤتمرات والندوات والأمسيات، التي تقام بتقنية الزووم وهكذا. لقد خُدعنا طويلاً باسم القضايا الكبرى، فتم التعامل بتجريد وتعالٍ مع كل ما هو شخصي وملموس ووقتي وصغير، وظهر مؤخراً أن الأمور ليست ترتيبات قَدَرية بقدر ما هي توجيهات للمتلاعبين بالعقول والأرواح، الكبار الذين يرون مصالحهم في تسييد اتجاه وفرض نمط تفكيري يسمح باستعمارنا، نحن الصغار، هذا الاستعمار متعدد الأشكال والألوان والزوايا والأجزاء، ثم يرون رؤية أخرى تناسب زمناً آخر، ووعياً جديداً تَخلق وفق أولويات أخرى، فيعملون على نشره ودَقه في النفوس، وهكذا ننتقل من الاتجاه القومي إلى الاتجاه العبثي أو التجريدي، إلخ، حتى مرت علينا الأزمان وتم اختبار غالبية الفلسفات والأفكار العابرة للجغرافيا وفشلت في تحقيق مراميها، فكان التفكيك وإعادة الترتيب والنظر وإعادة النظر في كل ما ملأ حياتنا من الأفكار والسرديات الكبرى، هو الطريق الأوفق للإنسان، كل هذا تَواشَجَ مع ثورة اتصالاتية، قدمت الأشكال المتعددة للحقيقة الواحدة وساعدت بالتالي على مساءلة كل ما كان يُظَن أنه قار وراسخ وثابت.
فضيلة البُطء
أما الشاعر عماد فؤاد فيقترب من معضلة ما كان وما هو كائن، متماساً مع فكرة ميلان كونديرا في رواية «البُطء» فيقول.. ربما علمنا الإيقاع البطيء قبل عشرين عاما التأني في إصدار الأحكام، وعدم التسرع في الفهم الخاطئ للأمور، صحيح كان الإيقاع بطيئا، إلا أنه علمنا الحرص على فرادة الكلمة التي نكتبها، على خصوصيتها في القالب الذي نخرجها من خلاله، شعرا كان أم سردا أم نقدا، عودنا هذا الإيقاع البطيء أيضاً على أن نكون متشككين في كل شيء من حولنا، حتى في ما نكتبه، وأن نمنحه الوقت الكافي كي يتشكل ويتكون ويختمر في داخلنا، لم تكن أصابعنا التي تكتب القصائد على ورق مسطر بحروف منمقة، تعرف أنه سيأتي عليها يوم ستتراقص فيه فوق أزرار لوحة مفاتيح تابعة لأجهزة الكمبيوتر، كانت الكتابة بالنسبة إلينا – وباختصار – «أصابع ملوثة بالحبر» وأوراقا عديدة «ممزقة أو مكرمشة» تملأ سلة المهملات أسفل مكاتب دراستنا، بعدما أخطأنا في كتابة كلمة، أو بعدما سهونا عن كتابة سطر في القصيدة، فاختل الإيقاع، لنعيد الكتابة من جديد، بصبر عنيد نسخنا قصائدنا ونصوصنا، صورناها لدى أصحاب المكتبات لنصنع منها نسخاً لأصدقائنا وأحبتنا، ولنرسلها إلى المجلات والدوريات الثقافية، وعلى هذا النحو؛ جربنا في الكتابة بما يكفي حتى تفرقت بنا السبل، منا من ربح.. ومنا من خسر، وما زلنا كما كنا، مؤمنين بأننا عابرو سُبلٍ، سرعان ما سيختفون عند أول منحنى للطريق، ولذلك يتنافس الحقيقيون منا في ترك أثر ولو بسيط، كي يتمكن من رؤيته أحد ممن سيأتي بعدنا.
اليوم، أؤمن بأن هناك مَن هم على شاكلة الصورة الأولى؛ أبناء الإيقاع البطيء، حاملو فضيلة التأني، أعرف هذا وأكاد أكون موقنا منه، لكن هناك أيضا من لا يعولون على شيء، فهم أبناء هذا الإيقاع السريع المليء بالضجيج، الذي يصم الآذان، فترة طويلة مرت وأنا أتأمل الصورتين ذاتهما، وأشعر بعلامات الاستفهام تتخبط من جديد في رأسي جيئة وذهابا، ليس انحيازا إلى صورة منهما على حساب أخرى، بقدر ما هي مساءلة للاختلافات التي عشناها قبل عدة سنوات، عما نحياه اليوم من راهن ثقافي عربي مليء بالعوار والنقصان، كأنه حُكم علينا أن نحيا أزمنة التردي على جميع المستويات في أسوأ صورها عربيا، الحالة السياسية التي نشهدها اليوم عربيا كفيلة بتقديم الأدلة الكافية على هذا التردي، في ظل هذه الهزائم المتكررة للحالة السياسية، يصبح الحديث عن قضية ثقافية مثل التي نتحدث عنها الآن ترفا غير مسموح به، وهو ما لا أستطيع إنكاره، فكيف لنا الحديث عن مصير الشعر العربي في أزمنة تشهد فيها المنطقة العربية بأسرها تلك التغيرات الجذرية المزلزلة؟
ودون مواربة.. ثمة خفة مرعبة – لا أستطيع أن أعلن تعاطفي معها – في العلاقة بين الكاتب وكتابته، ثمة تسرع كنت أتمنى أن يُصاب – ولو قليلًا – بالعطب، كي يأخذ أصحابه بعضا من الراحة، ليعيدوا النظر في ما كتبوه، النجومية حجاب كبير، النجومية سيئة السمعة على الدوام، ربما لهذا السبب صرت أسمع من وقت إلى آخر من يصرخ في الآخرين: «هذا ما جناه الـ «Like» عليّ.. وما جنيت على أحد» صارت التجارب الكتابية تخرج لتمر مرور الكرام، وصرت أرى من يندهش من أن كتابته لم تخلف في الآخرين أثرا، فأجدني أردد، بيني وبين نفسي: «وكيف تريد لكتابة لم تُنكل بكاتبها .. أن تُنكل بقارئها يا غشيم؟».
“القدس العربي”