صدر مؤخرا عن دار الكتب العلمية الجزء الأول من كتاب جديد لمحسن الشيخ راضي عضو القيادتين القطرية والقومية لحزب البعث، وعضو المجلس الوطني لمجلس قيادة الثورة بعد حركة 8 شباط/فبراير 1963 بعنوان «كنتُ بعثيا، من ذروة النضال إلى دنو القطيعة» حرره وقدم له وعلق عليه طارق مجيد تقي العقيلي. يتناول المؤلف فيه أخطاء وجرائم الحزب خلال فترة ما بعد 14 رمضان 1963 حين استلم السلطة.
وجاء في مقدمة الكتاب: محسن الشيخ راضي وهو يطرق أبواب التسعين من العمر يقدم هذه الوثيقة بالغة الأهمية، التي تكشف الكثير من الأسرار عن جرائم البعث وعمالته بحق الشعب العراقي بكل طوائفه من الشمال إلى الجنوب ودوره الذي جلب الدمار إلى المنطقة وتحالفاته العالمية المشبوهة، التي انتهت بحروب إقليمية طويلة الأمد، خرج منها بخسائر بشرية وموارد مادية حطمت حلم العراقيين بالنهوض ومواكبة التطور العلمي والتكنولوجي. مذكرات محسن الشيخ راضي خطوة مهمة تحسب له كان من المفروض أن يحذو الكثيرين حذوه بها.
الاعتذار والاعتراف
ليس سهلاً في الثقافة والعُرف الشرقي والعربي بالخصوص أن تقدم اعتذاراً عن خطأ أو اعترافا بجرم، الكثير من السير الذاتية والمذكرات لشخصيات عاصرت وشاركت في أحداث العراق الحديث، ترى أصحابها وهم شيوخ يدافعون بشراسة عن عصمة أدائهم، وما تبنوه عندما كانوا في عمر العشرين والثلاثين، وكأن عشرات السنين التي مرّت لا فعل لها بتغيير نظرة أو تبديل موقف… يتناول الشيخ راضي في مذكراته المهمة هذه، فترة من أصعب ما مرّ به العراق، وربما ما زالت إرهاصاتها فاعلة حتى اليوم، خمسينيات وستينيات القرن الماضي، أكد على أن أغلب الشخوص الفاعلين ولجميع الأحزاب كانوا بمعدل عمر الثلاثين، ولك أن تتصور أحداثا جساما ومصير بلد وشعب يُدار بنزق هذا العمر، خصوصا مجازر 63 التي كانت الأقسى والأكثر وحشية على كل الناس، وليس على الشيوعيين فقط، لم ينكر الرجل مسؤوليته عنها، كأحد الشخصيات القيادية العليا، رغم أنه لم يباشرها بيده، كما فعلت شخصيات أخرى، ورغم محدودية تأثيره أمام انتهاك الحرمات ووحشية الثأر الذي حمله قادة البعث، إلا أنه حاول التقليل من أذاهم، وقدّم أمثلة لذلك، كما قدم إدانة لنفسه ولحزبه، واعتذاراً شديداً لشعب العراق قال «اعترف بأننا، البعثيين، لم نقدم للعراق الخير وقد اسأنا بحق العراق وشعبه، وأهدرنا مستقبل أجياله، ولعل نوايانا الحسنة لا ينفع معها الاعتذار».
عن محاولة اغتيال رئيس الوزراء عبد الكريم قاسم، يتحدث محسن الشيخ راضي فيقول «روي العديد من الروايات عن محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم. ولعل في البعض منها شيئا من الدقة والصواب إلى حد ما، والبعض منها تعظيم لشخصيات غير فاعلة في العملية، لكن في التاريخ الملفق المكتوب تحت حراب سلطة الترغيب والترهيب، تم وصفهم بالأبطال، وخلعت عليهم نعوت ما أنزل الله بها من سلطان.
ويضيف الشيخ راضي «ما أرويه الآن للقارئ الكريم هي شهادة تاريخية سمعتها بحكم موقعي الحزبي في ذلك التاريخ، واتصالاتي المباشرة مع بقية الرفاق بعد تنفيذ العملية مباشرة وفي اليوم التالي: ابتداء أقول إن العملية الأولى جرى التخطيط والتنفيذ لها دون علم الحزب، وإنما محصورة في عدد من أعضاء القيادة القطرية الجديدة، وعدد محدود جداً من الرفاق المنفذين للعملية. كانت حيثيات فكرة ومشروع اغتيال قاسم قد اختمرت في ذهن الرفيق الركابي منذ أيام حركة الشواف.
«لو عاد بي الزمن إلى الوراء، وإلى فورة تلك الحماسة الشبابية والاندفاع العقائدي، وجئت تسألني هل أقبل أن أشارك في عملية الاغتيال؟ حينها يكون جوابي القاطع، اقبل بكل تأكيد انتقاما لأرواح الشهداء الضباط الوطنيين ناظم الطبقجلي ورفاقه الذين أعدمهم عبد الكريم قاسم بغير وجه حق».
أما صدام حسين، الذي لم يكن أحد الرموز المهمة في عملية الاغتيال، ولم يكن له شأن معروف في الحزب حتى أثناء اشتراكه في العملية وبعدها، ولم تكن إصابته بطلق ناري وهروبه قد شكلت قضية أساسية في تفكير أعضاء قيادة تنظيم بغداد، لعدم معرفتهم بشخصيته، ولم نتطرق له في اجتماعاتنا الحزبية. لكن الإعلام الرسمي أثناء توليه السلطة، هو الذي أسبغ على تاريخه نضالا حزبيا، ورسم له هالة البطولة والشجاعة.
ويختتم الكاتب حديثه عن محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم وتداعياتها بالقول «لو عاد بي الزمن إلى الوراء، وإلى فورة تلك الحماسة الشبابية والاندفاع العقائدي، وجئت تسألني هل أقبل أن أشارك في عملية الاغتيال؟ حينها يكون جوابي القاطع، اقبل بكل تأكيد انتقاما لأرواح الشهداء الضباط الوطنيين ناظم الطبقجلي ورفاقه الذين أعدمهم عبد الكريم قاسم بغير وجه حق».
يتحدث المؤلف في مذكراته عن 8 شباط 1963 وهو يوم الحركة الانقلابية على سلطة الزعيم عبد الكريم قاسم فيقول: «دخلتُ مبنى الإذاعة والتلفزيون وما زلت مرتديا الدشداشة، والتقيت بالمرحوم علي صالح السعدي، وعبد الستار عبد اللطيف الذي كان يعرفني أكثر من معرفتي به، ولم يكن لديّ الوقت الكافي لرؤية عبد السلام عارف أو الآخرين في دار الإذاعة، إذ كان الكل مشغولين في زحمة متابعة الوضع الداخلي للعراق، وتحرك القطعات العسكرية، لاسيما أن عبد الكريم قاسم لم يلق القبض عليه. إذ ما زال يقاتل من داخل مبنى وزارة الدفاع، ومسألة مصير الحركة ما زال خطراً ونجاحها مرهوناً بالقضاء على قاسم وزمرته. لقد كان يوم 9 شباط عصيبا وقريبا من القضاء على نظام قاسم نهائياً، رغم تحشيد الحزب الشيوعي عناصره لإفشال الحركة. وشهد ذلك اليوم في الغرفة المخصصة لعبد السلام عارف، اجتماعات ولقاءات عديدة لإعداد وكتابة البيان رقم (13) الذي يعد منعطفاً خطيراً في تاريخ حزب البعث، وأساء كثيرا إلى تاريخه بمجمله. الواقع كان البيان رد فعل على مقاومة الشيوعيين المسلحة، وردا على البيان الذي كتبه سكرتير الحزب الشيوعي (حسين أحمد الرضوي) – سلام عادل ـ الذي دعا فيه (إلى السلاح لسحق المؤامرة الاستعمارية الرجعية) على حد قوله، ولذلك على المستوى نفسه من العنف والدموية، كتب بيان رقم (13) الآن لا أدعي براءتي من البيان، لقد كان العداء بيننا وبين الشيوعيين مستفحلاً، ولم تخرج عبارات بيان رقم (13) حسب قناعتي بها، في ذلك الوقت عن مكنونات حقدنا على قاسم والشيوعيين، فقد وصف قاسم بأنه عدو الله لأنه والشيوعيين كانوا معادين للعروبة والوحدة العربية، ولأن قاسم أعدم نخبة خيرة من الضباط القوميين. ويبدو أن جميع الحاضرين من البعثيين المدنيين والعسكريين لحظة كتابة البيان، لم يعترضوا على ما جاء فيه جراء رد الفعل الشعبي القوي والمقاوم على مدى يومين من محبي قاسم وأنصاره، فضلا عن المواجهة الشرسة التي قامت بها مجاميع مسلحة من الشيوعيين في محلة باب الشيخ ومدينة الكاظمية، وبالقرب من مبنى الإذاعة، وفي منطقتي الشاكرية والصالحية. فقد قاد محمد صالح العبلي مجاميع شيوعية مسلحة، واجهت بقوة أنصار البعث في شارعي الكفاح والجمهورية، وحول بناية وزارة الدفاع. وأن نزولهم إلى الشارع وبكثافة غير متوقعة وبصورة مفاجئة، أثارت الخوف والرعب في قلوب قادة الحركة، لاسيما العسكريين الذين شعروا بأنهم لن يفلتوا من بطش وفتك الشيوعيين بهم، ولذلك جاء بيان (13) وفيه أصروا على إبادة الشيوعيين، بما يوازي شعورهم من انتقام الشيوعيين منهم.
الحقيقة كان سلام عادل صيدا ثميناً للحرس القومي وذنبه الكبير الذي أوقعه تحت طائلة التعذيب الجسدي القاسي، الذي لقيه من الحرس القومي هو مسؤوليته عن كتابة وإصدار بيان 8 شباط، الذي أشرف بنفسه على طبعه ونشره، دعا الشيوعيين فيه إلى حمل السلاح بوجه البعثيين، ولأجل ذلك لقي بسادية ووحشية على أيدي عناصر منفلتة من الحرس القومي تعذيباً يوازي دعوته لمقاتلة البعثيين، حسب تصوراتهم. والحق كان سلام عادل متطرفاً وراديكاليا متشدداً، وحسب قناعتي أنه ذهب بعيدا في قيادته للحزب الشيوعي، فهو الذي عمق الصراع الشيوعي ـ البعثي عام 1959 عندما كان في وقتها أميناً عاماً للحزب الشيوعي العراقي (سكرتير عام اللجنة المركزية) ليس هذا وحسب، وإنما راديكالية سلام عادل كانت وراء الخلاف الذي حصل داخل الحزب الشيوعي نفسه، بين اللجنة المركزية والمكتب السياسي. فثمة عناصر شيوعية كانت معتدلة بالقياس إلى تطرف سلام عادل، منهم محمد حسين أبو العيس، عامر عبد الله، زكي خيري وبهاء الدين نوري. تلك التراكمات التاريخية التي امتدت إلى العنف الشيوعي والإرهاب الجماعي على الحركة القومية والبعث تحديدا وخلفيات هذا الإرهاب، إذا شئت أبعد من عام 1959، فقد وقف الشيوعيون وراء تفكيك جبهة الاتحاد الوطني عام 1957.
ويؤكد الكاتب قائلا «الواقع كلنا مسؤولون عما حصل في شباط 1963، لكن المسؤولية المباشرة تقع على عاتق المسؤولين عن قصر النهاية، وغيره من المتعطشين لتعذيب الشيوعيين وإبادتهم، منهم جماعة منظمة الحزب في القاهرة وغيرهم مدحت إبراهيم جمعة الذي كان مسؤولا عن معتقل قصر النهاية، عمار علوش، عبد الكريم الشيخلي، الذي تولى مسؤولية قصر النهاية أيضا، محمد حسين المهداوي، أحمد طه العزوز، هاشم قدوري، بهاء شبيب. ولست مبالغاً إذ قلت إن الشيوعيين بالغوا في الاتهامات إلى حد التزوير والكذب في كتاباتهم، وظنوا أن التاريخ واقع في طي النسيان، وان الحقيقة لا تظهر واضحة.
في شأن اتهامات الشيوعيين وتحميلي أخطاء لم اقترفها، لا أريد أن أبرر لما جرى من جرائم بشعة، لكن لابد أن أقول كلمتي للتاريخ، بأني في ذلك الوقت كنتُ مسؤولاً عن تنظيم الحزب في بغداد، ولم أتول مسؤولية عمل أي لجنة تحقيقية، ولم أكن مسؤولاً عن قيادة الحرس القومي. كما لم تكن هناك لجنة عليا مثلما يدعي الشيوعيون بأني كنتُ مسؤولاً عنها، تشرف على التعذيب. وما أريد أن أقوله للشيوعيين العراقيين، أن يعيدوا كتابة تاريخهم بكل أمانة، وسأترك التعليق للمؤرخين وللباحثين عن الحقيقة، أما عن الخلافات داخل صفوف حزب البعث، خاصة قياداته يذكر المؤلف محسن الشيخ راضي، أنها تفاقمت في المؤتمر الخامس للحزب في أيلول/سبتمبر 1963 فيقول: «حتى أيلول وصلت الخلافات الشخصية بين أعضاء القيادة القطرية مرحلة لم يعد البعث فيها حزباً متماسكاً، ومثلما أشرت في مكان سابق بوصفنا أنا والمرحوم هاني الفكيكي متفرغين للعمل الحزبي، لكن لم تعد جهودنا واتصالاتنا الفردية بين بعض تنظيمات الحزب قادرة على انتشال الحزب من حالة التشتت التي بدأت معطياتها مع الوضع السياسي العام، تدق نواقيس الخطر لتدمير الحزب، وابتلاعه من الفئات الانتهازية، لاسيما بعد أن تعمقت تناقضات الحزب مع السلطة الحاكمة، فقد تحول الحزب من حاكم باسمه إلى معارض للسلطة الحاكمة باسم الحزب».
كان الرئيس عبد السلام عارف يتآمر على علي صالح السعدي وجماعته، ويعمل للتخلص منهم بمساعدة حازم جواد ومجموعته.
عبد السلام عارف يتآمر علينا
يقول المؤلف ، إن الرئيس عبد السلام عارف كان يتآمر على علي صالح السعدي وجماعته، ويعمل للتخلص منهم بمساعدة حازم جواد ومجموعته. فيقول «مع مرور الوقت بدأت خلافاتنا في جناح البعث المدني تتجلى، وتأخذ شكلها العلني في جناحين متصارعين على أبواب السلطة، ولأننا نحن جناح علي صالح السعدي، نرفض طروحات جناح حازم جواد وطالب شبيب، المدعوم من عبد السلام عارف، وبقية العسكريين بشأن إدارة الدولة وتحجيم دور الحزب في مؤسساتها، أخذت الاتهامات والانتقادات المقصودة توجه إلينا بأننا شيوعيون متسللون وفوضويون نحتمي بالحرس القومي كأداة ردع ضدهم. أخذت تحركات عبد السلام عارف المعادية تشكل تحديا خطيرا على وجود الحزب في الحكم. وأصبحت تحركاته مكشوفة لجناحنا، ووصل الأمر أن علي صالح السعدي لم يعد يطيق وجود عارف بيننا كشريك في السلطة، لذلك طلب السعدي منا أن نوافق على عملية ذهابه إلى القصر الجمهوري وقتل عارف، بالتأكيد لم نكن جميعنا موافقين على عملية القتل. تمثلت خطورة عبد السلام تجاه الحزب، عندما عمل بذكاء على تنصيب كبار الضباط القوميين والناصريين على رأس الفرق العسكرية المحيطة ببغداد، وخارج حدودها، رغم محاولات السعدي غير المجدية الاعتراض على هذا الإجراء.
يقدّم الكتاب عرضا شخصيا لأحداث تاريخية مؤثرة ومهمة في تاريخ العراق، ويشكل إضافة مهمة لسرديّات البعثيين العراقيين عن أنفسهم، وعن دورهم في أحداث خطيرة في تاريخ العراق الحديث.
كاتب عراقي
“القدس العربي”