كم هو مرعب أن تتحول التفاهة إلى نظام جديد لعالم العولمة، تشجع على الإغفاء بدلا من التفكير، النظر إلى ما هو غير مقبول وكأنه حتمي، وإلى ما هو مقيت وكأنه ضروري، إنها تحولنا إلى أغبياء، «إلى درجة أن من يأملون بالأفضل صاروا يمتثلون للكلمات الفارغة التي يخلقها نظام التفاهة». ومع ذلك نتساءل، فما علاقة نقد التفاهة بنقد العقل وانهيار الفكر في الفلسفة المعاصر؟ وهل استطاع صاحب كتاب التفاهة باستدعاء مفهوم النقد الكانطي، حيث يقول إن عصرنا هو عصر النقد بامتياز؟ وإلا ما معنى أن لا شيء يستحق احترامنا إلا إذا كان متفقا مع العقل؟ وبعبار أخرى، هل التفاهة تعني غياب العقل؟
ليس ثمة في الكتاب ما يشير إلى أن التفاهة تحولت إلى مذهب لا عقلاني، لكن هناك حججا كثيرة على أنها عجلت بانهيار النقد، على الرغم من أننا لاحظنا غياب القلق الفلسفي على امتداد الكتاب، ولذلك تحول إلى مشروع نقدي لفيلسوف يناضل ويقاوم داخل أسوار الجامعة، وظيفته إزالة القناع عن المنظومة بكاملها، ولعله متأثر بالفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو، الذي جعل من فلسفة الحاضر مجرد تحدٍ لما هو قائم، أي نقد السلطة في جميع تجليتها المعرفية والسياسية، بمعنى هدم الهيمنة، والدعوة إلى الحرية، لأن الحرية أساس التنوير، والتنوير هو روح الفكر النقدي.
والشاهد على أن ألان دونو يقوم بثورة ضد النظام التافه، لترقية الأستاذ الباحث في الجامعة، ما قاله عن الأستاذ المؤهل: «ويتم إخضاع الشخص المؤهل جديدا لدرجة الأستاذ الجامعي لطقوس عبور ترهيبية، مصممة لجعله يفهم أن ديناميكية السوق لها الأولية للمؤسسة» ينبغي على الأكاديميين أن يتحولوا إلى عمال للبحث العلمي، دون التساؤل حول الخطة التي يشاركون فيها». مثقفون صغار؛ الخاسرون، السوفسطائيون، هكذا يسميهم. وبما أن المؤسسة الأكاديمية تنقل خطاب الجهل وتنتجه معا، فإن الباحثين بالفعل، وليس بالقوة، الذين يزعج عملهم سوف تتم مضايقتهم، يسرّحون من العمل، وتتم عرقلة عثورهم على عمل: «الأستاذ الجامعي الجيد هو الأستاذ المُعفى من التدريس». فكل من يقول يعيش البحث العلمي الحر يعفى من التدريس ويحرم من الترقية. هكذا يبدو أن ألان دونو منزعج من نظام التفاهة الذي يواجهه في الجامعة كأستاذ للفلسفة النقدية.
من أجل مواجهة السوبرمان الأكاديمي، حسب تعبيره، ينبغي كشف مؤامرة صناع الرأي العلمي ضد طبقة العلماء، ولذلك قام كتاب نظام التفاهة بكشف هذه المؤامرة قبل حدوث المأساة تحت رعاية التفاهة: «إن الأكاديميين هم المسؤولون عن عللنا الاجتماعية.. فاقدون للتفكير النقدي، مهووسون بالتطور الوظيفي». إنهم يؤسسون لنظام القبائل داخل مجال المعرفة العلمية، هكذا يستشهد بعالم الاجتماع ماكس فير الذي يقول: «إن سيطرة التفاهة هي أمر يعزى إلى قوانين التعاون، لاسيما تعاون الأجهزة المختلفة» ذلك أن تطبيق المعايير الكمية، وغياب الكيفية: منشورات هيئة التدريس، الدرجات العلمية، نسب التعيين، هو الشلل نفسه.
من أجل أن لا تكون تافها يجب أن لا تجعلك نفسك قابلا للتسويق وصالحا للظهور ومثيرا للجدل، وخادما لغيرك، بل لا بد من العودة إلى الفلسفة، لأنه لا يتفلسف سوى النبلاء.
والحال أن التفكير يخضع للمقول الهايدغرية كما جاءت في كتاب «الوجود والزمان» حيث يقول: «لم نعد نفكر بعد، لأن ما ينبغي التفكير فيه أدار ظهره للإنسان» وبلغة كتاب نظام التفاهة: «لقد ابتعدنا كثيرا عن المعرفة، باعتبارها اكتشافا للوعي الذاتي، وسعادة الشخص المبتكر بعمله، والذي صار موجودا من خلال العمل» الذي يفتح الطريق أمام الفكر.
وفي مديح الأمي، نجده ينتقد التلاعب الذي أصبح شعار الجامعة من أجل الحصول على التمويل الكافي لجعل الشعب متعلما ولا علاقة له بالتنوير. ولعل هذا بالذات ما يسميه بترويض الأميين، هذه الطبقة الأدنى في المجتمع، لأنه لم يعد استغلال قوة العمل، بل قوة العقل.
لعبة التفاهة تقوم على الجسر الذي يربط بين الكلمات والفئات الاجتماعية، أو بالأحرى بين الكفاءات التافهة والطلبة، بين الزبائن والسلعة، هكذا يطفو منطق الربح على السطح؛ ويتحول الخطاب إلى لحظات رمادية مبتذلة، تدفع إلى التساؤل: من أين تأتي سلطة هؤلاء؟ بل من أين تأتي التفاهة؟ يظل الفكر معلقا عندما يتعلق الأمر بالتساؤل عن الكيفية التي يدار بها هذا العالم فمعتنقو نظرية المؤامرة الخائفون على مصالحهم هم أناس مثيرون للاهتمام، باعتبارهم عارضا مرضيا لعالم فقد معناه». لكن ما الذي يمكن عمله؟
أنا النكرة المسكين ما الذي يمكنني عمله في هذا الصدد؟ يجيب قائلا: «توقف السخط وانتقل إلى السؤال التالي: اعمل، اسخر من الأيديولوجيات، تجاوز السيطرة والهيمنة» فإن السؤال يرفع من وعينا الاجتماعي والسياسي، بل إنه يدعو إلى اتباع النداء الغاندي: ما العمل؟ هل يكفي الهروب من أنفسنا تجاه التفاهة؟
من أجل أن لا تكون تافها يجب أن لا تجعلك نفسك قابلا للتسويق وصالحا للظهور ومثيرا للجدل، وخادما لغيرك، بل لا بد من العودة إلى الفلسفة، لأنه لا يتفلسف سوى النبلاء. هكذا يعلن صاحب كتاب نظام التفاهة عن أن الفساد لا يمكن أن يكون أبديا، بل إنه يصل إلى نهايته كما يعلمنا كتاب الكون والفساد لأرسطو، فعندما تصبح البذرة قمحا والزهرة فاكهة، هذا يعني أن شيئا يولد انطلاقا من عناصره المختلفة.
ولعل التناص كان هو شعار الفيلسوف ألان دونو الذي استثمر قراءته لكتب عديدة في هذا العمل الشيق، فهناك كتب مختلفة حاضرة بقوة القديمة، والحديثة، والمعاصرة، خطوة للقراءة، وخطوة للكتابة، هكذا هو منطق كتاب نظام التفاهة، لأنه يؤمن بأن الفلسفة هي قراءة لتاريخها؛ وهذه القراءة هي التي مكنته من كتابة بيان من أجل التنديد بالتفاهة، والسعي إلى تفكيك نظامها، وإلا صارت إمبراطورية التافهين تكبر يوما بعد يوم، مما يهدد العقل الإنساني بالعقم، والصناعات الثقافية بالغروب، وتتحول التفاهة إلى نظام اجتماعي يهدد بالسقوط في الوسط؛ الاقتناع بالضروري ورفض الأفضل.
كاتب مغربي
“القدس العربي”