يشكل العنوان مقلبا للقارئ ـ كما حصل لي- إن لم ينتبه للغلاف فـ«رواية الفصول الأربعة» عنوان لمجموعة قصصية للأردني باسم الزعبي، تضمنت إحدى وثلاثين قصة، مثقلة بالهموم والمشكلات والآلام والأحلام الفردية والجمعية، تغلب عليها الانكسارات والخيبات والهزائم؛ فقد تناولت أحلام الفرد في حياة كريمة وأحلام بسيطة، مرورا بمشكلاته الكثيرة مثل، بيع الأرض رغبة في تحقيق طموحات ومستوى أفضل، انتهت بالخيبة والخسارة وفقدان كل شيء، وركزت كثيرا على أحداث الربيع العربي، ومشكلات الشعوب العربية في العراق وسوريا ومصر وتونس وليبيا وفلسطين والأردن. وتتناول هذه المقالة الممارسات الحزبية والأحزاب، من خلال بعض قصص المجموعة.
تقاسيم المدن المتعبة
نرى في هذه القصة نموذجا للواقع العربي البائس الفاسد، من خلال طابور بانتظار الحافلة، حيث تحدث التجاوزات، وتطلق الشعارات الطنانة والأحاديث المنمقة لغايات الكسب واستغلال الجمهور، والتعدي على حقوق الآخرين، والصعود للأقوى. ويبرز في هذه القصة الدور السلبي للشاب الحزبي، الذي يكتفي بدور المتفرج المستسلم لما يحدث، دون أن يحتج أو يحرك ساكنا، تتجاوزه الحافلات الواحدة تلو الأخرى وهو في مكانه، وعندما حل المساء وتوقفت حركة الحافلات افترش جريدته الحزبية وأخبار الأمين العام «وقد غالب النعاس عينيه، وراح بنتظر الرحيل، مثل بقية الراحلين في الطابور الذي لا ينتهي».
تشير القصة إلى هامشية دور الأحزاب، وعجزها في الحياة العامة، وأنها مجرد ديكور لستر عورة الأنظمة، بل إن دورها سلبي، فالشاب الحزبي اكتفى بالارتباك والانكماش من باب الاحتجاج، وتكرم على عجوز بورقة من جريدته الحزبية لتتقي بها وهج الشمس، لكنها كانت صغيرة، فاتخذتها مهفا جلبا للهواء. وهذا الموقف من الشاب كان يجب أن يكون قويا وفاعلا، أو على الأقل أن يكون له صوت مرتفع، لو كانت الأحزاب قوية ومؤثرة. هل هو ذنب الأحزاب، أم ذنب الأنظمة التي استنوقتها وحولتها إلى دكاكين وبسطات لا وزن لها؟
الطريق إلى مروة
العمل الحزبي لا بد له من ضريبة، في البلدان التي لا تؤمن بالأحزاب، وتضع شرعيتها على جرف هار، كلما عنَّ لها ذلك، وفي القصة يعود الشاب الحزبي إلى الوطن بعد هروب خمس سنوات، بسبب الفصل من العمل، والملاحقة، وأزمة الحزب، وعداء الجميع، يعود بعد أن خسر كل شيء، وكله أمل أن يلتقي فتاة أحلامه وأخت رفيقه الحزبي المسجون، ويقع عليه نبأ خطبتها، أثناء جلوسه معها كصفعة، يغادرها وقد تبددت أحلامه وتراكمت خساراته، يغذ السير خارج المدينة لا يلوي على شيء. ضرائب العمل الحزبي حظوظ؛ فالبعض تلاحقه النكسات والمضايقات طوال عمره، وإن ترك العمل الحزبي وتبرأ منه، والبعض يكسب ويرتفع وتعلو أسهمه وتفتح له الأبواب المغلقة؛ هل هي حظوظ فعلا؟ أم تنازلات وخيانات؟ أم أنها لعبة منذ البداية؟!
رواية الفصول الأربعة
ثلاثون صيفا وهو يؤجل كتابة روايته العتيدة، وعندما عزم أخيرا أن يكتبها، عاندته الظروف، فأجلها من فصل إلى فصل، وفي كل فصل يقنع نفسه بمبررات التأجيل الواهنة، التي لا تدل إلا على عجز وقلة حيلة. والملاحظ أنه كان يحتار في بطل روايته، فتاره يجعله مستقلا دون أحزاب، وتاره يفكر أن يجعله مناضلا قوميا أو يساريا، وأخرى يعزم أن يجعله جليس بيته يقرقش البوشار مع زوجته بعد «عشرين عاما في السجون والمظاهرات والاجتماعات والقراءة والكتابة، وإلى جانبه التلفون يرفعه عند الحاجة ويتصل بإحدى المحطات، ويبدي رأيا، ويظل حماسه متقدا». وفي النهاية يمل من الرواية والبطولات المتخيلة، ويقرر أن يشتري ستلايت ليتابع برنامج «سوبر ستار» ويكتب مقالة عن ديانا كرزون، ويعود لقرقشة البوشار والتهام الأفلام الأمريكية.
أصبح العمل الحزبي الحقيقي والنضال الفعلي المشرف، مجرد تاريخ استقال منه الجميع، وربما تبرأوا منه، والبعض اتخذه مطية للتفاخر والتكسب وتحقيق المصالح على حساب الآخرين، باعتباره مناضلا صنع التاريخ، ورضي بالركون والجلوس لمتابعة الغثاء، والإدلاء بآراء باهتة كلما وجد فرصة متاحة، ليوهم نفسه أن يتابع النضال من فوق أريكته الوثيرة. معظم الحزبيين والمناضلين السابقين أصبحوا عالة على الواقع، وعائقا أمام الشباب، وجدارا في وجه الوعي الحقيقي والحقيقة المغيبة، أداة في يد الأنظمة، يحاربون كل فكر نير، وتغيير جذري، ويحاولون جهدهم ردم الطرق المؤدية إلى مستقبل مشرق وخروج من النفق المظلم.
المنزل المطل على عدون
كان بيتها الفقير عفن الجدران المطل على عدون، ملتقى للرفاق الحزبيين، ومحطة للاستراحة ريثما يجدون غيره، وكانت صاحبته الرفيقة الحزبية قليلة الحظ من الجمال تستقبلهم بالترحاب، توفر لهم الطعام والمأوى وتعلمهم الثقة بالنفس، وكيف يتأنقون ويتعاملون برقي، وبعد أن يشبوا عن الطوق يرمونها بسهامهم الجارحة وييتعدون، ولما انهار الاتحاد السوفييتي تشتت الرفاق وتخلوا عن الحزب، فقد كانوا مجرد أيتام يقتاتون على فتات السوفييت، بل تجرأ الرفاق على انتقاد الاتحاد السوفييتي، والدعوة إلى الديمقراطية، وتغيير اسم الحزب، والتخلي عن الأيديولوجيا. ووحده حامد تمسك برفيقته ناديا يحلمان بشقة في عدون.
لم يكن العمل الحزبي عن قناعة وفكر متجذر في النفوس بقدر ما كان موضة وفرصة وموجة ركبها البعض، لتحقيق ما يصبون إليه، ولما سقط الاتحاد السوفييتي تمزقت الأقنعة، وتبرأ الجميع من فكرهم الحزبي، وانحازوا للنقيض، وحتى حامد، على الرغم من انحيازه لرفقيته الحزبية، إلا أنهما يحلمان بشقة في حي الأثرياء والرأسماليين والإمبرياليين الذين كانوا يحاربونهم في الأمس.
قلب الصحراء
تاه في الصحراء بعد أن تعطلت سيارته، إثر عاصفة رملية أفقدته الاتجاهات، وأصبح هاتفه خارج التغطية، ونفد منه الماء والجهد وأصابه الإعياء، فقبضت عليه سيارة عسكرية واقتادوه إلى التحقيق يسألونه ماذا يخطط، ومن أرسله تحت سياط التعذيب، ولم تسعفه الحقيقة في شيء، فقرر أن يستعين بذاكرته ويسمعهم ما يحبون؛ تذكر زميله عبدالله أيام المدرسة عندما حدثه بعد صلاة الجمعة عن الجهاد ضد أعداء المسلمين في العراق وأفغانستان، وأنه لم يعجبه الحديث وانسحب بلياقة، فقرر أن يعترف، بأن عبدالله نظمه للعمل الجهادي، «فألقي في سجن كبير مليء بالرجال المهذبين والمتعبين والغاضبين. رحبوا به ودعوه بالمجاهد. صار يسمع كل يوم حكايات جديدة، اكتشف عالما آخر كان قريبا منه، بل كان يحيط به، لكنه لم يكن يتنفسه، استغرب من نفسه، أصبح للأيام مذاق مالح، بدت معها حياته الماضية هلاما، لا طعم لها، وسرعان ما ذابت بسبب الحر الذي كان يلفح جسده في هذا السجن الخانق، وذابت في حكايات ذاك الشعب التي تنزف دما». كان الشاب يعيش حياة لاهية فارغة المعنى، ولما دخل السجن عرف الحقيقة المرة والواقع الأليم، وحكايات الوجع والألم التي يكتوي بنارها الناس، ولم ينتبه لها يوما. إن السجون هي المرآة الحقيقية للمجتمع، وفيها وحدها تكمن الحقيقة، ويتجمع البؤس والظلم والضحايا. إنها الدليل الدامغ على رقي الدول أو تخلفها، عدلها أو ظلمها، نظافتها أو قذارتها.
ماريا
كانت ماريا حورية البحر، كما يلقبونها في الجامعة، وحلم كل طلابها، تمنعت ورفضت الجميع، لكنها تعلقت بشاب إسلامي التوجه في مكتبة الجامعة، وعلى الرغم من جلوسهما الدائم في المكتبة، إلا أنهما لم يتبادلا الحديث إلا من نظرات مختلسة، ومن خلال الكتب؛ فكانت تقرأ ما يقرأ، ويقرأ ما تقرأ، وفي موسم الانتخابات الطلابية تجرأ وقدم لها بيانا انتخابيا مليئا بالعبارات والمصطلحات الكبيرة، فتابعت خطاباته ونقاشاته، فسلب لبها، وفاز باكتساح، لكنه ما لبث أن غاب واعتقل، «فاشترت آخر كتاب قرأته. ذهبت إلى السجن. كذبت، وادعت أنها خطيبته. كانت الكذبة نسمة أنعشت روحه، في جو السجن الخانق. واجهها، واجهته، بدا وكأنهما كانا بانتظار ذلك اللقاء منذ زمن بعيد، وبدا كما لو أنه طوق نجاة لكل منهما للخروج من التيه الذي عاش فيه كل منهما».
إنها مفارقة غريبة، بل مفارقات؛ صمتا عندما جمعتهما المكتبة أياما طويلة، ولم يتكلما إلا في السجن، رفضت من أغراها ودعاها ولاحقها بإصرار، ولاحقت الوحيد الذي بادلا الإعجاب بصمت من بعيد، وهي المتحررة، وهو الحزبي المتدين. إنها القلوب التي لا تعترف بالفوارق والطبقات والحواجز.
إن «رواية الفصول الأربعة» هي أحدث إصدارات باسم إبراهيم الزعبي القصصية، وقد أصدر من قبل عددا من المجموعات القصصية للكبار والأطفال، وبعض المجموعات المترجمة، ونال مؤخرا جائزة مجمع اللغة العربية الأردني عن ترجمته كتاب «ديكتاتورية المستنيرين» للكاتبة الروسية أولغا تشيتفيريكوفا، وهو ناشط ثقافي، وأشرف على إعداد «معجم الأدباء الأردنيين».
كاتب أردني
“القدس العربي”