لقد أحدثت العولمة -ببساطة، عملية تحقيق فكرة “عالم بلا حدود”- تغييرات كبيرة على الصعيد الدولي، ودفعت الترابط الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي إلى أعلى المستويات. ومع ذلك، في عالم تسوده العولمة، تنحو الحروب إلى الانتشار ويصعب إنهاءها.
لقد أدّى تحرير السوق وتقنيات الاتصال الجديدة والحركة السريعة لرأس المال إلى تسهيل حصول الجهات الفاعلة غير الحكومية على السلطة والأرباح عندما يكون هناك تراجع في سلطة الدولة.
ومع الربيع العربي، لم تستطع العديد من الدول العربية الاستبدادية الحفاظ على سلطتها وشهدت ثورات عديدة. وقد سمح انعدام السيطرة هذا لجماعات المصالح غير الحكومية مثل أمراء الحرب الإقليميين أو الشركات الخاصة بالاستفادة من الحرب. بالإضافة إلى ذلك، تسبب الترابط الكبير بين الجهات الحكومية وغير الحكومية في انخراط الأطراف الأخرى في النزاعات.
لم تعد الحرب دون مشاركة جهات فاعلة حكومية وغير حكومية أخرى ممكنة في الشرق الأوسط، وهذه السمات ليست كلها محلية. بعبارة أدق: أصبحت الحرب بدون مشاركة فاعلين دوليين مستحيلة في المنطقة.
يجب فحص مصطلح “الحروب الجديدة” بشكل كامل لفهم إلى أي مدى تختلف حروب الشرق الأوسط المعاصرة عن “الحروب القديمة”.
لقد صاغت الأكاديمية البريطانية ماري كالدور مصطلح “حروب جديدة” لشرح السمات المتغيرة للصراعات في أواخر القرن العشرين والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وفقاً لنظريتها، فإن الحروب الأخيرة هي نتيجة العولمة.
وقد حددت أربعة اختلافات رئيسية بين الحروب القديمة والجديدة وهي الجهات الفاعلة والأهداف والأساليب والتمويل. فاعلين جدد في الحروب
أولاً، تغيّرت الأطراف المشاركة في الحروب بشكل كبير بمرور الوقت وقد خاضت الجيوش التقليدية للدول حروباً كلاسيكية بين دول مختلفة. بينما في الحروب الجديدة، فهناك العديد من اللاعبين الجدد حيث لا تكفي المبادئ الثلاثة الشهيرة للحرب التي وضعها المُنظِّر البروسي الجنرال كارل فون كلاوزفيتز -الحكومة والجيش والشعب -لشرح الخصائص المعقدة لحروب اليوم.
تدور الحروب الجديدة بين مختلف الجهات الحكومية وغير الحكومية، فالقوات المُسلّحة للدول، والمتعاقدون الأمنيون الخاصّون، والمرتزقة، والجماعات الأيديولوجية أو الدينية، والقوات شبه العسكرية، وغيرهم، كُلّها أطراف فاعلة في الحروب الجديدة.
يمكن رؤية كل هؤلاء اللاعبين في الحرب السورية، على سبيل المثال. ففي هذا الصراع، هناك جهات فاعلة حكومية متورطة مثل الولايات المتحدة وروسيا وتركيا وإيران والعراق، والجهات الفاعلة غير الحكومية مثل “داعش”، وحزب العمال الكردستاني / وحدات حماية الشعب، وحزب الله، والجماعات شبه العسكرية، والمتعاقدين الخاصين من دول أخرى، وجماعات المرتزقة. إن تركيبة المتحاربين في الحرب الأهلية اليمنية والليبية متشابهة أيضاً، حيث تضم العديد من الجهات الحكومية وغير الحكومية.
الأيديولوجيات في طور الاضمحلال
الاختلاف الكبير الثاني بين الحروب القديمة والجديدة هو في أهدافها. فلقد كان الدافع وراء الحروب القديمة هو السيطرة على الأراضي لتحقيق المصالح الجيوسياسية أو لنشر أيديولوجيات مثل الاشتراكية أو الرأسمالية (تقول كالدور”الاشتراكية أو الديمقراطية”، ولكن تعريف الديمقراطية كإيديولوجيا مثير للجدل لأن الديمقراطية هي شكل الحكومة التي يمكن أن تظهر نفسها في أيديولوجيات مختلفة).
بحلول نهاية الحرب الباردة، انهار النظام العالمي ثنائي القطب وأصبحت المؤسسات الليبرالية تدير النظام العالمي الجديد إلى الآن، وقد وضع هذا التطور حدّاً لحروب الأفكار حيث لا يوجد سوى منتصر واحد. إن نشر الإيديولوجيات ليس الهدف الأساسي للعديد من نزاعات ما بعد الحرب الباردة.
إن الحروب احتاجت إلى هدف جديد، فكان لابد لمبدأ الهوية من البروز للمساعدة ليكون هدفاً للحروب. وقد بدأ الربيع العربي بدعوات مؤيدة للديمقراطية، ومع ذلك، كانت المطالبة بالديمقراطية سبباً ضعيفاً لاستمرار التعبئة السياسية. في النهاية، تغيرت خصائص ثورات الربيع العربي وأصبحت أكثر تركيزاً على الهوية.
كانت قضية الهوية بارزة أيضاً في الحروب القديمة، تماماً مثل الجديدة، وتتجمع الأطراف المتحاربة في الحروب الجديدة حول الهويات، وباتباع نهج الحروب الجديدة، أصبح حشد الجماهير من خلال الهوية هدفاً للصراعات المعاصرة وليس أداة.
ومع ذلك، لا تزال الهوية أداة وليست غاية. وفي حين أنها تختلف باختلاف الأطراف المتحاربة، فلا يمكن تبسيط الهدف الرئيسي للحروب للهويات، ويتم تحديد أهداف الحروب من خلال التفاعل بين الهويات والأيديولوجيات والمتغيرات الاقتصادية والتوقعات الجيوسياسية.
إن الأهداف الأيديولوجية للحرب لم تعد شائعة لكن الهوية لا تزال أداة فعّالة للحصول على القوة الاقتصادية والسياسية، وفي الحروب الجديدة، تُعتبر سياسات الهوية هي أفضل طريقة لتحقيق التعبئة السياسية في عالم اليوم.
ففي الحرب الأهلية اليمنية، تمّت تعبئة الجماعات حول هوياتها الدينية. كما أن هناك مجموعات يتم حشدها حول هويات عرقية أو دينية في سورية وتطور تبرير الأطراف وأصبح أكثر تركيزاً على الهوية بدلاً من التركيز على الفكرة، لكن أهداف المتحاربين ظلّت كما هي.
ومع ذلك، فإن الحروب التي تركّز على الهوية ليست فريدة من نوعها في حقبة ما بعد الحرب الباردة. ولا يوجد فرق كبير بين الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990) والحرب الأهلية السورية أو اليمنية في سياق الهويات. أيضاً، كان هناك العديد من الثورات القائمة على الهوية في حقبة ما بعد الاستعمار في الشرق الأوسط.
وفي هذا الاتجاه، “الحروب الجديدة” ليست جديدة على الشرق الأوسط.
طرق وأشكال التمويل
انخفضت الفوائد الاقتصادية للمكاسب الإقليمية مع التحسينات التكنولوجية والعولمة. فلا تزال السيطرة على المناطق ذات الأهمية الجيوسياسية مهمة؛ ومع ذلك، فقد تغيّرت طريقة الاستيلاء على الأراضي والسيطرة عليها.
إن تهجير السكان عن طريق الإبعاد القسري لأشخاص من هويات معينة أسهل بكثير وأقل تكلفة من ضمان السيطرة على الأراضي من خلال الوسائل العسكرية. ففي حروب الشرق الأوسط الجديدة، يمكن أن يؤدي نزوح السكان إلى زعزعة ميزان القوى. ووفقاً للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، فإن ما يقرب من 6.7 مليون سوري هم لاجئون أو طالبو لجوء، و6.6 مليون نازحون داخلياً. وبشكل عام، تم تهجير 13.4 مليون سوري قسراً، وهو ما يمثل أكثر من نصف سكان البلاد.
كذلك تغيّرت طرق تمويل الحروب فقد اعتادت الدول أن تكون الممول الرئيسي للصراعات، وذلك باستخدام الضرائب أو الرعاة الخارجيين لتمويل الحروب القديمة. ومع إشراك الجهات الفاعلة الإقليمية والعالمية من غير الدول، تصبح اقتصادات الحروب الجديدة مكوناً لاقتصاد دولي لامركزي.
ويلعب التهريب والاتجار بالمخدرات والاتجار بالبشر دوراً مهماً في حروب الشرق الأوسط الجديدة. بالإضافة إلى ذلك، يتطلب هذا الاقتصاد غير القانوني استمرار الحرب، مما يجعل الحروب الجديدة من المرجح أن تفكك الدولة بدلاً من المساعدة في بناء الدولة.
وبالنظر إلى الجهات الفاعلة والأهداف والتقنيات وأساليب التمويل، فليس من الصعب التفريق بين الحروب السورية واليمنية والليبية والحروب القديمة. ويمكن الإشارة إليها على أنها حروب جديدة، مع الأخذ في الاعتبار الحروب قبل الخمسينيات.
خلال الحرب الباردة، تعايشت الحروب القديمة والجديدة فمن الممكن إيجاد سمات مشتركة بين صراعات اليوم في الشرق الأوسط والصراعات في فترة الحرب الباردة.
يوجد اليوم في العالم “حروب جديدة” أكثر من “حروب قديمة” ومن المرجح أن تفشل الاستراتيجيات التي عفا عليها الزمن والتي تعتبر الحروب المعاصرة في الشرق الأوسط على أنها “حروب قديمة”. ويلعب فهم تأثيرات العولمة على هذه الحروب دوراً رئيسياً في بناء سياسات أفضل ومساعدتها على الانتهاء.
“نداء بوست”