يعيش العالم ثورة حقيقية في التواصل بفضل شبكات التواصل الاجتماعي، من أهم مظاهر شبكة الإنترنت. وتحولت شبكات التواصل الاجتماعي إلى منصة للإبداع وعرض هذا المنتوج الإبداعي، غير أن المثقف العربي ما زال يتعامل باحتشام كبير مع هذه المنصات شأنه شأن الفقهاء عندما اصطدموا بالمطبعة في القرون السابقة.
وعمليا، تعتبر شبكة الإنترنت من أهم الاختراعات في تاريخ البشرية، نظرا للتطور الذي تمنحه في العديد من القطاعات، وهي تتجاوز بكثير المساهمة الرائعة التي أدّتها المطبعة، التي لا يمكن فهم تطور البشرية خلال الخمسة قرون الأخيرة من دون الحديث عن المطبعة. واحتضن ثوار الفكر ضد الكنيسة المطبعة التي شكلت لهم أهم وسيلة لنشر أفكارهم التنويرية في مواجهة الكنيسة والسلطة. وتاريخ المطبعة مليء بما يسمى المطابع السرية، التي كانت بعيدة عن أنظار السلطات، التي حاولت في العديد من المرات السيطرة على عملية الطبع، وأصدرت قرارات تمنع تداول المطبعة إلا بترخيص. ووجد المبدع في المطبعة قديما الوسيلة للوصول إلى القارئ أو المتلقي، وغامر ماديا لنشر كتبه، رغم الكلفة الكبيرة قبل ظهور دور النشر المنظمة، التي استفاد منها مبدعون مشهورون دون آخرين، رغم إبداعهم بقوا في الظل لاعتبارات السوق أو السياسة.
في المقابل، تقدم إنترنت منصات مجانية للمبدع والمفكر، لنشر إنتاجاته الفكرية والفنية والإبداعية، لكنه ما زال يتعامل باحتشام كبير مع منصات التواصل الاجتماعي. في هذا الصدد، عدد من الكتاب ورغم شهرتهم لا يبيعون سوى بضع مئات من كتبهم ورواياتهم، ويعود الفضل في شهرتهم الى الدور الذي تلعبه وسائل الإعلام في التعريف بهم، إذ تعرف الناس على شاعر لأنهم قرأوا له قصيدة في جريدة عربية، وليس بفضل ديوانه الذي يبقى على رف مكتبة يعلوه الغبار، ويتم تداول اسم روائي في العالم العربي، لأن وسائل الإعلام أسهبت في الكتابة عنه، بينما لا تصل رواياته إلى أغلب العالم العربي، بل ربما يبيع العشرات من النسخ فقط. إذ يمكن لشاعر نشر ديوانا شعريا، وفي أحسن الحالات سيبيع العشرات إذا كان مبدعا محليا، وبضعة مئات إذا كان مبدعا يتميز بحضور على المستوى الوطني، وبضعة آلاف في حالة المبدع الذي يتجاوز الحدود مثل حالة أدونيس، أو نزار قباني أو محمود درويش. ويتكرر الأمر نفسه مع مفكرين وروائيين.
ولا يستفيد المبدع العربي من العائد المادي على مجهوده، إلا إذا كان مقربا من السلطة، ويعني التزلف للسلطة، فيتوج بجائزة ذات طابع سياسي أكثر منها إبداعيا، وما أكثر هذه الجوائز في السنوات الأخيرة، وتنهال عليه الدعوات إلى المهرجانات. وفي حالة تقييم مدى تأثير إبداع هذا المبدع على المتلقي العربي ستكون النتيجة تقريبا صفرا، لأن المنتوج الإبداعي، سواء للمثقف المقرب من السلطة، أو المعارض لها لا يصل الى الجمهور الواسع. وأستحضر موقفا مشرفا للقاص المغربي أحمد بوزفور برفضه سنة 2004 جائزة وزارة الثقافة وتذرع بأنه تم طبع ألف نسخة من كتابة وتم توزيع وليس بيع فقط 500 نسخة في بلد مثل المغرب فيه 30 مليون نسمة وقتها.
يعود ابتعاد المثقف العربي عن منصات التواصل إلى ضعفه في التعاطي مع التطور التكنولوجي الحاصل في وسائل الاتصال، وغياب روح المبادرة
وهذه الظاهرة غير مقتصرة على العالم العربي، بل توجد وإن كان بمستويات مختلفة في باقي الثقافات. وعمد عدد من المبدعين الذين يرغبون في إيصال إبداعهم في مختلف الحقول مثل، الشعر والرواية والتاريخ والفكر إلى منصات التواصل الاجتماعي، وأساسا إنشاء قناة يوتيوب أو البودكاست «التدوين الصوتي». ويقوم مثقفون غيورون على الثقافة والراغبين في نشرها إلى قراءة كتب مبدعين آخرين وتسجيلها صوتا وصورة في منصة اليوتيوب، أو صوتا في البودكاست. وكم هي غنية شبكة الإنترنت بمئات الآلاف من الكتب والروايات والمحاضرات بمختلف اللغات، خاصة الغربية منها والفقيرة عربيا. من جانب آخر، يقوم مبدعون ومفكرون بتسجيل إبداعاتهم الشخصية بصوتهم في اليوتيوب والبوكاست ويقدمونها للقارئ أو المتلقي عموما. ويعترف بعض المبدعين أنهم اشتهروا بفضل اليوتيوب، بل بدأوا يتحصلون أموالا من هذا الإبداع، ولم يعودوا رهينة دار النشر، بل أصبحت دار النشر تتهافت عليهم.
وما زال المثقف العربي قاصرا في فهم أعمق للدور الرائد والخطير لمنصات التواصل الاجتماعي في التواصل مع المتلقي من جهة، ونشر الوعي والذوق الفني في مجتمعه من جهة أخرى. ويتذرع البعض بأن اليوتيوب هو منصة لتحقيق الربح بطريقة شعبوية، ويتناسون أنهم يتعاملون مع مجتمع يستقبل ويستهلك خطابات وإنتاجات شتى. ومن ضمن الأمثلة، تعد مجلة «التايم» أشهر مجلة في الولايات المتحدة، وبصمت تاريخ البلاد سياسيا وثقافيا، لكنها كانت أقل مبيعا وانتشارا من مجلة «بلايبوي» الجنسية، فهل غطت «بلايبوي» على «التايم» أو «نيوزويك»؟ الجواب بالنفي «لا» بأحرف كبيرة. وفي الولايات المتحدة، يتمتع مثقفون بحضور قوي في اليوتيوب، لكنهم لا يصلون الى مستوى الانتشار الشعبي لبعض رجال الدين، الذين يروجون لخرافات مثل عودة المسيح، وحرب أرمجدون، فهل تذرع المثقفون الأمريكيون بهذا لتفادي اليوتيوب، نظرا لوجود شعبويين. المثقف الغربي يدرك أن الطبقة المثقفة التي تستهلك الإنتاج الثقافي الراقي لا تتجاوز 10% في أحسن الأحوال، يحصل هذا في دول شهدت النهضة الأوروبية وتتمتع بأعلى نسبة من الشواهد الجامعية، فكيف سيكون الأمر في الدول العربية التي نخرتها الأمية تاريخيا وسيطر عليها الفكر الخرافي وبقيت منذ قرون على هامش دينامية المطبعة. إذا تخلف المثقف العربي عن منصات التواصل الاجتماعي، سيكون دوره مثل الفقهاء الذين أحجموا عن المطبعة منذ قرون، وسيكون من أكبر الداعمين لسيادة الخرافة في المجتمعات العربية. يعود ابتعاد المثقف العربي عن منصات التواصل الى ضعفه في التعاطي مع التطور التكنولوجي الحاصل في وسائل الاتصال، ثم تخوفه من هذه المنصات بسبب غياب روح المبادرة.
هناك نخبة صغيرة من المثقفين العرب وعت أهمية الإنترنت ودور منصات التواصل الاجتماعي، وبدأت تساهم في الدينامية الثقافية لهذه الشبكة، يقول مبدع عربي لكاتب هذا المقال «نشرت مجموعة قصصية وبعت منها 67 نسخة وأهديت أغلبها، ومن دون شك من توصل بالهدية وضع الكتاب في صندوق، أو على رف من دون قراءته، لما قرأت مجموعتي القصصية، تفاجأت أن عدد القراء تجاوز 80 ألف في ظرف ثلاث سنوات، لم أحقق أرباحا كبيرة بل بسيطة، لكنني استعدت جزءا من المال الذي دفعته الى دار النشر للمساهمة في نشر مئتي نسخة فقط».
*كاتب مغربي
«القدس العربي»