يتوفر الجميع هنا على حكايات يرويها عن المعابر ونقاط التفتيش. وتتعلق الأخيرة برامي المهندس في الهندسة المدنية الذي سافر قبل يومين إلى جنين صحبة ثلاثة من معاونيه. ولأن المدينة خاضعة بانتظام لقانون حظر التجوال، فقد حرص على مهاتفة زملائه في جنين كل صباح كي يسألهم إن كان الحصار على المدينة مرفوعا. وقد حصل بالفعل صباح الأربعاء على الضوء الأخضر. وقد غادروا بالفعل في تمام الساعة السابعة صباحا ولم ينفقوا إلا ثلاث ساعات في سبيل الوصول بفضل بطاقات الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية. وقد بذلوا قصارى جهدهم في إنجاز مهامهم قبل انتهاء صلاحية التصريح بالتنقل. وفي تمام الساعة السادسة مساء، كانوا عند المعبر الأمني في رام الله. نظر الجندي إلى ساعته التي كانت تشير إلى السابعة. خاطبهم قائلا: انتهت صلاحية تصريحكم وينبغي للسيارة أن تتوقف. عليكم أن تتبعوني إلى المكتب. أجابوه: لن يحدث ذلك. الساعة تشير إلى السادسة حسب توقيت فلسطين. وأمامنا ساعة من الزمن. ما الذي تهرف به؟ قال الجندي: اعطوني ساعاتكم في التو. حجز الجندي ساعات الركاب علاوة على الوثائق ومفاتيح السيارة ووضعها في مكتب المراقبة. وبعد انصرام ربع ساعة جاء عامل فلسطيني قدم لتوه من القدس. سأله الجندي: كم الساعة الآن؟ أجابه العامل بالعبرية: السابعة والربع ولكنها السادسة والربع بتوقيت فلسطين. لقد انتقلنا إلى توقيت الشتاء يوم السبت وسيحين دوركم يوم الأحد. وقد اقتنع الجندي الإسرائيلي بهذا التفسير في النهاية.
عند رامي الكثير مما يرويه عن مغامرة جنين هذه، وقد سلكوا بغاية تفادي الحواجز الأمنية عند الذهاب طريقا ثانويا غير مألوف. وبغتة قال أحد المعاونين: نحن على بعد مئة متر من منزل والدتي التي لم أرها منذ شهور. هل في المقدور الانعطاف صوبه كي يتاح لي عناقها. وفي تمام الساعة الثامنة طرق الشاب باب منزل الأم التي كانت تعيش بمفردها منذ أن غادر الأبناء والجيران. وكان على المرأة العجوز المرعوبة أن تنتظر عشر دقائق قبل أن تقتنع في النهاية بأن الواقف خلف الباب هو ابنها بالفعل، الذي كان آخذا في إحداث هذا الصخب وفي هذه الساعة المبكرة. يتهيأ من في وسعهم ذلك كي يتجنبوا أي احتكاك بالجنود ويلوذوا ببيوتهم ليقتصروا على الهاتف والإنترنت. لكن قد يحدث أن يباغتكم الجنود في منازلكم. بوغتت سالي وشامي إلياس بزيارة مباغتة في عز الليل الأربعاء الماضي. وقد روت لي سالي ذات الأصول التونسية التي تتقن الفرنسية ما حدث:
طرق الجنود باب بيتنا في الحادية عشرة والنصف ليلا. كان من عادتنا أن نذهب للنوم في ساعة متأخرة. لكننا في ذلك المساء استشعرنا أنا وزوجي التعب ولذنا بأسرتنا. كان من عادتي أن ارتدي البيجاما فيما كان من عادته أن يظل أسفله عاريا. كان على زوجي وقد بوغت بالطرقات العنيفة على الباب أن يرتدي بنطلونه. كانوا ستة جنود وكان لزاما عليهم فحص هوية ساكني البناية التي تشتمل على ثلاث شقق.اخرج الجنود زوجي والجار ثم طرقوا باب الشقة العلوية. وكانوا على وشك تكسير الباب حين لم يصلهم جواب. خاطبهم زوجي: سوف أذهب لإحضار المفاتيح. لم تكن الشقة مأهولة بحكم وجود أصحابها في أمريكا. سأله الجنود بنبرة اتهام : لماذا تتوفر على مفاتيح؟ أجابهم: كي لا تحطموا الباب وتقتحموها.
احتجزوا بعد ذلك الرجال جزءا من الليل داخل الشقة الفارغة المنقوعة في طبقة كثيفة من الغبار. كان الأمر متعلقا بعملية أمنية روتينية. أثبت الجنود ورقة كشف على كل شقة بعد أن قاموا بجرد أسماء السكان وأرقام هواتفهم الثابتة والمحمولة بغاية رصد أدنى تحرك. أما الأدهى من ذلك فيتمثل في إقدام الضابط في النهاية على مد يده بغاية المصافحة. وقد بادر شامي بطريقة لا شعورية إلى الشد على يده. كان طيبا حد العجز عن رفض مصافحة يد ممدودة. ها أنت ترين كيف يرغبون في ادعاء الاستقامة.
تتوفر سالي فيما يهم لباقة الجنود الإسرائيليين على حكاية أخرى تتعلق بصديقتها جيني. «حيث أن جيني تقيم بجوار المقاطعة فقد اقتحم الجنود الإسرائيليون منزلها ست مرات في عام 2002. وكانوا في كل مرة يقلبون عالي البيت سافله ويعيثون فيه تخريبا. وكانت أمها ما تزال على قيد الحياة، وفي سن متقدمة. وقد أصيبت في المرة الأخيرة بنوبة حادة. وقد خاطبها قائد الفرقة قائلا: سأقوم بحقنها بعد إذنك. أنا طبيب. وقد صرخت في وجهه جيني وهي مهتاجة: لا تلمس أمي. أنا أمنعك من أن تلمس شعرة واحدة من أمي.
كي أنهي هذا الفصل الأول من هذه اليوميات إليكم هذه اللحظات.
تمثلت اللحظة الأكثر روعة في رفض أحد السائقين الذي أوصلني إلى حاجز سوردا الأمني استلام الشيكلين، وحين أصرت عبير الطالبة على دفع ثمن عودتي، وحين رفض مالك محل حلويات برج أيفل استلام ثمن ما اشتريته، وحين أصر نسيم مسير مقهى الإنترنت على إصلاح حاسوبي، وحين جاد عليّ صاحب المخبزة بالخبز. يصعب عليّ إحصاء الهدايا الصغيرة التي تتلقاها يوميا من الفلسطينيين. كانت اللحظة الأكثر قوة حين وجدتني في مقهى زرياب عند منتصف الليل تقريبا. كنت شاهدة على نقاش حاد بين عالم جيولوجي ألماني وسينمائي إنكليزي. كان بيتر الذي جاء من أجل إنجاز فيلم وثائقي عن قضية المياه في فلسطين يرغب في الاحتجاج لما مؤداه أن المحتل الإسرائيلي قد تسبب في تصحر الجزء السفلي من وادي الأردن. وقد شرح له ويلهلم أن ملوحة المياه لا تعود للأسف إلى عام 1948 وكانت أسماء ليبكنيخت وكاوتسكي تزين حديث ويلهلم. كنت أشعر بوخز في عيني من فرط ثقل النوم. وقد أوحى لي حدسي بأنني أخطأت العنوان.
تمثلت اللحظة الأكثر رسمية في لقائي بالصحافية الإسرائيلية الشهيرة عميرا هاس. وقد اصطحبتني في التو على متن سيارتها الرونو العتيقة لحضور حفل تكريم إدوارد سعيد، الذي أعقبه موكب بالشموع في الشارع الرئيسي. كانت على معرفة بالجميع بمن فيهم القلة من الصحافيين ورجال السلطة الفلسطينية والأعيان.
تمثلت اللحظة الأكثر إحراجا حين سألتني صاحبة المنزل الذي أقيم فيه: نحن مسيحيون أرثوذوكسيون والاخرون لا يحبوننا. أنت مسيحية أليس كذلك؟ أجبتها: لا أنا يهودية. أردفت معلقة: لا تقولي ذلك. قولي إنك مسيحية أو فرنسية بكل بساطة. لكنني ألححت قائلة: لكن المستأجرين السابقين طوم وادا كانا يهوديين ولم تحدث لهما أي مشاكل هنا. قالت: من يدري بما قد يحدث. لست في حاجة إلى التذكير بدعوة كل المناضلين الفلسطينيين الذين قمت باستشارتهم إلى أن أتوخى الصراحة في معرض جوابي عن كل ما يطرح عليّ من أسئلة، وكانوا جميعهم متأثرين بالخطوة التي أقدمت عليها والتي اعتبروها «شجاعة».
تمثلت اللحظة الأكثر رسمية في لقائي بالصحافية الإسرائيلية الشهيرة عميرا هاس. وقد اصطحبتني في التو على متن سيارتها الرونو العتيقة لحضور حفل تكريم إدوارد سعيد، الذي أعقبه موكب بالشموع في الشارع الرئيسي. كانت على معرفة بالجميع بمن فيهم القلة من الصحافيين ورجال السلطة الفلسطينية والأعيان. لم أتمكن من إدراك دلالات الخطابات باللغة العربية إلى أن شرعت فتاة شابة ذات جسد مكتنز كانت جالسة بجواري في ترجمتها إلى اللغة الإنكليزية. كانت ريم في سنتها الأخيرة في الصحافة والإعلام في جامعة بير زيت. ولم تكن تطلب سوى رؤيتي من جديد وأن تكون ذات نفع لي.
اللحظة التي ينبغي تسجيلها سينمائيا عند عبورنا حاجز سوردا الأمني في الطريق إلى بير زيت. وفي شريط طرقي يتعرج بين تلال رائعة تقطع الطريق عند نقطتين بمكعبين من الإسمنت تفصل بينهما ثمانمئة متر. وعند كل حد قرابة خمسين من سيارات الأجرة الصفراء الفردية والجماعية في غمرة فوضى غامرة. وبين الحدين مئات من الراجلين الذين يمشون في كلا الاتجاهين وكراسي متحركة للعاجزين وعربات تجرها أحصنة للركاب والسلع. تسلك الغالبية العظمى من الأساتذة والطلبة هذا الطريق مرتين كل يوم. روت لي مليكة جارتي في الطابق العلوي: كنت في السابق أقضي ما بين ثماني دقائق وعشر دقائق بالسيارة كي أصل إلى الجامعة. أما الآن فتلزمني ساعة. وبالأمس وبسبب ازدحام يوم الخميس قرب الحاجز الأمني قضيت ساعتين كي أعود إلى البيت. لم يكن عندنا في السابق وقت للحديث. وتؤكد طالبة إيجابيات المشي الإجباري: يمكننا على الأقل أن نلتقي الأساتذة والجميع وأن نكون سواسية.
اللحظة التي ينبغي تصويرها. لعبة ورق جديرة برواية لمارسيل بانيول على سطيحة مقهى على بعد خطوات من ساحة الساعة، وإن لم يعد ثمة وجود لها. السحن البشوشة لرجال صلع ذوي بطون منداحة. الظلال والأضواء فوق السطيحة والطاولة المستديرة وفناجين الشاي والورق المطروح فوق الطاولة. الصخب الهادئ لبداية المساء.
لحظة الدعابة والهزل وقد رواها لي ممدوح نوفل، الذي كان إطارا عسكريا سابقا في منظمة التحرير الفلسطينية ومستشارا ظرفيا لياسر عرفات. كان بشاربه الرمادي الصغير وعينيه المحجوبتين خلف ابتسامة ازلية وبنيته الضخمة نموذجا مثاليا لبطل الكوميديا المصرية. مباشرة بعد الحاجز الأمني كان سائق سيارة أجرة جماعية يهتف بآخر مسافر كي يستوفي النصاب اللازم:
آخر مسافر في اتجاه الجنة.
هل أنت متاكد من انك ستوصلني إلى الجنة؟
إلى أين سأقودك؟ إلى الجحيم بالطبع لكن لا داعي للقلق؛ فستعثر على الجنة خلف الباب الأول الذي يصادفك.
*كاتبة فرنسية
** مترجم مغربي
“القدس العربي”