يلعب ماكرون لعبة خطيرة ذلك أنه من خلال استيعابه آراء خصومه وضمها لحملته الخاصة فإنه يخاطر بخلق مشهد سياسي ينحرف بشكل خطير نحو اليمين
عام 2017، بدا إيمانويل ماكرون للكثيرين كأنه ولد تحت كوكب الحظ، ذلك أنه كان مصرفياً سابقاً من دون خبرة في منصب انتخابي. وقد استفاد خلال حملته الرئاسية الأولى من اختيار الرئيس فرنسوا أولاند عدم السعي لإعادة انتخابه، في وقت واجه المرشح المحافظ وصاحب الحظ الأوفر فرنسوا فيون تهمة الاختلاس.
عام 2022 بدا أن كوكب الحظ يقف إلى صف ماكرون مرة أخرى، إلا أن الحظ هذه المرة جاء من الظروف الدولية، بدلاً من الديناميكيات الوطنية. وباعتباره رئيس الاتحاد الأوروبي منذ يناير (كانون الثاني)، عزز ماكرون وضعه كمحاور شرعي مع فلاديمير بوتين، حتى لو باءت محاولاته لإنهاء الاجتياح الروسي لأوكرانيا بالفشل. وأظهرت جميع استطلاعات الرأي أن ماكرون يتقدم في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية، التي عقدت الأحد الماضي… ومع ذلك، فإن هذا التقدم يشهد تراجعاً سريعاً.
وقد ادعى ماكرون خلال حملته الانتخابية الأولى أنه ليس «يساراً ولا يميناً» – شعار أغوى الكثيرين الذين سئموا الانقسامات السياسية القديمة. ومع ذلك، فإنه بمجرد انتخابه، سرعان ما كشف عما يعنيه ذلك من الناحية العملية، وهو ما يعني خفض الضرائب على الأثرياء، وتقليص حالة الرفاهية وتفريغ الديمقراطية. وبذلك، انجرف ماكرون نحو اليمين على نحو صدم الكثيرين من داخل حزبه.
وأصر ماكرون على المضي في مساره الجديد. وفي الأشهر الأخيرة، أصبحت محاولات تودده للناخبين اليمينيين أكثر وضوحاً من أي وقت مضى، وذلك مع توجيهه برنامجه الانتخابي نحو اثنين من الموضوعات التقليدية لليمين – السيطرة على الهجرة وتعزيز العلمانية. وربما يكسبه هذا النهج انتصاراً انتخابياً آخر، إلا أن ماكرون يلعب لعبة خطيرة، ذلك أنه من خلال استيعابه آراء خصومه وضمها لحملته الخاصة، فإنه يخاطر بخلق مشهد سياسي ينحرف بشكل خطير نحو اليمين.
جدير بالذكر في هذا الصدد أنه من بين قرارات ماكرون الأولى في منصبه، إلغاء ضريبة الثروة وفرض ضريبة ثابتة على دخل رأس المال، الأمر الذي عاد بالنفع على الأغنياء. في الوقت ذاته، سعى إلى تخفيض بدل السكن المخصص للفقراء وتخفيض المعاشات للمتقاعدين. وفي منتصف عامه الأول في السلطة، تحول إلى «رئيس الأثرياء». وتعززت هذه الصورة بسبب الإصلاحات التي أدخلها على قانون العمل، والتي قلصت من حقوق العمال وأضعفت المنظمات التمثيلية، وقلل إعانات البطالة وتقليص مساهمات الضمان الاجتماعي لأصحاب العمل.
رغم ذلك، أظهر ماكرون خلال جائحة «كوفيد – 19»، وجهاً مختلفاً بعد أن أمر بفرض حالة إغلاق على البلاد، ذلك أنه قرر أن تنقذ الدولة بسخاء الشركات، وحرص على تجنب تسريح العمال على نطاق واسع. كان هذا الإجراء، رغم أنه يتماشى إلى حد كبير مع الحكومات في جميع أنحاء أوروبا، مفيداً دونما شك. ورغم هذه الخطوات، مالت الولاية الأولى لماكرون بشكل لا لبس فيه نحو توسيع نطاق التفاوتات وعدم المساواة، كما هو واضح في استطلاعات الرأي.
بالتوازي مع ذلك، كان هناك تراجع مقلق على صعيد الديمقراطية. خلال 46 شهراً من الـ78 الماضية، كانت فرنسا في حالة طوارئ، ما يعد رقماً قياسياً في أوروبا. جدير بالذكر أن الطوارئ أعلنت من قبل أولاند بعد الهجمات الإرهابية في باريس عام 2015، ثم في عهد ماكرون في بداية جائحة «كوفيد – 19».
يذكر هنا أنه أمام تحديات مشابهة، لم تلجأ ألمانيا لمثل هذه الإجراءات المتطرفة. علاوة على ذلك، قبل يومين من انتهاء حالة الطوارئ الأولى، وبمبادرة من ماكرون، جرى دمج قوانين طوارئ مختلفة في القانون العام من قبل البرلمان الذي يهيمن عليه حزبه. ومنذ ذلك الحين، جرى تمرير ستة قوانين تقيد حقوق طالبي اللجوء والمتظاهرين والسجناء والنقابات العمالية والمنظمات غير الحكومية.
أيضاً جرى توسيع صلاحيات الشرطة بشكل كبير على حساب القضاء، خصوصاً أوامر التفتيش والتوقيف والتفتيش. وزاد تصريح الشرطة باستخدام الأسلحة. وخلال حراك السترات الصفراء، أصيب 2495 متظاهراً، وفقدت 30 عيناً، ونسفت أيدي خمسة. ورداً على سؤال حول الضرر الناجم عما يسمى الأسلحة شبه المميتة المحظورة في معظم الدول الأوروبية، أعلن الرئيس الفرنسي أن الحديث عن القمع أو عنف الشرطة أمر غير مقبول بموجب سيادة القانون.
أدى المزيج الذي انتهجه ماكرون من الليبرالية الجديدة والسلطوية إلى تعميق عدم المساواة، وتقويض دولة الرفاهية، وإلحاق الضعف بالديمقراطية، وتفاقم انعدام الثقة في المجال السياسي، الأمر الذي تسبب في معدلات امتناع غير مسبوقة عن التصويت في الانتخابات الإقليمية، خصوصاً في أوساط الشباب. وفي ظل الجمهورية الخامسة، القائمة منذ عام 1958. يعد هذا رقماً قياسياً فريداً من نوعه.
إلا أن هناك مجالاً واحداً أثار فيه ماكرون توقعات أكثر تفاؤلاً: التغييرات المناخية. عام 2018، قدم وزير البيئة نيكولا أولوت تفاصيل خطة طموحة للوصول إلى الحياد الكربوني بحلول عام 2050 طبقاً لاتفاقية باريس لعام 2015، وبعد مرور عام، عندما أصبح واضحاً أن الإدارة لم تلتزم بأهدافها، استقال أولوت احتجاجاً على ذلك.
وبعد ذلك بعام، عقد ماكرون مؤتمر المواطنين للمناخ لتقديم مقترحات للتخفيف من ظاهرة الاحتباس الحراري، والتي وعد باتباعها، إلا أن حكومته تخلت عن بعض أهم المقترحات، وعمدت إلى التخفيف من البعض الآخر.
ومع ذلك، كانت العلامة الأكثر وضوحاً على الانجراف السياسي لماكرون نحو اليمين جعله مسألة فرض قيود على الهجرة، خصوصاً القادمة من الجنوب، وتنظيم شؤون الأديان، خصوصاً الإسلام، في قلب سياساته.
وربما تأتي الإشارات المعادية للأجانب في سياسات ماكرون بمثابة مفاجأة من مرشح يتألف جمهور ناخبيه في الغالب من أبناء من الطبقتين الوسطى والعليا وكذلك المتقاعدين الذين تحتل الهجرة والعلمانية مرتبة أقل بكثير في اهتمامهم عن القوة الشرائية والمنظومة الصحية والقضايا البيئية.
إلا أنه مع فوز المرشح اليساري جان لوك ميلونشون بالمركز الثالث في الجولة الأولى، من الواضح أن ماكرون افترض أنه باستطاعته الفوز في الانتخابات عن يمينه، خصوصاً مع احتلال مارين لوبان المركز الثاني.
في الحقيقة، سبق القيام بهذا الأمر من قبل، ففي عام 2002، تبنى جاك شيراك مقاربة مماثلة في جولة الإعادة ضد جان ماري لوبان. قبل التصويت، حذر لوبان من أن «الناخبين يفضلون دوماً الأصل على النسخة». إلا أن النتيجة أثبتت خطأه، وخسر بنحو 60 في المائة.
في منتصف شهر مارس (آذار)، عندما كانت ابنته مارين تحصل على نسبة تتراوح بين 16 و22 في المائة خلف ماكرون في الجولة الثانية من الانتخابات، بدا أن تنبؤاته ظلت بعيدة عن الواقع، لكن الآن، عندما تقلص الفارق بين المرشحين إلى أقل عن 2 في المائة، يبدو أنها في طريقها لأن تصبح حقيقة.
خلال حملته الانتخابية لعام 2017 قدم ماكرون نفسه على أنه مُجدد للسياسة وحصن أمام اليمين المتطرف. اليوم، يبدو أنه أصبح مختلفاً تماماً: سياسياً تقليدياً، يقدم جسراً إلى أقصى اليمين. وبالنسبة لرئيس وعد بإعادة تشكيل فرنسا على صورته، فإن هذا إرث مثير للقلق.
* عالم أنثروبولوجيا وطبيب، بروفسور في معهد الدراسات المتقدمة في برينستون، ومدير الدراسات في مدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية بباريس
“الشرق الأوسط”