ديسان فان بريدروده ابنةٌ لراهبٍ يسوعي، درست الفلسفة وراحت تمارسها في كتابتها للرواية والمقالات. تهتم ديسان بمسألة أن يعيش الإنسان متنبهاً لما يجري من حوله، وغالباً ما تحاول تقييم الأمور من خلال ميزان فلسفي أخلاقي. ولقد تواصلت في بداية الثورة السورية مع لجنةٍ لدعم الثورة السورية في هولندا، وبعد فترة رَشَّحت نفسها لإدارة اللجنة، وانتُخبت هذا العام للمرة الثالثة كعضو إدارة في اللجنة. تحاول ديسان بأسلوبها الدقيق أن تطرح القضية السورية عن طريق ربطها بمواضيع أخرى تتعلق بموقفها العام من الحياة.
هذا المقال الذي أعدته ونقلته من الهولندية إلى العربية رحاب شاكر هو نصٌ مقتطفٌ من كتاب تأبّطتُ روحي، وهو عبارة عن مجموعة مقالات عن مواضيع مختلفة كتبتها ونشرتها ديسان في عدة مجلات وجرائد، وتم جمعها وإصدارها في كتابٍ واحد عام 2013.
«هل ثمة حياة على كوكب بلوتو؟ هل يمكنك الرقص فوق القمر؟ هل من متسعٍ لي بين النجوم؟».. لا، هذه ليست أسئلةً لمسابقة، ولا حتى مطلع قصيدة عميقة المعنى. إنها جزءٌ من اللازمة في أغنية غنتها فرقة هولندية اشتُهرت في ثمانينيات القرن الماضي. تحكي هذه الأغنية عن شخصٍ يريد أن يهاجر من هولندا، ولكن إلى أين؟ الشيء الذي لا أفهمه هو لماذا تريد هذه الفرقة أن تترك هولندا؟
في أغنيةٍ أخرى تغني فرقة اسمها «دو مار» عن الهروب والملاجئ، بيدَ أن الخطرَ في هذه الأغنية واضح، فعاجلاً أم آجلاً ستسقط القنبلة الذرية. يوم القيامة قريب، وسنواجه الكارثة لا محالة.
تبدو الكآبة صفةً هولندية أصيلة، فقبل عشر سنوات غنّى الثنائي جاني آريان وفرانس هالسما نصاً عنوانه «لم يعد الهروب ممكناً» للكاتبة آني شميدت. الأغنية حزينةٌ هادئة، وتحكي عن بلدانٍ بلا أسماء يُستحسن تجنبها بسبب الحروب وعدم الأمان والكوارث البيئية فيها.
حتى القمر وكوكب الزهرة مليئان بالعربات والأدوات، وهنا أيضاً، على الأرض، «يصدح آخرُ طيرٍ في آخرِ ربيع».
لذا لم يبقَ أمامنا سوى أن نرميَ أنفسنا على صدور بعضنا بعضاً، فبعد كل كارثة، ليس هناك سوى هذا الاجتماع الرومانسي بين الغرباء، أو اللقاء بين الحبيبين اللذين يزدادان ولهاً كلما قلّت الواجبات.
يبدو أن كُتَّاب النصوص الهولندية يفكرون كثيراً بالهروب واللجوء، إلا أنهم يفكرون أقلّ باللاجئين. يعرفون بالضبط أي البلدان التي ينبغي تجنبها، كما يعرفون الفظائع التي تجري هناك، ومع ذلك لا يخطر على بال أحدهم أن يكتب قصائد ترحيبية يمكن أن يغنيها الناس من شغاف القلب، ويتذكروها لسنواتٍ بعد انطلاق الأغنية.
عندما أسمعُ أغاني اللجوء في الراديو أو كخلفية موسيقية ممتعة، أو في السوبر ماركت، أتساءل عن رأي اللاجئين بكلمات تلك الأغاني. كيف يصغون للكوميديين الذين لا يتندرون بقضايا اجتماعية وسياسية هامة فحسب، بل يهتمون أيضاً بالتلصص والغيبة والحكم على الآخر، وبعقلية «هذا من حقي» السطحية الخائفة الرثة، والتي يفترض أنها تمثّل هولندا؟ كيف يقرأ هؤلاء اللاجئون الأعمدة في الجرائد والمجلات والتي تصوّر هولندا كمستنقع وحلٍ كئيب، تعيث فيه الأيادي الجشعة، أو كحقلٍ لا يجرؤ الإنسان فيه على مد عنقه خشية أن تنهال عليه المناجل. هل يوافقون على هذه الآراء أم لا؟ لماذا لا نسمع أو نقرأ عن هذا شيئاً؟
يُخيل إلي أحياناً أن الهولنديين يريدون من اللاجئين أن ينشغلوا ببلدهم، بأُناسهم وبالمأساة التي تركوها خلفهم. حتى ولو دخلوا السجن هنا من غير أن يرتكبوا إثماً، المطلوب منهم أن يكونوا سعداء، فلقد نجَوا من خطر الطريق، وثمة سرير مرتب بانتظارهم وحمام وغذاء كافٍ ومياه شرب نظيفة، إلى آخره. إنها أشياء لا يستهان بها، مقارنة مع ما مرّ به هذا الرجل أو تلك المرأة. أليس كذلك؟ لا يحق للاجئ أن يقدم ملاحظات على البلد المضيف. خلافاً للهولنديين أنفسهم، عليهم أن يعتبروا هولندا بلداً رائعاً، بلا أي تردد. وحتى أننا لسنا بحاجة للنقد البناء. على القادمين الجدد ألا يتأففوا من الهدية التي منحناهم إياها، كما ينطبق على اللاجئين القدامى المندمجين القانون الضمني الذي يقول: لا تعضوا اليد التي مُدّت إليكم بالمعروف!
هل عندكَ «أيها اللاجئ» ملاحظاتٌ حول الشعبوية المتفاقمة هنا؟ مقارنةً مع الحروب الأهلية الدامية في بلدك الأصلي، فإن نشر الكره «على يد الشعبويين» لا يساوي شيئاً. وبرأيي أنك تعرف هذا جيداً، أليس كذلك؟
طبعاً لا أحد يجاهر اللاجئين بهذه الطريقة الفجة، الغضبُ ينبتُ تحت الجلد. تلاحظ هذا جيداً من خلال الردود على عيان هيرشي علي (لاجئة صومالية في هولندا، غادرت بعدها إلى الولايات المتحدة). طالما هي تهاجمُ تقاليدَ إسلامية سيئة، فالجميع منبهرٌ بها. فحتى لو كانت أحياناً غير دقيقة، فهي على الأقل شُجاعةٌ تجرأت على فتح فمها. أضف إلى أنها ذكية جداً وقارئة نهمة، تتكلم الهولندية بفصاحة، ترتدي ملابس غربية أنيقة وهي على علم بأساليب التعامل هنا، يا لها من مواطنة عالمية! ولكن في المرات القليلة التي انتقدت عيان هولندا غير الإسلامية، ساد الصمت المخيف. صمتٌ يقول: قفي عندك، قدمنا لك كل الفرص كي تصلي إلى ما وصلتِ إليه، ولم نُعدكِ إلى الجحيم الذي جئتِ منه، لذا عليكِ أن تكوني راضيةً شكورة. نُدرك طبعاً أن الأوضاع هنا ليست مثالية، ولكن لا حاجة أن نسمع هذا من شخصٍ ليس منا، وبالأخص ليس من شخص مرّ بتجارب أصعب بكثير.
أما على الصعيد الشخصي، فقد لاحظتُ أن الهولندي الذي يبني صداقات مع لاجئين، لا يتجرأ على الإفصاح عن مشكلاته الخاصة. مقارنة مع ماضي اللاجئ المأساوي لا يساوي حزنه على قطته شيئاً. مسموحٌ للاجئ الحزين أن يقاسمنا أفراحنا ومتعاتنا، ولكننا نخجل أن نتأفف أمامه من الجو الفظيع، أو من إجازة لم تتم بسبب عطلٍ في السيارة، أو من الصدامات مع ابنتنا المراهقة، أو من حرقة في المعدة، أو من التعديلات في المطبخ.
نؤمن سراً بأن صديقنا اللاجئ سيفكر أنعلى الهولندي أن يضحكَ في سرّه، فهو يعيش في بلدٍ حر. أو نعتقدُ بأن اللاجئ سيشعر بالإهانة عندما نشاركه دواخلنا.
ولكن إلى أيّ درجة نكون جديين مع اللاجئ، إذا قررنا عنه مسبقاً ما هي الأشياء التي يحق له أن يعرفها عنا وما هي الأشياء التي لا يحق له أن يعرفها؟ إلى أية درجة نعامله على قدم المساواة، عندما نصمتُ عن ذكر الأمور التي تتعبنا، ولا نسمح له أن يساعدنا أو أن يردَّ بشكلٍ أو بآخر؟ كيف سيتمكن اللاجئ أن يبني هنا حياة جديدة إذا ذكرّناه في كل مرة بالعذاب الذي ترك خلفه، حتى خِلناه جزءاً منه؟
اللاجئ مكتوبٌ عليه الانتظار، فلا يستطيعُ أن يفعلَ شيئاً، وقد يستغرقُ انتظاره لمدة سنوات طويلة. وإذا واكبه الحظ وتم تصديق قصة لجوئه، فإنه سيبقى ذلك المسكين المحتاج إلى مساعدة وإشراف الآخرين، حتى ولو جلب معه شهادات كثيرة، وطاقة على العمل تكفي لعشر أشخاص.
طبعاً عليه ألّا يبحثَ عن وظيفة ومنزلٍ بنفسه، لا، لأن هنالك إجراءات ثابتة لا تتغير بهذا الخصوص. وحتى لو سُمِحَ له بالمشاركة الكاملة في نهاية المطاف، فسيبقى ذلك الأجنبي الذي يستحق الشفقة، والذي لا يحقّ له أن يدليَ برأيه بتلك العادات والسلوكيات الغريبة في هولندا، ولا أن يقدِّم تعليقاته على الأحوال الهولندية الراهنة، مع أن نظرة شخص من ثقافة مختلفة غالباً ما تكون منعشةً للتفكير. كما لا يحقّ له أن يتعرّف علينا جيداً، فترانا نحتفظ بغسيلنا الوسخ ومشكلاتنا، حزننا وهمومنا، بعيداً عنه. وإذا بالغنا قليلاً، فإن اللاجئين يدخلون سجناً: نحبسهم في كاريكاتور، نُلصقهم بماضيهم، نعطيهم دوراً في مسرحيتنا، والويلُ لهم إن تفوهوا بما هو خارج السيناريو.
علينا أن نعترضَ بشدة على تضييق سياسات اللجوء والهجرة، ولكن ربما علينا أيضاً أن نُصارع في دواخلنا تلك العقلية والعادات المهترئة.
العقائدُ سجون، هكذا كتب الفيلسوف نيتشه. ولقد كان يعرف بأن الشفقة من الفضائل السيئة، هيَ أشبهُ بالتمتع بالعذاب. الشفقة تقتل أكثر مما ينبغي، ومع ذلك يبدو أننا مدمنون عليها. الشفقة على الآخرين تعطي إحساساً جميلًا أشبه بالثمالة: أنظر إلي، كم أنا متفهم، و كم أقوم بالعمل الصالح. لا نرى الآخر، لا، بل ننظر إلى نظرتنا في المرآة، بينما نقتلُ اللاجئ بعناقنا له. الشفقةُ كسلاح.
ينبغي على من يريد أن يكتشف في اللاجئ إنساناً حقيقياً، أن يمتلك شجاعة ألا يستفسر عن تاريخه المأساوي فحسب، أو عن كل شيءٍ جعله يترك بلده وأحبّته، بل أن يتعامل بجدية مع كل تجاربه في هولندا وتحفظاته عليها. ينبغي على من يريد أن يمنح اللاجئ فرصة، أن يكون صادقاً بخصوص نقاط ضعفه وحساسياته، حتى ولو تعلَّق الأمر بحساسياته من سلوك الصديق اللاجئ نفسه.
اللاجئون ليسوا قديسين، وليسوا أقل منا قدرة على رؤية الأمور بحجمها النسبي، أوعلى إطلاق النُكات. كما أنهم يحبون أحياناً أن يشتموا الطقس والذي خلفه، والمواصلات العامة، القهوة التعيسة، والمكيّف المركزي المعطل والذي لا يمكن تصليحه إلا بعد انتهاء العطلة الأسبوعية. إذا سلبناهم هذا الحق، فقط لأنهم مروا في حياتهم بأشياء أفظع بكثير، فلقد أدخلناهم ديكتاتوريةً جديدة اسمها الشفقة. ديكتاتورية تخلع عنهم إنسانيتهم ببطء، حتى ولو حصل ذلك بكامل النوايا الحسنة.
تاريخُ الغناء الهولندي في جعبته أغنية أخرى، ليست عن اللجوء، ولكن عن العودة. عودتنا جميعاً، من دون استثناء، من حيث جئنا: الجنة! لا، الجنة ليست موجودة في خريطة العالم. وليس من علاماتها أن طقسها جميل، وأن الشمس فيها تُشرِق عشر ساعات على الأقل في النهار الواحد. وليس هنالكَ قصورٌ تحولت إلى فنادق لأولئك الباحثين عن السعادة. الجنة تكون حيث ينظر الإنسان في عين الإنسان، وحيث يساعد الناس بعضهم بعضاً، لأن يداً واحدة لا تصفق. طالما أننا لسنا قادرين على اتخاذِ هذا الموقف غير المتحيز والمنفتح، ولا نتعامل مع اللاجئين من منطلق المساواة والتبادل، ستبقى الجنة بعيدة عنا نحن أيضاً.
الفرصة لم تضع بعد، مازلنا قادرين على العودة، غداً، اليوم، الآن.