تُربكنا حرية قصيدة النثر بقدْر ما تذهلنا تحولاتُها، من قصيدة السطر المدهشة غير الموزونة إلا بإيقاعها، في جرأتها على ارتداء المألوف وغير المألوف من أزياء الحياة اليومية، طويلاً، قصيراً، لا يكاد يُرى، بل والخروج عارية كذلك في الشارع، إلى القصيدة التي ترتدي ثياب العبث والسخرية والحكاية، في واقعية كلامها وهذيانها، إلى القصيدة التي تتزاوج بما شاءت من أكوان، إلى قصيدة المتتاليات الشعرية التي تأسِرنا بحريتها في التجوال بدواخلنا والعبث لَعِباً بدماء خلايانا الراكضة لملاحقة تداخلاتها وعبثها وإشاراتها ورموزها، وتساميها في حماية الحرية، وصراخها في ضباع نفسها مع ضباعنا لنا؛ أنْ ننظر عميقاً في إشاراتها وإشارات أنفسنا.
هكذا تفعل مجموعة الشاعر المصري أشرف يوسف الجديدة «وردة التخييل الذاتي»، التي تُغرينا بالتوقف أولاً للتساؤل عن كلمة الذاتي التي لا تنتمي إلى الشعر في وهلة تلقينا الأولى لها، وتربُكنا بعدها مع تتالي قراءتنا وملاحقتنا لإشاراتها في التساؤل عن ماهية الشعر، لتكشف لنا أنها الشعر ساطعاً بعرائه وبما تنكّر من ثياب وأقنعة.
«وردة التخييل الذاتي» متتاليةٌ شعرية تتجاوز شعرية الإشارات والرموز إلى تحويل معالجة نقد الإشارات والرموز إلى شعر، بقدرات استخدام تفاصيل الحياة اليومية، وتفاصيل المكان العياني، وعلاقات الناس ببعضها وبحكّامها في أزمان السلم والثورات والكوارث، كأجنحةٍ لشاعريتها، كما تحوّل تفاصيل علاقات الروح بجسدها، في تقنيع الذات لعاداتها العلنية والسرية وإيروتيكيتها في زمن الواقع الافتراضي الذي بدأ بتسيير حياتنا، إلى قصائدَ تنقل علاقاتنا لسماوات التسامي عند انكشافها وتجلّيها. وتخترق هذه الوردة الملعونة من واقع المألوف، جدرانَ عوالمنا، بتداخلات علاماتها وإشاراتها ورموزها، ناهيك عن صورها، لتدفعنا إلى إعادة تركيب واقعنا الذي ركّب ذواتنا وفق مشيئته، لا وفق إرادة مشيئتنا. وتفعل أكثر من ذلك فنياً بتزاوجها المدهش مع الرسم، كتحاور وتعارضٍ يُذكّر بتحاورات بيكاسو مع أعمال أصدقائه، وبالأخص منهم رودان، وذلك بتداخل المتتالية مع رسومات الفنانة البولندية كارولينا كوريل، شريكة المجموعة في تشكيل الصورة مع الكتابة، بتقارب خطوطها مع رسومات بيكاسو، وتذكير هذا التحاور لنا بحركات الفن التي أنتجتها الحروب والكوارث في بدايات ومنتصف القرن الماضي، من الدادائية إلى السوريالية ومن ثم العبث وحركة الحداثة، وما بعدها. ويتأكد هذا من جهة النص بأسلوب الكتابة الآلية التي تجري على يد يوسف كما نهرٍ متدفق بلغةٍ سلسة طازجة مدهشةٍ برفعها اليومي إلى الأسطوري، ورفعها المكان المعين إلى اللامكان الذي يجد نفسه في كل مكان، داخل نفس القارئ. ويزيد ذلك يوسف بما يُداخله من أقوالٍ وشخصيات لا توفّر ماركس، ولا سبينوزا، ولا نيتشه، ولا بريفير في معارضته قصيدة «العائلة الأرستقراطية»، مع فيروز التي تغني حلوة سيد درويش التي قامت تعجن في البدرية، باسمها الحقيقي نهاد حداد، وشخصيات الضحايا من النساء اللواتي احتضنّ ثورة يناير ليجدنَ أنفسهنّ مضطهداتٍ ومغتصبات داخل سجون الإسلاميين والعسكر، ومتحرّش بهنّ في الشوارع من قبل زعران النظام، بما يكشف واقعَ الرعب الذي وصلت إليه القاهرة.
وأكثر من ذلك، بتتالٍ تولّده المجموعة خلال وبعد قراءتها، يكشف يوسف بوردة تخييله الذاتي و«سيميوطيقاه العجيبة التي يقضم أحلامها» مدى ما يمكن أن تخلقه قصيدة النثر بتحدّيها لمن يدركون فخاخ حريتها، من عوالم تتجول في ساحات الحرية متألقةً بين الأسلاك الشائكة للحواجز، وفوهات المدرعات، ورعب وحوش السجون، كما أروقة الفنادق، وغرف الحب، والسكن الجماعي والمكتبات وفَرشات الكتب على الأرصفة، وكلّ ما يشكل القاهرة كمدينة صديقة تعيش دعتها وهدوءها وطيبتها، مثلما تعيش رعبَ الضباب الذي يأكلها، في بداية المجموعة، ورعبَ الضباع التي تتناهشها في نهايتها التي تنفتح على بدايتها.
في تفتيحه لوردة تخييله الذاتي، يشكّل يوسف متتاليته الشعرية كبنية ظاهرةٍ في قسمين: الأول تحت عنوان «يوميَّات حظْر التجوال»، وفيه تتوالى القصائد كقصيدة واحدةٍ يفصل بين مواضيع تدفّقها أو يومياتها واحدٌ وثلاثون رقماً، تبدأ بالرقم صفر، ويتضمّن نصّ الضباب الذي يخفي معالم «المدينة الصديقة»/ القاهرة، بناسها وشاعرها الذي يشهد نهاية الثورة ويكتب الضباب: «هجم الضباب وسنّ أسنانه،/ وتجسَّد في مسارات لا تُرى،/ وصار موزّعاً بين جهات عديدة،/ فغطّى الإسفلت والمدرعات والجنود خارج الثكنات،/ فاختفى الميدان الكبير،/ وتماثيل للكذب بلا نافوراتٍ معطّلة…/ اختفى كل شيء أمام عينيّ،/ وتماهيتُ مع الاختفاء،/ حتى صار جسدي لا مرئياً،/ وعندما أتحسّسه بيديّ اللتين تقاومان/ كلّ الذي يُشعرني بالمهانة والابتذال../ أقبض على فكرة هاربة لحلم مفقود/ عن عيش، حرية، عدالة اجتماعية’».
كما يفتتح يوسف هذا القسم برسم كوريل الأول الذي يعبّر عن التتالي، بوجه امرأة تنزل من عينها اليسرى دمعةٌ تحتوي الوجه نفسه الذي تنزل من عينه اليمنى دمعةٌ تحتوي الوجه نفسه.
ويقدّم يوسف قِسمَ مجموعته الثاني بعنوان: «مفردةٌ في متحف الليل» ويشكّله من مقاطع تفصل بينها نجوم، تليها قصائدُ بعناوين الأصوات، تتضمّن أحد عشر صوتاً، يختمُها بنصّ يعيدنا بمعنىً إشاراتياً إلى «ضباب» القسم الأول، وسيطرةِ العسكر بعد الإسلاميين:
«أيّ فئران ضعاف نحن، وعضلاتنا مفرودة فوق وجوه/ لا تتوقّع منّا إلَّا سفْك الدماء/ بمجرّد أن يكون دويّ الطلقات مُعاشاً/ وتتطاير أشلاء الجثث في الهواء،/ بعضنا مرتبك؛ لأنه صار قاتلاً،/ والبعض الآخر بسرعة البرق يلتهم/ ها نحن أخذنا دوْرنا، وصرنا في نهاية الرحلة،/ مجرّد ضباع شبيهة بضباع كم مقتناها في مرحلة الإقامة/ أمام التليفزيون/ والزعيمُ يخطب».
ويفتتح يوسف هذين القسمين بإشارة حول الذات والمجموع تتضمن إهداءه المجموعة: «فليسقط زيف «نحن» أمام هيمنة ضمير المتكلّم على حنجرتي؛ وهي تتهيّأ لمغادرة الصمت وعاره الذي يقتلني ببطء… إلى: جيجي.. شاعرة القرية، وأحمد دومة.. شاعر السجن».
وفي منظومة سرده هذه التي يقتل فيها زيف الـ «نحن»، تناغماً مع متتاليته التي تشكّل شِبْهَ رواية شعرية تتضّمن سردَ حياته وأجزاء من طفولته في التشابك مع موضوع متتاليته؛ يكتفي يوسف بسردِ ضمير المتكلّم، لكن مع ارتدائه أقنعة الآخر، وثيابَ المكان وعقارب ساعة الحدث، مع سرد الذات الذي يتألّق فيه بخطاب نُسَخِه الحاضرة والقادمة:
«لقد مللتُ من دوائر الكلام بيني وبين تهيّؤاتي/ يا رَجُل.. تحدث إليّ؛/ الموتى يهزّون أجسادهم أحياناً/ هيَّا، حَركْ لسانك،/ لديّ رغبة في سماع صوتك/… فلتعْلمْ أَيها الفاشي العاشق/ أنني مجرد نسخة حية معيبة،/ وأنت بكلّ بساطة مجرّد نسخة ميّتة لنفس الرَجل… / هيا، ترجل من مقبرتك/ وكلّمني وجهاً لوجه؛/ فالحياة قصيرة للغاية،/ ولا بدّ للمرء قبل أن يموت ويلتحق بنسخته الميتة/ أن يترك أثراً يقال عن نسخته الحية المعيبة».
في البنية العميقة لوردة تخييله، على صعيد شكلها الفني المتناغم بقوة مع مضمونها، وبإضافة سيميوطيقاه الدائرة بحثاً عن المعنى، تتجلّى قدرة يوسف في خلق التشابكات بسلاسة وحرارة رغم خلفياتها النقديّة الباردة. كما تتجلّى لغة يوسف المتدفقة التي لا يكتفي فيها بتتالي المقاطع الناجح، بل يزيدها في إمتاع قارئه بإطلاق سهامٍ متتالية من جمله الشعرية داخل المقطع، وزيادة المتعة بتركيب جمله وفق مجريات الكتابة الآلية التي تُداخل وتُشابك صور الأحلام والكوابيس بصور الواقع، وارتكاب معاصي الجرأة بالكشف الذي لا يأبه بالمقدسات، ويسمو بالمحرّمات الاجتماعية ومنها الإيروتيكية إلى التعامل النظيف مع المتعة المترافقة بمتعة رسومات كوريل المتفاعلة مع صور النصوص:
«لكم شغلني نعيمُ إبطيْها؛/ فهُما معاً شاطئا نجاتي،/ وتلك الشعيرات الصفراء ااتي سألحسها بلساني/ وأنا أدخن سيجارة/ لأخلط الحلويات القوية بمتعة الرائحة الطيبة/ للأمطار الغزيرة التي ترافقنا/ ونحن نفك لبعضنا عقدة الانْدماج؛/ لمجرّد النظر لإبطَين وشُعيرات صفراء /في مرآة فندق مُستأجرة؛/ فكلانا لاعب ومتفرّج،/ وفاشلان.. صدقيني/… وسأموت قبلك، وستندمين/ أَنك أفلتِّ هذا العاشق الصعلوك/ دون ملامسات حيّة تضجّ بالحنين إلى/ تلك الروح البريئة/ الملتوية/ النائمة هناك».
وفي هذه البنية العميقة، بأسلوب فريد في التداخل الفني الحافل بالإشارات والعلامات والرموز القديمة، والحديثة التي تنتمي إلى آخر ما يتفتق عن الواقع من واقع افتراضي، على صعيد الكتابة والرسم المتفاعل والغنى الثقافي، يتجلى الكشف عن تفاعل المكان مع البشر في أزمان الكوارث والثورات والهزائم، كما يتجلى التعاطف الإنساني الغامر مع طالبي الحرية، مشعّاً من قلب النزق والسخرية والغضب، وبخاصة مع النساء اللواتي يعانين ازدواجية معايير المجتمع تجاههنّ، بتسمية من تعرّض منهنّ للسجن والاغتصاب والتحرّش الجنسي الجماعي الذي يكشف ما وصل إليه الواقع من انحدار وهول، كما يكشف ما سيفتحه هذا الهول من مقابر: «فقدتُ تليفوني المحمول في الزحام../ يا لَشقائي من دونه؛/ أجل.. كنت أتودّد به إلى الناس/ محاطاً بالكذب،/ وأحرّك بأصابعي/ أَرقاماً لموتى/ يتهيّأون لمراسم الدفن الجماعية».
أصدر أشرف يوسف خمس مجموعات شعرية قبل هذه المجموعة: «مقهى صغير لأرامل ماركس» 2015، «حصيلتي اليوم قبلةٌ» 2007، «يعمل منادياً للأرواح» 2002، «عبور سحابة بين مدينتين» 1997، و« ليلة 30 فبراير» 1995.
أشرف يوسف:
«وردة التخييل الذاتي»
مدونة بيت النص، القاهرة2021
245 صفحة.
“القدس العربي”