مأزق الكتابة
نَبّه محمود درويش، في ما يُشْبه وصيّة الشاعر الأخيرة، إلى التحوُّط من استعمال التأويل السياسي- الأيديولوجي في قراءة شعره، لأن ذلك يُصادر حريّته بقدر ما يُجْهز على حياة القصيدة نفسها وعبورها اللازمني في الوعي الشعري المعاصر. ومن المؤسف أنّه إلى اليوم، ما زالت بعض الدراسات تُصرّ على تمثيل شعر محمود درويش في يافطاتٍ ومُسمّيات ذابت في الماضي، وتعيد قراءته من خلال مفاهيمها الاختزالية والدوغمائية، التي تستنزفه في نماذج مُقرّرة سلفا، وتعجز عن أن تُصغي إلى ما يطرحه على الدوام من مسائل وخواصّ جمالية وفكرية متقاطعة، ويختزنه من حياة باطنية لا مُفكّر فيها، وبالتالي تبدو هذه الدراسات المعطوبة كأن ليس لها ما تقوله.
خارج صراط «الدوغما» وتأويلاته المغرضة، كانت قصيدة محمود درويش تدمن الوعي العميق والحيوي بسياسات الكتابة التي لا تنفصل عن أخلاقيّاتها وشرطها الإنساني، على نحو يتأتى من ضرورة تجديد رؤيته للذات والعالم، وشكل طريقة استبصاره للمستقبل. وفي أفق هذا الوعي، كان منشغلا ببلورة عمل الكتابة وطرائق تخييلها لمجموع ما يعبرها من كائنات وفضاءات وأمزجة ومصائر، أي بالشعرية التي تنبثق من تعاضد دوالّ القصيدة وعناصرها المتحولة باستمرار، ومن شرط المأزق الذي كان يصاحبها في كل لحظة من تكوينها. ولهذا نفهم كيف أمست للشاعر «حاسة نقد ذاتية»؛ فكان ذا وعي تجريبي يسمح له بمراقبة ما كان يكتبه ويعمل على تطويره، وكان شديد الانتباه إلى «مأزقه الشعري» ويتجاوزه في كلّ منعطف كتابي «بطريقته الخاصة».
إن حداثة الشعر بوصفه «فعلاً كتابيّا» ترتبط بنزعة التجريب، ويظل بعضهما يتجاوب مع الآخر على نحو ما يشبه نداءً داخليّا. ويترافق هذا الفعل مع الرفض الإرادي للقصد، بل يدخل في تعارض مع الانعكاس الذي يريد أن يشدّه إلى ماضيه، إلى انسجامه الخاص، عندما يقرنه بغير القابل للتبدّل، وبحمله ردم الهوة مع بلاغة الجمهور: «إن حقيقة الجديد وحقيقة غير المنتهك – كما ينبهنا أدورنو إلى ذلك – تتموضع داخل غياب القصد» لأن ذلك هو ما يمنح الفعل الشعري «قوة ثانية» ولا يقصره في «محتوى الرسالة» الذي يتلاشى من تلقاء نفسه.
لكن ينبغي أن لا يشتطّ بنا هذا التأويل عن واجب اقتران الشعر بسياساته كشرط مقاومة وانشقاق، في زمن تزداد فيه طاقة التدمير التي تتهدد الحياة الإنسانية على الأرض. فكلّ انحطاط للشعر بوصفه فعلًا/ فعالية هو انحطاط للذات، ولمعاناة التفرُّد داخل شرط حداثته، وداخل الصراع الذي لا ينقطع بين التكرار والتحويل. ومن ثمة، تكون الوظيفة السياسية لهذا الفعل توكيداً للحاضر، وضدّاً على محاكاة الماضي؛ لأنّ ذلك هو ما يجعل الذات تتجدد باستمرار، ليس في علاقتها البلورية بالذوات الأخرى، بل كذلك بالجمعي نفسه. فالأعمال التي تدوم هي تلك غير المكتملة، والتي تظلّ تحمل في داخلها جماليّات نقصانها، وتعكس حداثتها الخاصة كحالة ناشئة باستمرار. يضيف أدورنو: «وحدها الأعمال التي سوف يُتعرّض لها يوماً، لها فرصة البقاء طالما هي موجودة، لكن ليس تلك الأعمال التي تضيع في الماضي خَوْفاً من أن تزول سريعاً».
تأويلية عرفانية
في مقابل تلك الدراسات المغرضة، ثمة دراسات حديثة تحاول أن تستعيد حرية الشاعر وحقّ كتابته في الوجود والدفاع عن حداثتها المختلفة، وآخرها ما اعتكف عليه الشاعر والباحث المغربي أحمد بلحاج آية وارهام في دراسته المعنونة بـ»أنســاق التوازن الصوتي في شعر محمود درويش». يعي الباحث من البدء سلطة الحجب التي مورست على شعر محمود درويش وحداثته، التي يتقاطع فيها السياسي والديني والأيديولوجي. ويسعى من خلال مقاربته التأويلية أن يستقرئ «زمنا جماليّا غير الزمن المستبد الذي بتر أحاسيسنا، وشوَّهَ رؤانا حتى صرنا نتصادى مع المألوف والمتواطأ عليه» وأن يمسك بحضوره الذي يتجدد مع كل قراءة، بقدر ما هو «ينفلت من الزمني إلى اللازمني». ويفترض أن فعالية هذا الشعر كانت تتأتّى من «الطاقة الإنشادية السحرية» التي تتقاطع، في صميم العمل، مع بنية الخيال وتحولات الدلالة. ومعنى ذلك أنه يعيد الاهتمام بالإيقاع كاستراتيجية في التأويل؛ وهو ـ هنا – ليس بمعناه العروضي أو كونه مقولة مجاورة لغيرها من مقولات الخطاب، بل باعتباره مبدأ نسق الخطاب؛ حيث يأخذ أشكالاً من البناء وينظّم الذات في معنى خطابها على نحو يجددها ويجعلها في حياةِ دائمة. وإذا كانت القصيدة شيئاً غير الذكرى التي تنتزع الحياة من النسيان، فإنّ الإيقاع بمثابة تحيينٍ للذات وزمنيّتها في آن.
من هنا، فإن عناصر الإيقاع والذات والمعنى بوصفها عناصر تكوينية، ومتحوّلةً وغير قابلة للفصل، يكون استدعاؤها في أيّ نشاط نقدي بمثابة أولوية تترتب عليها نتائج ذات قيمة، وذلك بالنظر إلى تساند هذه العناصر وأثرها الحيوي والمنتج واللانهائي في تجربة الشاعر، مع ما صاحبَتْها من تحوُّلات جمالية ومعرفية في علاقتها بوضعية الدالّ الشعري وممكناته النصية في نسيج المتخيّل وعمل الكتابة على حد سواء. تسعى المقاربة الوصفية التأويلية إلى الإجابة عن كل ذلك، من خلال ثلاثة مباحث، هي: فضاء اللعبة الشعرية، وأنساق التوازن الصوتي فيه، وتساوق الأنساق مع الدلالة والخيال.
تنهض العمارة النصية في أي عمل للشاعر محمود درويش على خواص تعبيرية وجمالية مبتكرة، من خلالها تنتظم الذات في خطابها، وتمارس لعبتها الشعرية التي تقرن الموت بالحياة في مختلف سياقاتهما معجما وصورة، والتي تدمجهما في فضائها ليس كوجهين متناقضين، بل كموضوعين حيَّين.
فضاء اللعبة الشعرية
تنهض العمارة النصية في أي عمل للشاعر محمود درويش على خواص تعبيرية وجمالية مبتكرة، من خلالها تنتظم الذات في خطابها، وتمارس لعبتها الشعرية التي تقرن الموت بالحياة في مختلف سياقاتهما معجما وصورة، والتي تدمجهما في فضائها ليس كوجهين متناقضين، بل كموضوعين حيَّين؛ حيث يفلسفهما الشاعر ويؤنسنهما، ويحاورهما شعريًّا في صيرورتهما إلى حدّ التوحد والاندماج، بسبب تداخل الأبعاد النفسية والجسدية والفلسفية والروحية والشعرية والثقافية والـمادية التي يطرحهما معا في جدل وتماهٍ، على نحو يحول فكرتي الموت والحياة إلى «فكرة شعرية خاضعة لمنطق الدوالّ ومنطق الخيال، وإلى معادلة أَسْطَرَةِ الشاعر وذاته الشعرية، والارتفاع بهما خارج البعد الإنساني القابل للموت والحياة بالمعنى المادي التقليدي» على نحو يتسامى فيه الشعر والشاعر، فلا يعني موتُ الشاعر موتَه، وإنما يعني «طيرانَه حتى الأزل».
وبهذا التصور، يرى الباحث أن أعمال محمود درويش؛ من «عصافير بلا أجنحة» إلى «أثر الفراشة» عبارة عن «رواية لقصيدة الموت والحياة» بكل ما تشي به من أحلام مُنشدَّة إلى اللانهائي، وترقى به من خلال جماليات اللغة وسحر الإنشاد إلى إيقاعات غنائيـة تجمع أصل الشعر العربي بحداثته، وتضيف إليه ألوانًا وأساليب تتحايل على الموت )= الجرح، الدمار، الحرب، الجوع، المرض، الكراهية، العنصرية، الفقر، الاستبداد، إلخ(، ودرامية الأحداث، والغربة، لتحولها من وقائع وظواهر إلى رموز أساسية من رموز الحياة )= الحب، السِّلم، الثراء، الأخوّة، الحرية، العدالة، الجمال، الاختلاف، الخصب، إلخ).
وهذا الانهمام بفكرتي الموت والحياة يتصل بالجوهر الشعري عند محمود درويش، ويأخذ مديات أرحب تكشف فاعليتهما في الذات والعالم، من خلال طريقتين فنيتين، هما: التوازن الصوتي والتساوق الدلالي باعتبارهما بنيتين متجادلتين في الجسد النصي؛ حيث يغدو الشعر مكنـز الوجود ولغة ممكناته واحتمالاته، وحيث الوجود نفسه يمارس لعبة الحياة )= الحب( ولعبة الموت )=الكُرْه( وِفق جدلية الملء والإفراغ، الإثبات والنفي، تبعا لوقع الأحداث على الشاعر ومعايشته لها في الزمان والمكان، وما ترخيه من تحولات مفجعة أو سارّة في العالم على ذاته.
ويرى الباحث أن أغلب المعاني التي يطرحها معجم الحياة والموت عند الشاعر، تتحرك وفق استراتيجية فنية مزدوجة:
ـ تحويل الموت إلى حياة نابضة بالتوهج والتألق، كما هو في موت الشهيد الذي هو عتبة أساس للدخول إلى الحياة بمعناها الأسمى (الأرض، الحرية، العدالة، الحب، الجمال، الإخاء).
تذويت الموت، وتأمُّله، ومحاورته في سياق الرؤية الفردية المدعومة بمرجعيات ثقافية متباينة، وبتجارب الذات في مختبر الوجود.
وضمن هذه الاستراتيجية تجري إعادة التسمية بشكل يتخفف من إكراهات التلقي وضغوطاته، التي تريد أن تؤطر الشاعر ضمن يافطات معلومة وتتداوله جماهيريّا ونقديّا؛ أي كشاعر مقاومة، أو سلطة جمالية واسعة على جمهور الشعر. فقد وسع الشاعر حدود التلقي بوعيه الحادَّ الذي يتمثل شعرية الوجود خلف ما هو موجودٌ، وينظر إلى القصيدة بوصفه حركة وحلما وتوقا إلى اللانهائي. ومثل هذا الوعي هو الذي جعله يستقيل من السلطة بكل تجلياتها، وينجز مفهوما جديدا للشعر من خلال اللعب الموغل في التميز والخصوصية على أرض اللغة بمكوِّناتها الطبيعية الأولى غير المحروثة، والانفتاح على التقنيات الشعرية بذهنية متوقّدة، وتخييل شفوف، وثقافة بصيرة بالخرائط على نطاق الشكل الكمي والكيفي.
يقصد الباحث أحمد بلحاج آية وارهام بالتوازن الصوتي في شعر محمود درويش مجموع «الظواهر الإيقاعية المحددة الناتجة عن تفاعل عنصرين صوتيين أو أكثر في فضاء النص الشعري، تنتج عنه بنية من البنيات المُكوِّنة للإيقاع الكلي».
الإيقاع الكلي
يقصد الباحث أحمد بلحاج آية وارهام بالتوازن الصوتي في شعر محمود درويش مجموع «الظواهر الإيقاعية المحددة الناتجة عن تفاعل عنصرين صوتيين أو أكثر في فضاء النص الشعري، تنتج عنه بنية من البنيات المُكوِّنة للإيقاع الكلي». ويتجاوز مثل هذا التحديد ما درج الدرس النقدي الذي يأسر مفهوم الإيقاع في ما هو عروض وبلاغي ضيق؛ حيث يرتفع بالإيقاع إلى كونه «بنية دلالية كُلّيانية تجمع البنيات والدلالات الجزئية لجسد النص، ومن بينها البنية الدلالية للتوازن الصوتي». فالإيقاع ينتج عن تضافر عناصر البنية وتعالقاتها الصوتية والدلالية، وكل عنصر منها يتحدد بعلاقته مع العناصر الأخرى، بلا مسبق أو متعاليات.
وضمن هذا الإيقاع الكلي، يتناول الباحث نسق التوازن الصوتي ضمن علاقته بخصائص اللغة الشعرية بوصفها لغة انزياحية. ويشتمل النسق في مختلف تمظهراته على ستّة مستويات إيقاعية، هي: الوزن العروضي، والأداء الإنشادي، توازن الصوائت )= الترصيع(، وتوازن الصوامت )= التجنيس(، والتكرار التضفيري، ثم الترديد والاشتقاق أو التناغم الصوتي. وقد عمل على استكناه هذا النسق وكشف ثراءه النصي من خلال ديواني الشاعر: «كزهر اللوز أو أبعد» و»أثر الفـراشة» وأحيانًا يرجع إلى دواوين أخرى كلما اقتضت الضرورة ذلك، مستخلصًا أن أنساق التوازن الصوتي عند محمود درويش تتخذ تمظهرات عدة، يتخذ كل نسق فيها بعدا صوتيّا إيقاعيّاً، يُفعّل الإنشاد، ويؤطر الصورة الشعرية في مخيال المتلقي. ومن بين أنساق التوازن الصوتي التي رصدها في شعـره، نذكر: النسق الثنائي، النسق الثلاثي، النسق الرباعي، النسق الخماسي، نسق التناغم الصوتي والاشتقاق، نسق التقفية أو موقع التراكم الصوتي، نسق التكرار التضفيري، ثم نسق السوناتا الذي تجلى أكثر في ديوانه «سرير الغريبة».
وقد استعمل محمود درويش مجموع الأنساق الصوتية المتوازنة من أجل «إضفاء بعد توليديّ صوتي على منجزه الشعري، تتناسج فيه الصور والظلال والألوان والدلالات» بل يتعداه إلى خلق تفاعل سحري من وجهين: غنى نصوص الشاعر بأنساق صوتية توازنية دالة على الفضاءات التخييلية والدلالية، واستثماره لهذه الأنساق الصوتية بذكاء أثناء طقس الإنشاد الذي يلتقي فيه بالجمهور وتُمْحى عبره الحواجز الروحية بينهما. وينعكس هذا البعد التوليدي على الخيال في مداه الآني الحضوري، الذي يعيد إلى المتلقي ذاته باعتباره مرآة غير مرئية للذات الشعرية؛ ومن ثمة يعمل على مضاعفة الأخيلة والصور والأمزجة التي تتضمنها القصيدة، ويعكس تجليها التامّ في وعي هذا المتلقي، بل يحرر هذا الوعي من مدركات الصور المعتادة؛ حيث يقترح عليه عالماً بديلاً، أو بالأحرى يقذفه في تجربة جديدة ومنفتحة تكتسب أبعادا معرفية ووجودية قصوى. ينعت الباحث هذا الخيال بـ»الدينامي» الذي يصوغ الوجود والمجرى الأُنطولوجي للذات شعريّا في قوالب جمالية تتعالق فيها اللحظتان الشعرية والميتافيزيقية بشكل غير قابل للفصل. وفي هذا المعنى، يقدم شعر محمود درويش «سياقا زمانيّا آخر مختلفا كليّا عن كل التمثلات الإنسانية الأخرى، قاطعا مع اللحظات الإنسانية الأولى». فهو حركة وحلم وتوق تحمل كل قيم الجمال، وتبرز الذات عبرها، ولاسيما داخل المنحى التأويلي، ذاتا خلاقة، يمتلك وجودها بعدا جماليّا وهو حقيقتها التي لا تحجبها السلطة المختبئة تحت أقنعة إنسانية، بل إن هذه الحقيقة تسطع عندما تتأسس على أولوية الجسد بالنسبة للنفس أو الوعي؛ إذ أن ما يسمى بالنفس ليس إلا انعكاسا لما يحصل في الجسد:
«ها هي الكلمات تُرَفْرِفُ في جسدي نحلةً
نَحْلَـةً.. لو كتبتُ على الأَزْرَقِ الأَزْرَقِ
اخضرّت الأغنيات وعادت إليّ الحياةْ»
فمن خلال ما هو جسدي، يتخلص الوعي الشعري من النظرة الأحادية للعالم، ومن صرامة مبادئ العقل، بقدر ما ينفتح على الاختلاف والتعدد، وعلى الحرية والإمكانات الجديدة التي يتيحها إيقاع الذات في كل مرة لاستكشاف معنى للحياة وصيرورتها التي لا تتحدد بزمان ما.
كاتب مغربي
“القدس العربي”