المصدر: واشنطن بوست (رأي)
ترجمة: عبد الحميد فحام
بقلم: ديفيد إغناتيوس (كاتب عمود)
مع اقتراب حرب أوكرانيا من شهر من القتال الوحشي، أصبح فلاديمير بوتين مهووساً بأوكرانيا، وغاضباً من جنرالاته، ومذعوراً من الأعداء في الداخل والخارج، ويغلف أفعاله الدموية بلغة روحية تكاد تكون صوفية في رؤيتها لماضي روسيا ومستقبلها.
شارك بوتين في حفل موسيقي في الملعب الأسبوع الماضي، حيث استذكر قديساً محارباً روسياً أرثوذكسياً وتحدث عن معاركه على أنها “عواصف رعدية” من شأنها “تمجيد روسيا”.
وقد قال بوتين عن فيدور أوشاكوف، أدميرال من القرن الثامن عشر اشتُهر بأنه لم يخسر معركة: “هكذا كان الأمر في عصره؛ هذا هو الحال اليوم وسيظل كذلك دائماً”. وقد تمت تسمية الأدميرال كقديس في عام 2001 تكريماً لذكراه، بعد فترة وجيزة من تولّي بوتين الرئاسة.
قدّمت ملاحظات بوتين القصيرة تذكيراً بأن شخصيته أكثر تعقيداً -وربما أكثر خطورة- من الصورة النمطية المعتادة له كضابط سابق في المخابرات السوفياتية يريد إحياء الاتحاد السوفياتي.
بوتين شخص مختلف – مؤمن مسيحي أرثوذكسي روسي وليس مُلحداً، مع أيديولوجية أقرب إلى فاشية بينيتو موسوليني من شيوعية فلاديمير لينين.
إن الولوج في عوالم لغز نفسية بوتين هو مسألة حياة أو موت هذه الأيام، حيث تستمر الحرب في أوكرانيا ويخشى العالم من خطر تصعيد بوتين بالأسلحة الكيماوية أو حتى النووية. يقول الخبراء إن بوتين ليس غير عقلاني بالمعنى السريري المُعتاد. لكنه دخل عالماً حيث قراراته مدفوعة بإحساس كبير بمكانته في التاريخ الروسي. وفي قرارة عقله، يعتقد أن مهمته سامية.
يُعتبر الخطاب في الحفل الموسيقي مكاناً جيداً لبَدْء فك شفرة نظرة بوتين. تم وصفه بأنه احتفال بالذكرى السنوية لاستفتاء آذار/ مارس 2014 في شِبه جزيرة القرم الذي أيّد روابطها مع روسيا بعد أن استولت القوات الروسية على المنطقة من أوكرانيا. استخدم بوتين هذا التجمع كـ”مسيرة حماسية” تعلوها الأعلام التي تُلوّح من أجل دعم الغزو الوحشي لأوكرانيا الذي شنه في 24 شباط/ فبراير.
ووصف بوتين الهجوم الدموي بأنه خلاص لأوكرانيا – وتحدث عن واجب ديني “لتخفيف معاناة هؤلاء الناس”.
وبشكل مدهش، اقتبس من الكتاب المقدس لتبرير حربه الخاطفة: “أذكر الكلمات من الكتاب المقدس: ليس هناك حب أعظم من هذا، إن الرجل يبذل حياته من أجل أصدقائه”.
تبدو كلمات بوتين فاسدة وتجديفاً، بالنسبة لنا في الغرب. فقد قام جيش بوتين بقصف مستشفيات الولادة ومراكز التسوق ودُور الأوبرا في أوكرانيا. لكن من الواضح أن هذه الحقيقة الملتوية هي مجال إيمان بوتين واعتقاده.
يُعتبر تديُّن بوتين جزءاً ملحوظاً، ولكنه قويّ من شخصيته. كانت والدة بوتين، ماريا، امرأة “شديدة التديُّن”، وفقاً لكاتب السيرة الذاتية ستيفن لي مايرز، الذي نجا من حصار لينينغراد في الحرب العالمية الثانية بعد أن اشتكى طلباً للمساعدة وسط كومة من الجثث. كتب مايرز أنه عندما وُلد ابنها فلاديمير عام 1952، قامت “بتعميد الصبي سراً”.
يقال: إن بوتين كان يرتدي صليباً صغيراً من الألومنيوم أعطته له والدته، وفقاً لسيرة ذاتية كتبها كريس هتشينز وألكسندر كوروبكو في عام 2012.
لم يُظهر الصليب أثناء خدمته في الكي جي بي، ولكن عندما ذهب إلى إسرائيل في عام 1993، وفقاً لروايتهم، ادّعى بوتين أنه “وضع الصليب حول رقبته ولم يخلعه منذ ذلك الحين ” كما قال بنفسه.
يكمن شغف بوتين بالكنيسة الأرثوذكسية الروسية في أساس الإحساس “بالوحدة” بين روسيا وأوكرانيا الذي عبّر عنه في مقال كتبه في تموز/ يوليو 2021، والذي كان نذيراً لاعتداء عنيف قادم.
وأشار بوتين إلى أن جذور إيمانه تعود إلى كييف، حيث تحوّل القديس فلاديمير عام 988 من الوثنية إلى الأرثوذكسية. كتب بوتين أن المؤمنين الأرثوذكس تعرّضوا للقمع في كثير من الأحيان على مدى القرون اللاحقة، لكنهم استمروا في روسيا وأوكرانيا. فأعلن “نحن شعب واحد”.
على الرغم من أن بوتين غالباً ما يبدو يشعر بالحنين إلى الاتحاد السوفياتي، إلا أن مقالته في تموز/يوليو انتقدت السوفيات لخلق ما زعم أنه شعور زائف بهُوِيَّةٍ أوكرانيةٍ مُنفصلةٍ، مُكرّسة في جمهورية منفصلة اقتُطعت من روسيا الأم. كتب بوتين: “عامل البلاشفةُ الشعبَ الروسي على أنه مادة لا تنضب لتجاربهم الاجتماعية”. “حقيقة واحدة واضحة وضوح الشمس: روسيا تعرضت للسرقة”.
وبدلاً من الشيوعية، اقترح بوتين ما وصفه الأستاذ في جامعة ييل تيموثي سنايدر بـ “الفاشية الروسية”. كان معلمها الأيديولوجي الفيلسوف إيفان إيليان، الذي فرّ من روسيا عام 1922، بعد الثورة البلشفية، وزار إيطاليا قبل أن يستقر في ألمانيا.
أُعجب إيليان بالديكتاتور الإيطالي موسوليني، وأثنى على الفاشيين لاعتقالهم “الروح” الشعبية. إيليان رأى روسيا كضحية دائمة للغرب الذي يحتاج إلى زعيم “رجولي” يصبح “العضو الحيّ لروسيا”، وفقاً لسنايدر.
اعتنق بوتين هذا النموذج الروسي الغامض. ويقول سنايدر: “ابتداءً من عام 2005، بدأ بوتين في إعادة تأهيل إيليان كفيلسوف في بلاط الكرملين”. لقد أعاد رفات إيليان إلى روسيا، ووضع الزهور على قبره واستشهد به في مقالات، مثل مقال عام 2012 أوضح رؤية إيليان بأن “روسيا ككائن روحي تخدم ليس فقط كل الأمم الأرثوذكسية، ولكن جميع دول العالم”.
في قلب نظرة بوتين للعالم، هناك شعور بأن روسيا تعرضت للإذلال بسبب مؤامرة غربية. من وجهة نظر بوتين، فقدت “الدول الأوروبية الأطلسية” مرساة روحانية، وفقاً لما ذكره كاتب السيرة مايرز. قال بوتين في خطاب ألقاه عام 2013 اقتبس منه مايرز: “إنهم ينكرون المبادئ الأخلاقية وجميع الهُوِيَّات التقليدية: القومية والثقافية والدينية وحتى الجنسية” وهم على “طريق مباشر إلى التدهور والبدائية”.
ظهر غضب بوتين على النُّخَب الغربية وأصدقائهم الروس الأسبوع الماضي في خطاب عَبْر الفيديو ألقاه في 16 آذار/ مارس. لقد تحدث صاخباً عن “الحثالة والخَوَنة” الذين دعموا “ما يُسمى بالغرب الجماعي” بدلاً من روسيا. لقد احتقر أولئك الذين “لا يستطيعون الاستغناء عن فطائر فوا جرا (فطيرة الأرز) أو المحار أو الحرية بين الجنسين، كما يسمونها”.
جادل بوتين بأن أعداء روسيا غير أخلاقيين. “إنهم يعتقدون أن كل شيء معروض للبيع وأن كل شيء يمكن شراؤه، وبالتالي يعتقدون أننا سننهار ونتراجع. لكنهم لا يعرفون تاريخنا وشعبنا جيداً “.
ألق نظرة فاحصة على وجه خصم الغرب في أوكرانيا. لا يبدو أن بوتين مجرد متنمّر أو انتهازي يمكن أن يتأثر بالضغوط الاقتصادية أو يهزمه السلاح. يؤمن إيماناً عميقاً بالشر الذي يفعله. إنه يرى تدمير دولة أوكرانيا المستقلة كواجب ديني تقريباً.
ينبثق من هذه الرواية تحذيران واضحان: تعامَلْ مع المزيج المتقلّب الذي يمثّله بوتين بعناية، خشيةَ أن ينفجر في حرب أوسع بكثير. ولا تَدَعْه ينجح.
“نداء بوست”