تعج الفنون والآداب باستخدام الرموز، للتعبير عن أفكار ومعان عميقة بأسلوب مستتر؛ بغرض إما تلافي الشبهات أو العقاب، أو لتعميق معنى العمل الأدبي أو الفني وإعطائه أبعادا متعددة، تختلف حسب وجهة نظر المتلقِّي وثقافته.
وبما أن الشعر من أول نماذج الفنون في الحضارة العربية القديمة، صار استخدام الرمز حرفة يفخر بها فحول الشعراء؛ كدليل القدرة على تطويع اللفظ والمعنى. ومع تنامي الفتوحات الإسلامية وفتح الأمصار المختلفة، انطلق الأدب العربي في أفق رائدة، جعلته يتفوق حتى على الأمم التي نهل من علومها.
ومن أفضل الحكايات الرمزية التي ظهرت في الحضارة العربية، والتي أصبحت علامة بارزة في الأدب العالمي، منذ العصور الغابرة وحتى وقتنا الحالي، هي كتاب «كليلة ودمنة». ويعد هذا الكتاب إحدى الدرر الخالدة، التي تعكس فكرا راجحا، سواء في المضمون أو في تقنيات السرد. من الصادم معرفة أن هذا الكتاب الموجَّه للأطفال، ويستمتع بحكاياته الكبار، هو عمل أدبي سياسي، يبين أسس العدل، ويعرض منهاجا أخلاقيا راقيا، يجب أن يتبعه الحاكم مع رعيته؛ لتحقيق الأمان والرخاء.
كتاب «كليلة ودمنة» هو أحد روائع النابغة عبد الله بن المقفَّع، الذي أخرجه للعالم العربي خلال أولى حقب العصر العباسي، والتي تسمى بالعصر العباسي الذهبي؛ نظرا لازدهار حركة العلوم والفنون. ترجم ابن المقفَّع هذا الكتاب من أصله الفارسي، وأبدع في ترجمته؛ حيث أعاد صياغة الحكايات بأسلوب أدبي شيِّق ورائع. وكثيرا ما يُشاع أن عبد الله بن المقفَّع ذاته هو من قام بتأليف هذا الكتاب السياسي المغزى، لكنه أراد أن ينفي ذلك عنه، بإحالته لأصل أجنبي حتى يفلت من بطش الخليفة أبي جعفر المنصور الذي ضاق به لنقده إيّاه. ويعود ظهور هذا الكتاب إلى عام 200 قبل الميلاد في الهند، حيث ظهر باللغة السنسكريتية تحت اسم «بانتشاتانترا» Panchatantra، وتعني «خمس رسائل». وكما ورد في مقدمة الكتاب، تم التأليف من قبل الحكيم الهندي «بَيْدَبا» الذي أهداه للملك «دَبشليم». وسبب التأليف يرجع لحقبة ما بعد غزو الإسكندر الأكبر للهند. فقد ولّى عليها حاكما من جيشه، لكن لم يتقبَّله أهل الهند. ومن ثمَّ، قام بتعيين حاكم هندي يدعى «دَبشليم»، الذي كان في مستهل فترة حكمه عادلا، لكنه في ما بعد تحوَّل إلى طاغية. وعلى إثر ذلك، توجَّه له أكبر حكماء الهند، الحكيم «بَيْدَبا» ليوضح له ما ألمّ به من بطش، ويسأله أن يؤوب لسابق عدله، إلا أن الملك غضب منه وأودعه السجن.
وبعد أن تَفَكَّر الملك في ما أفضى به الحكيم، أخرجه من السجن وطلب منه أن يعيد على سمعه ما حدَّثَه به سابقًا. وبعد اقتناعه، طلب من الحكيم تأليف كتاب؛ ليكون نبراسا في العدل. فطلب منه الحكيم أن يمهله حولا كاملا. وبعد انقضاء العام، رجع للملك الحكيم «بَيْدَبا» بكتاب يفهمه العامة والخاصة، ويستظل بحكمته حتى الأطفال. ويحكى أن الملك بسبب الحِكم الواردة في الكتاب آب للعدل، وعمَّ المملكة الرخاء بعد أن أمر الملك نشر حكايات الكتاب على العامة وتعليمهم حكمتها. وقيل إن الملك اعتبر الكتاب ثروة قومية، فأخفاه في خزائنه. لكن آن شيروان، كسرى بلاد الفرس أرسل أحدهم للهند للحصول عليه. فذهب طبيب عالم بالسنسكريتية، واختلط بالعامة، وعلِم الحكايات، ثم ترجمها إلى الفارسية الفهلوية. وأصل الكتاب – سواء السنسكريتي أو الفهلوي مفقود منذ القدم – وعلى هذا لجأت شعوب العالم إلى الترجمة العربية المعدَّلة التي ظهرت على يد ابن المقفَّع، بل تم اعتمادها كأصل موثوق فيه.
يعج الأدب العربي في عصوره الذهبية بنماذج مشرقة، نهل منها العالم أجمع، فقد تأثَّر به العالم نظرا لاستحسانهم حرفيته. فلا عيب أو ضير في التأثَّر بتجارب الآخرين. لكن، كلَّ العيب هو حصر الذات الإبداعية في التقليد، دون ضخ دماء التجديد في المحتوى الأدبي والعلمي.
وكتاب «كليلة ودمنة» هو مجموعة من القصص المتعاقبة المتداخلة مع بعضها بعضا، تُروى على لسان الحيوانات، وتحكي عما يدور من صراعات ومفاسد وفتن في مملكة الحيوان، للترهيب من عواقبها الوخيمة. والقائم على رواية القصص هو «كليلة» الحكيمة حصيفة البيان و»دمنة» سيئة الحظ التي تحيط بها المُشكلات، وكلاهما من فصيلة «بنات آوَى»، وهي حيوانات من عائلة الكلبيات، تشبه الثعلب، لكنها ذات ساق طويلة، بالإضافة إلى شخصية الأسد الذي يلعب دور الملك، وخادمه (أو بالأحرى وزيره) الثور «شِترِيه».
ويقع الكتاب في خمسة عشر بابا، شاملة بابا أضافه ابن المقفَّع ذاته للحكايات الرئيسية وسماه «الفحص عن أمر دمنة»، بالإضافة إلى أبواب أربعة أخرى أضافها، ولم تكن في النسخة الفارسية. وتقنية السرد في «كليلة ودمنة» هي في حد ذاتها ثورية؛ حيث إنها تقع في قصة إطارية تضمَّ في داخلها العديد من القصص المُضمَّنة. وبوادر السرد الإطاري مستهلها في مقدمة الكتاب؛ حينما تروي شخصية «حسن بن الشاه» قصة غزو الإسكندر الأكبر الهند، ثم تعيين «دَبشليم». وفي ما بعد، تظهر القصة الإطارية في ثلاثة مستويات تتمثل في خطاب الملك «دَبشليم»، وخطاب الفيلسوف «بَيْدَبا»، والتماثل المتكافئ، حينما يتحدث «دَبشليم» مع «بَيْدَبا»، وتلي ذلك رواية حكايات الكتاب بتكنيك القصص المُضمَّنة؛ حيث يضمّ الكتاب 14 حكاية مُضمَّنة كبرى تتفرع منها 32 حكاية مُضمَّنة صغرى، بالإضافة إلى حكايات جزئية متفرِّعة عن الصغرى، وأخيرا حكاية فرعية متناسلة من الحكاية الجزئية الصغرى. مع ملاحظة أن الحكاية المضمَّنة لا تلغي دور الحكاية الإطار، والعكس صحيح؛ لأن كلاهما يُكْمِل دور الآخر، وإلا فُقِد المغزى السياسي الإصلاحي الذي صيغت من أجله تلك الحكايات.
ويقِّر الغرب بتأثُّرهم بالرمزية العربية المتمثلة في «كليلة ودمنة»، الذي صار علامة في الأدب العالميّ. وفي العصر الحديث، ظهرت روايات عالمية، تنبثق من الفكر السياسي التقدُّمي الواضح في حكايات «كليلة ودمنة». ومن أشهر الأعمال العالمية السياسية الحديثة المرتكزة على الرمزية، التي تجعل العمل يبدو وكأنه قصص موجهة للأطفال، ولكنه في حقيقة الأمر عمل ينتقد النظام السياسي في البلاد ـ رواية «مغامرات أليس في بلاد العجائب» Alice’s Adventures in Wonderland (1865) للكاتب الإنكليزي لويس كارول، التي ينتقد فيها حكم الملكة فكتوريا، بطريقة غير مباشرة تجنبه الإطاحة به. أما رواية «مزرعة الحيوانات» The Animal Farm (1945) للكاتب الإنكليزي جورج أورويل، فهي تنقد بقسوة النظام الشيوعي في روسيا، من خلال قصة تتمحور حول حيوانات في مزرعة.
يعج الأدب العربي في عصوره الذهبية بنماذج مشرقة، نهل منها العالم أجمع، فقد تأثَّر به العالم نظرا لاستحسانهم حرفيته. فلا عيب أو ضير في التأثَّر بتجارب الآخرين. لكن، كلَّ العيب هو حصر الذات الإبداعية في التقليد، دون ضخ دماء التجديد في المحتوى الأدبي والعلمي.
كاتبة مصرية
“القدس العربي”