وصفت أنجيلا ميركل ذات مرة فلاديمير بوتين بأنه زعيم يستخدم أساليب القرن التاسع عشر في القرن الحادي والعشرين. ما قصدته المستشارة الألمانية السابقة هو أن زعيم روسيا رجل حرب وقومية في عصر يُفترَض أن تُحدّده القوانين والعَوْلَمة.
كان حديث ميركل هذا بعد أن ضمّت روسيا شِبه جزيرة القرم في عام 2014. والآن تُحذّر الحكومتان الأمريكية والبريطانية من أن بوتين مُستعدّ لشنّ “أكبر حرب في أوروبا منذ عام 1945” من خلال شنّ غزو أوسع بكثير لأوكرانيا، بما في ذلك هجوم مباشر على عاصمتها، “كييف”.
وقد اجتمع الكثير من النُّخَب السياسية والأمنية الغربية في ألمانيا في نهاية هذا الأسبوع لحضور مؤتمر ميونيخ للأمن. فإلى جانب التوتر والأجواء المشحونة، كان التشكيك هو أحد المشاعر السائدة التي ظهرت على المُجتمعين.
لا يزال العديد من الدبلوماسيين والسياسيين، ومعظمهم من الأوروبيين، يرفضون تصديق الإيجازات المستندة إلى المعلومات الاستخباراتية المتدفقة من الأنجلوسفير (وهي مجموعة من الدول الناطقة باللغة الإنجليزية والمتشابهة التراث الثقافي، انطلاقاً من وجود شعوب تعود أصولها إلى دول الجزر البريطانية: إنجلترا وويلز وأسكتلندا وأيرلندا). كان رأي المتشككين على نطاق واسع أن القتال سيبقى محصوراً في شرق أوكرانيا. وهم يتكهّنون بأن هدف بوتين هو بناء ضغوط سياسية واقتصادية ونفسية إلى النقطة التي تنهار فيها الحكومة الأوكرانية أو أن يقدّم الغرب تنازلات دبلوماسية ضخمة.
هناك نوع مختلف من حالة التشكيك بين أولئك الذين هم على قناعة بأن بوتين على وشك أن “يتقدّم” ويشنّ غزواً دموياً واسع النطاق يهدف إلى الإطاحة بالحكومة الأوكرانية. حيث يقول أحد كبار صانعي السياسات إنه في خضمّ محادثة مع نظيره الأمريكي حول الحرب الوشيكة: “توقفنا مؤقتاً وقلنا: “لا أستطيع أن أُصدّق أننا نُجري هذه المحادثة”.
تتضمّن هذه المحادثات بالفعل سيناريوهات مُحيرة للعقل ومُزعجة في ذات الوقت. ويعتقد المسؤولون الغربيون أنه إذا هاجم الجيش الروسي كييف أو حاصرها، فمن المُرجَّح أن يستخدموا التكتيكات الوحشية التي استخدمها بوتين في الشيشان وسورية. وهذا يعني نشراً مُكثَّفاً للمدفعية والقوّة الجوّية – وإمكانية مقتل أكثر من 50 ألفاً من العسكريين والمدنيين في غضون أسبوع. وهنا لا بد من أن نسأل: كيف وصلنا إلى هنا؟
هناك إجابات قصيرة وطويلة المدى لهذا السؤال. فعلى المدى القصير، كان البيت الأبيض مُقتنِعاً بأن الحرب كانت مُحتملة منذ ما قبل عيد الميلاد. ومنذ ذلك الحين، تم توجيه جهود إدارة بايدن نحو محاولة تحويل مسار بوتين من خلال توضيح أنه سيدفع ثمناً اقتصادياً ودبلوماسياً باهظاً للحرب. كان الأمريكيون دائماً متشائمين بشأن فرصهم في النجاح، لكنهم عازمون على تجربتها.
وتعتقد حكومتا الولايات المتحدة والمملكة المتحدة أن قرار الهجوم تم اتخاذه الأسبوع الماضي فلقد أخذوا في الاعتبار احتمال أن الروس يتعمّدون ترك أثر استخباراتي كاذب، كجزء من حملة بهدف إحداث ضغط نفسي. ولكن الحجم الهائل من الاستعدادات التي يرونها ويسمعونها أقنعهم بخلاف ذلك. فيجب نشر قرار خوض الحرب عَبْر النظام الروسي وهو أمر لا يمكن إخفاؤه. وقد تم رصد ثرثرة يشوبها التوتر بين عناصر القوات الروسية الذين يعتقدون أنهم يخوضون معركة.
هذا الاعتقاد بأن الحرب وشيكة تعززه الأحداث الجارية: تصاعُد القتال في شرق أوكرانيا؛ وزيادة الهجمات الإلكترونية؛ والإعلان عن بقاء القوات الروسية في بيلاروسيا؛ والأخبار التي تُفيد بأن روسيا تُجري تدريبات على الأسلحة النووية تهدف إلى ترهيب خصومها. وكما أخبرني أحد كبار المسؤولين الأوروبيين: بأن “الأمر أشبه برؤية سيناريو فيلم يتم تمثيله بكل التفاصيل”. إن الجهود تتواصل لمنع الحرب ولكن الأمريكيين يعتقدون أنهم يعملون الآن على محاولة إقناع بوتين بالتراجع عن قرار تم اتخاذه مُسبقاً.
يعود السؤال الأطول أَجَلاً حول كيفية وصولنا إلى الوضع الحالي إذا ما راجعنا أحداث مؤتمر ميونيخ لعام 2007. فهناك ألقى بوتين خطاباً غاضباً استنكر فيه نظام ما بعد الحرب الباردة واستخدام القوة الأمريكية في العراق وحول العالم.
في العام التالي، خاضت روسيا الحرب في جورجيا المجاورة. ففي عام 2014، وقع أول هجوم على أوكرانيا وقامت بضمّ شِبه جزيرة القرم. وقد هدّد القادة الغربيون روسيا بما وصفته ميركل بـ “الضرر الجسيم اقتصادياً وسياسياً”. لكن روسيا تجاوزت العقوبات وبحلول عام 2018 كانت تستضيف كأس العالم بنجاح، والتي انتهت باستضافة بوتين لرئيس دولتين من دول الاتحاد الأوروبي، فرنسا وكرواتيا، في قمرة كبار الشخصيات في الملعب.
وإذا كان بوتين الآن على استعداد لتجاهُل التهديدات بالعقوبات الغربية، فقد يكون السبب هو أنه سمع كل ذلك من قبل. ومع ذلك، فإن هجوماً واسع النطاق على أوكرانيا سيُمثِّل تصعيداً هائلاً في استعداده لاستخدام القوة وقبول المواجهة مع الغرب.
وبعد أكثر من 20 عاماً في السلطة، عن عمر يناهز 69 عاماً، قد يكون بوتين الآن يُجري عَقْد صفقات قديمة. فلقد أعرب عن رغبته العميقة في “إعادة توحيد” روسكي مير، أو العالم الروسي، الذي يرى أنه منقسم الآن. حيث إن إعادة أوكرانيا إلى مدار موسكو يمكن أن يُنظَر إليها على أنها استكمال لمهمة تاريخية.
فإذا كان يفكر بالفعل مثل شخصية من القرن التاسع عشر، فسوف يعتقد بوتين أن إراقة الدماء الهائلة مُبرَّرة لتوحيد الأمة. فبعد كل شيء، كان جيش أبراهام لنكولن قد أحرق أتلانتا عام 1864 للحفاظ على الوحدة الأمريكية. وخاض أوتو فون بسمارك ثلاث حروب لتوحيد ألمانيا – ولا يزال شخصه مَحطّاً للإعجاب لدى الحديث عن سيرته الذاتية.
ولكن مع ذلك، يعتقد العديد من المحللين، بمن فيهم الليبراليون الروس، أن بوتين مخدوع بشكل خطير إذا كان يعتقد أن هذه الأنواع من الحروب لا تزال ممكنة في أوروبا. فاليوم سيتم تسجيل كل فظاعة يتم ارتكابها من قِبل القوات الروسية بواسطة الهاتف الذكي لشخص ما، وسيتم بثها في جميع أنحاء العالم. فالشباب في روسيا يتمتعون بنفس القدر من الحريات التكنولوجية والاجتماعية التي يتمتع بها أقرانهم في أوروبا الغربية. فهل سيتقبلون حقّاً المخاطر والحرمان والازدراء الأخلاقي الذي يمكن أن يقوم به بوتين؟
هل يمكنه باختصار الاستمرار في استخدام أساليب القرن التاسع عشر في القرن الحادي والعشرين؟ قد نكون على وَشْك معرفة ذلك.
“نداء بوست”