ما بين الممثل السوري فارس الحلو ـ مواليد عام 1961 والمخرج السوري رامي فرح ـ مواليد عام 1980 ــ اختلافات كثيرة، كالنشأة والتكوين، إلا أن ما جمعهما هو عائلة الأسد، وصياغتها حياة السوريين منذ عام 1970 وحتى الآن، لكن تأتي اللحظة الفارقة في حياة الشعب السوري ـ بغض النظر عن النتائج ـ التي وحدت وجمعت بين أجيال مختلفة، رأت في الثورة السورية محاولة للخلاص من نظام حاكم، حوّل سوريا إلى سجن كبير. هذا ما يحاول حكايته فرح من خلال توثيقه للثورة ومآلتها، عبر شخصية الفنان الكوميدي فارس الحلو.. موقفه من الثورة، وما حدث له ولأسرته، حتى رحيله إلى فرنسا، ومحاولة التأقلم مع حياة جديدة، دون نسيان مواصلة الدفاع عن الثوار وضحايا النظام، مُرغماً بأن يكون هذا الدفاع من الخارج، فهو أحد المطلوبين من قِبل النظام، عقاباً له كـ(ممثل خرج عن النص).
على دين ملوكهم
يبدأ فيلم «فارس حلو .. حكاية ممثل خرج عن النص» بلقطات أرشيفية لتولي حافظ الأسد السلطة عام 1970، لتتوإلى الاستفتاءات ـ كما في كل البلاد العربية ـ ليحصل الرجل على تأييد الرقم السحري المبتذل 99%، حتى رحيله عام 2000، وقتها كان المخرج/ الراوي في العشرين من عمره، وهو الذي لم ير غير صور الأسد وأصنامه ـ التي أسقطها الثوار بعد ذلك ـ في الشوارع والميادين. وعلى صوت الهتافات نفسها للأسد الأب، يصبح بشار رئيساً، وهكذ تنتقل السلطة في بلد الرعب، مع ملاحظة أن بشار هو أول رئيس عربي يرث الحكم في بلد من المفترض أنه جمهوري.
البستان المستحيل
وينتقل الفيلم إلى فارس الحلو، وحلمه بعمل مشروع ثقافي مستقل أطلق عليه (البستان الثقافي) رغم معرفته جيداً بمدى صعوبة الأمر وتعليقه.. «مشروع ثقافي مستقل مستحيل في سوريا». ويبدأ الحراك الثوري السوري، ويظهر الرجل في الشارع، ويُشارك المتظاهرين الهتاف ضد النظام، ليبدأ مأجورو النظام في تسريب رقم هاتفه هو وغيره، حتى يصبح وجهاً لوجه أمام بلطجية النظام، الذين بالفعل يدمرون مشروعه الفني، ليشهد الرجل هذا الخراب بعينيه، إضافة إلى تهديدات مستمرة له ولأسرته، حتى يصبح الرحيل عن سوريا لا مفر منه. ولك أن تعقد مقارنة سريعة بين رجل يتخفى قلقاً وخوفاً قبل مغادرته بلاده، وهو المعروف وصاحب الجماهيرية الكبيرة، وناس عاديين حاولت الفكاك من أسر نظام الموت هذا.
ثورة بلا رأس
يُشير المخرج ـ المعلق باستحياء على الأحداث ـ بأن الثورة بلا رأس، كذلك لا تمتلك وجهاً يمكن تفصيل رأساً على قياسه، (كان مهما للنظام أن يبقى الشارع بلا وجه ليفصل له راس على قياسه) ومع صوته هذا يتم تبادل رأس تمثال الأسد الأب بين أقدام الثوار. وفي المقابل يأتي الفنانون ويتقابلون والحاكم بأمره أمام عدسات التلفزيون الرسمي ـ كما في كل البلاد العربية وثوراتها المغدورة ـ ليؤيدوا النظام، ويُسخّروا إمكاناتهم الدعائية، فما كان من فارس الحلو إلا كتابة بيان لإيقاف عضويته في نقابة الفنانين السوريين، يوقع عليه آخرون، لأن هذا الوفد المتواطئ لا يمثله هو ورفاقه، وأمام شاشة الكمبيوتر يطالع الصور المتناقضة للثوار ومؤيدي بشار، حيث أصبحت صورته تتوسط العلم السوري، فالرجل هو الدولة ولا شيء سواه.
المعارضة من الخارج
باستقرار الحلو في فرنسا يكشف الفيلم جانباً آخر، وهو كيفية تفاعل المعارضة من الخارج، موثقاً للعديد من الأحداث، سواء في فرنسا وحضور الحلو هذه المؤتمرات والتظاهرات، لنرى عدة وجوه سورية أخرى، كأسامة وهالا محمد، والمخرج هيثم حقي، والكاتب ميشيل كيلو وغيرهم، أو في عدة بلاد أخرى عبر تحاور الحلو معهم. فيرى أن المستقلين وغير المحسوبين على أي تيار أصبحوا فرادى في المنفى، حتى المنفى لا يسلم من الاختلافات والجدال والتخوين، وليس أدل من مشهد إحدى بنات الحلو، وقد تجادلت ورفيقاتها في المدرسة ـ رفيقات سوريات ـ وصفنها بالمُندسّة، طالما أن أباها من المعارضين، لترد الفتاة.. «مُندسّة أفضل من منداسة».
ورغم الاستقرار النسبي للرجل ومحاولته تعلم الفرنسية، من خلال أحد الأصدقاء، إلا أن حالة من الوحدة ترافقه دوماً، ظهر ذلك في المسير طويلاً في شوارع شبه خالية، أو أنفاق المترو، أو حتى انتظار المترو وحيداً. يبحث الرجل عن عمل فني يفضح النظام، ولو بتسليط كلمة (إرحل) بالضوء في عدة ميادين. ولا يجد سوى مشاهدة الأحداث عبر شاشه لاب توب، لأنه أصبح حسب قوله «مجرد شاهد عيان في انتظار سير الأحداث». نرى كذلك جانباً آخر ولحظات متفاوتة ما بين الأمل في نجاح الثورة واليأس منها، كذلك تصريحه بأنه لم يعد يعرف شيئاً على الإطلاق، فالجميع يُعيد علاقاته وخبراته ومواقفه، جرّاء ما حدث وما يحدث.
ما أشبه الليلة بالبارحة
وتحت قصف المدن بالأسلحة الثقيلة والطائرات، تأتي صور أرشيفية لمجزرة حماة عام 1982، ثم خطاب الأسد وقتها بأن الإخوان المسلمين هم سبب ما حدث، وبالتالي يحاول النظام الحالي ممارسة اللعبة بشكل آخر، بأن يرهب المسيحيين والطوائف الأخرى أيضاً، ويحاول أن يختلق حرب طوائف، ويجعل من الثورة السورية بكل الطرق ثورة دينية لا أكثر ولا أقل، ومن هنا نجد تأييد بعض الطوائف لنظام بشار، خوفاً من حرب الإبادة التي بشر بها إن سقط ـ الكتالوج نفسه في بلاد الربيع العربي ـ لتبدأ حروب التخوين بين الناس، تاركة آثارها التي لن تنتهي.
ومن المشاهد المؤثرة في الفيلم في شارع من شوارع باريس (مظاهرة المعتقلين السوريين التي نظمها الحلو وشارك بها ثلة من الفنانين السوريين (نعمى عمران – رشا رزق – أسامة محمد – جلال الطويل – فارس خاشوق – أحمد دينو )
الناجون
وبعد فترة يبدأ فارس الحلو العمل في الدراما الفرنسية، فيجسد ـ للمفارقة ـ شخصية رجل مخابرات سوري ، ورجل أعمال حالياً، وذلك في مسلسل بعنوان «مكتب الأساطير». وفي مقابلة في أحد برامج تلفزيون «فرانس 24» يقول فارس الحلو «نحن لسنا ضحايا حرب، نحن ناجون من المعتقلات. نحن هنا بصفتنا ناجين. الناجون هم كل من حمل خطاب الحريات والحقوق ومازال، وهم كل مَن دخل المعتقلات وخرج حياً بالمصادفة ولم يلين، وهم كل مَن ركب البر والبحر والجو تفادياً للاعتقال، وهم كل من خاف من المشاركة في الثورة خشية الاعتقال».
وفي الأخير يختتم رامي فرح فيلمه بعبارة «إلى جيلي.. وكل السوريين المولودين بعد مارس/آذار 2011».
ورغم أن الفيلم يعد جزءاً من سيرة رجل وشهادته على الأحداث، إلا أنه يحاول التذكير بما حدث، حتى لا تسقط هذه الذاكرة بدورها، وكذلك النتائج التي يعيشها الشعب السوري الآن، والتي تتماس وتكاد تتطابق مع الشعوب العربية التي طالتها ثورات الربيع العربي، رغم الاختلاف الظاهري لهذه النتائج.
يذكر أن الفيلم يشارك هذه الأيام في المسابقة الرسمية للافلام الوثائقية في قابس/ تونس.
“القدس العربي”