تضع الاحتجاجات ودوامة العنف التي تشهدها كازاخستان، دول آسيا الوسطى والدب الروسي في موقف حرج، وقد تفرض على فلاديمير بوتين إعادة حساباته بين التوسع غربا نحو أوكرانيا، حماية شريكه في بيلاروسيا والانخراط عسكريا في كازاخستان لإنقاذ حكم قاسم جومرت توكاييف.
كازاخستان الغنية بالنفط والغاز، التي كانت أحد دول الاتحاد السوفيتي السابق، لم تعتد على موجات التظاهرات كالتي انفجرت أول الأسبوع، بعد زيادة أسعار الغاز وتردي الواقع المعيشي.
شكل التظاهرات مختلف ويعكس حالة غضب في الشارع قد لا تكون عابرة وتهدد المنظومة السياسية التي أتى بها نور سلطان نزار باييف إلى الحكم في 1991. المنظومة الفاسدة التي استمرت حتى بعد تنحي نزار باييف من الحكم في 2019، وأنفقت الثروات النفطية على بناء عاصمة جديدة سمتها آستانا “نور سلطان” فيما دخل الفرد الشهري لا يتخطى الـ600 دولار.
النظام السلطوي بفساده وقمعه ليس لديه القوة الكافية لإخماد التظاهرات، ولذلك استدعى رئيسه توكاييف القوات الروسية وغيرها من منظمة معاهدة الأمن الجماعي التي تقودها موسكو.
وجر روسيا الى التدخل عسكريا في كازاخستان يعني تقييدها في أزمات أخرى، خصوصا إذا استمرت التظاهرات. لوجيستيا، موسكو غير قادرة في المدى المتوسط أن تتدخل عسكريا في شرق أوكرانيا، وتنخرط في ألماتي، العاصمة الاقتصادية لكازاخستان.
عدم الاستقرار في كازاخستان يهدد بشكل مباشر بوتين غير القادر على خسارة حليفه السياسي والاقتصادي هناك، ويفرض عليه إعادة درس أولوياته. فهل التدخل العسكري في أوكرانيا بعد حشد 100 ألف جندي روسي في الأسابيع الأخيرة، سيعني عدم القدرة على حماية توكاييف؟ هل يتراجع بوتين في أوكرانيا وينكفئ لحماية الأنظمة الموالية له في بيلاروسيا وكازاخستان؟
من دون شك أن الصورة الجيوسياسية زادت تعقيدا على بوتين عشية قمته مع الجانب الأميركي في جنيف الأسبوع المقبل، وبعدها مع حلف الشمال الأطلسي (الناتو).
بوتين أراد استخدام ورقة أوكرانيا للمقايضة مع الأميركيين في ملفات أخرى بينها العقوبات وإعادة فتح القنصليات ومنظومة صواريخ الأس 400 للهند. إلا أن انفجار القنبلة الشعبية في كازاخستان أضعفت في موقعه التفاوضي خصوصا إذا لم يتم حل الأزمة قبل قمة جنيف.
الاتهامات للخارج من نظام توكاييف وقطع الإنترنت والاتصالات غير مقنعة وغير كافية لتهدئة المشهد. فهناك حاجة اليوم إلى حوار وإصلاحات عاجلة في كازاخستان وعدت بها الطبقة الحاكمة بعد تنحي باييف ولم تنفذ شيئا منها.
بالنسبة لواشنطن، رغم أن أحداث كازاخستان قد تساعدها في المفاوضات مع بوتين حول أوكرانيا، فإنها قد تتضرر أيضا من حال عدم الاستقرار هناك. فشركة شيفرون الأميركية هي صاحبة العقد النفطي الأكبر في البلاد، ووزير الخارجية أنتوني بلينكن أكد على الشراكة بين البلدين وأدان العنف “من الطرفين” في بيانه حول الأحداث.
هذا يعني أن هناك مصلحة مشتركة لواشنطن وموسكو للوصول لحل سلمي في كازاخستان، إنما بوتين هو أكثر استعجالا له لتهدئة الحريق في حديقته الخلفية. هذا حتما يضيق من هامش المناورة الروسية في المفاوضات مع أميركا والأوروبيين ويساعد أوكرانيا في تقوية شروطها قبل العودة إلى اتفاق مينسك.
أحداث كازاخستان تبرهن لبوتين أن ثوابت الاستقرار في الجمهوريات السوفياتية السابقة الحليفة له اليوم تتضعضع واحدة وراء الأخرى، وأن حساباته النفطية مع أوبك لرفع سعر المحروقات انقلبت عليه سياسيا في حديقته الخلفية.
فحتى لو أخمد توكاييف التظاهرات وأعمال الشغب، فإن هذه الثوابت وثقة بوتين بقوة الروابط والمصالح في كازاخستان تهزها اليوم صور المدنيين الذين أسقطوا تمثال باييف ولا تعيرهم أمجاد السوفيات.
“الحرة”