حين وَرَد في الأثر المقدس إن «من البيان لسحرا» إنما هي إشارة إلى انضواء بعض من جماليات البيان اللغوي ضمن ظاهرة «السحر» الافتنان، مثل استعارة مشتركة لعناصر التورية والاختفاء والمجاز والكناية المتضمنة بين السحر واللغة.
وهذه العناصر المشتركة والمتضمنة بينهما ـ اللغة والسحر- سوف تجري في مجرى تعريفهما العلمي كونهما تخفيا وكمونا واختفاء للأسباب الترابطية والعلمية، أو شيئا ما يطل من المجهول، أو يتصل بأصل الخلق وكيف قامت تسمية الأشياء واشتقاق الحركة والفعل، ومن ثم تجسمهما في عبارة أو طيف، واشتراكهما في حلم أو استحضار موتى، كأنه معلول بلا علة، ونتيجة دون أصل، ومسمى خلق يتوقف على التسمية واللامرئي الذي يتبدى جزء يسير منه؟
وبذلك، فإن ما تطرحه الدراسات اللسانية من دلالات وبرهنة، سوف تُستكمل نتائجها وتطبيقاتها في الدراسات الاجتماعية، إذ أن كشف وإزاحة الستار عن الكمون والتخفي السحري عن اللغة – البيان، وإجلاء الأسباب، سيضطلع بدوره في إظهار الوجه الآخر الخفي للسحر كظاهرة عامة وتبيين ترابطاتها السببية المفقودة لردح طويل من الزمن.
قد يقود هذا التأمل في سحر البيان اللغوي إلى ما سماه فرديناند سوسير، اعتباطا وعبث التسمية في سياق المسمى من خلال تسمية لغوية جديدة، وتبيان صوت الأشياء المتعدد، فالشيء واحد منذ الأزل غير أن التسميات متعددة، واللسان الإنساني واحد فيما اللغات شتى. في المقابل، ثمة رؤية مخالفة تماماً لرؤية الدرس اللساني عبر المنظور الديني، إذ تُعد التسمية نسيجاً من مادة المخلوق، وملحقاً مطابقاً بين الخلق واللغة الأمومية البابلية الكبرى، ووسيطاً إلهياً متوائماً بين الإنسان والكون، ومن الطبيعي أن تتماشى هذه الرؤية مع تراكمات السرديات الكبرى، ولا تعترض سياقاتها ومتغيراتها التاريخية، ولو حدث ذلك، فإنها تسارع إلى إضفاء صفة التقديس على اللغة، فتخرج من النقاش والبحث، فيصبح العالم واللغة مكاناً سماوياً لا يمكن الوصول إليه أو الحديث في شأنه.
إذن، هاتان نظرتان إلى التسمية، الأولى تطابق بين الخلق واللغة، والثانية ـ محل القراءة – تتشكل من البيئة التاريخية للّسان الإنساني، ومن خلال النظرة الأولى يندمج السحر بالدين فلا سبيل إلى دراسته إلا في ضوء المعايير الفقهية التي تؤطره، ولا سبيل إلى تعيين التمايز والتمييز الإنساني والجندري، فيما تكشف النظرة الثانية ـ محل القراءة – عن منظومة قيمية مختفية واستعارات لغوية، وتسميات عبثية واعتباطية، تعبر عن القوة الظاهرة في سياقات جندرية، يستأثر بها الرجل المقاتل والقوة الكامنة التي تولى للمرأة الساحرة، وقابلة للتحليل والدرس والكشف.
لدراسات اللسانية واستكمالها في التطبيقات الاجتماعية، تؤكد بما لا يقبل الشك أن الإطار المعرفي الديني والإلهي والقدسي المدمج مع السحر، هو ما يؤلف ديمومة التواصل والاعتقاد بتلك السرديات مع سيرورة الصراع الإنساني، وعملية رفع هذا الإطار عن اللغة سيمكّن في مجال مجاور مناظرته في دراسة تلك السرديات الكبرى في ضوء الدراسات الاجتماعية.
إن المنظومة القيمية بوصفها لغة منعكسة، أعادت توزيع أدوار القوة تبعاً للنظام القيمي السائد، وعملت على خرق وموضعة الطبيعة للانحياز إلى المتكلم صاحب القوة الظاهرة، فالمرأة الساحرة كما في أنموذج ميدوزا، الذي سنتناوله بعد قليل، هي من تخطيطه واكتشافه، وفعل القوة الكامنة لسحرها من تدبيره وطمسه لقوة ثنائية متكاملة، ولو تمت إعادة تشكيل البناء السردي للغة المتكلم لتقاسم العالم قوتين ظاهرتين ومتكاملتين، «الرجل – المرأة» فيما يعاد تخطيط البنى الحوارية واللغوية تبعاً لذلك. والمرأة الساحرة كما في مثال ميدوزا ليست كذلك، إنما هي مسحورة بفعل مباشر من الآخر- الرجل، وسلوكها الشرير أو القاتل، يعد ردود فعل لدور تولته مرغمة، ونفذته حتى نهايته وفقاً لمشيئة المستأثر بالواقع ولغته، وهي ضميره المتكلم بالاستعاضة عنه في إسقاط ما يبغي منها، ولو أتيح للمرأة ميدوزا، أن تعبر بضميرها المتكلم الحقيقي لتمت إعادة توزيع الخريطة السردية وبناءاتها على نحو متكافئ، ولسوف يتخذ الصراع شكلاً لسانياً جديداً، يقوم على التكامل بين النوع الإنساني وربما الخالي من الهيمنة أو من يجعلها على نحو معين.
ولو نظرنا إلى تلك «الأسطورة الإغريقية الشهيرة» ميدوزا، كما هي لرأينا كيف يحوّل الصراع المجتمعي، وطغيان المتكلم، المرأة الجميلة جداً المتباهية بجمالها قدام ربة الجمال، كيف يحوّلها بفعل السحر إلى بشعة خارج الطبيعة الأصل لها، إنه اسم جديد استعاري بشري، يعيد خلقها زيفاً ويخرق مسمى طبيعياً بآخر ممهداً لمعالجة لغوية، تنهض على التأسيس لعملية التأثيم والتجريم، حيث لم يتبق في القصة من فعل متأصل وحر لميدوزا سوى مباهاتها بجمالها وغيظ الآلهة المتعسف منها، وهو صوتها الحقيقي المعبر عن ضميرها المتكلم، وفي ما عداه افتراضات المؤلف المهيمن والعقابي الذي يحوّلها إلى امرأة بشعة ساحرة، زائغة العينين، حد أن تصيب نظراتها الحادة بالموت والتحجر لمن تلقاه، وتغدو خصلات شعرها الذهبية ثعابين شرسة، تسعى في الأرض، وتمسي آية الحسن والجمال ربة للدّغ المميت، وينشأ عن تحوّلها القبيح، نمو برعم الانتقام الكاسح من أهل أثينا، الذين جعلوها على هذه التسمية الجديدة حتى صارت تحجّر كل من تنعم النظر إليه، ليقوموا بفعل مضاعف في تأثيمها وتجريمها ومن ثم قتلها والخلاص منها؟
وبذلك تم خرق طبيعة الخلق المتوازنة، من خلال أدوات بيانية ولغوية، تتناقض مع وجودها، وتعبر عن منظومة قيمية راسخة إزاء ميدوزا، كونها امرأة عادية، تدخل في منافسة مع الآلهة وتستعير تلك الأدوات عناصر الضعف والجمال والقبح لتتمكن من السيطرة على صراعها مع المجتمع وإنهائه، في الوقت الذي تُظهر فيه هذه الأدوات البيانية في سياق الشكل الأسطوري أن الفعل السحري المضاد الذي تستخدمه المرأة، هو مهيأ لها، وناجم في تفسيره عن وهم غياب القوة لديها، فيما يتمتع بها الرجل، ولو كان جلجامش أو أوديسيوس في هذا الموقف فلن يلجأ أحدهما إلى السحر أبداً، بل يستخدما أدوات القوة الفيزيولوجية النابعة من جسديهما.
إذن فالدراسات اللسانية واستكمالها في التطبيقات الاجتماعية، تؤكد بما لا يقبل الشك أن الإطار المعرفي الديني والإلهي والقدسي المدمج مع السحر، هو ما يؤلف ديمومة التواصل والاعتقاد بتلك السرديات مع سيرورة الصراع الإنساني، وعملية رفع هذا الإطار عن اللغة سيمكّن في مجال مجاور مناظرته في دراسة تلك السرديات الكبرى في ضوء الدراسات الاجتماعية، فوراء كل أمراة ساحرة ضمير متكلم ضائع لها حق استرجاعه وبناء صوت حقيقي لها من خلاله.
كاتب عراقي
“القدس العربي”