تقرّر في روسيا البوتينية أن لا يُحظى آخر زعماء الاتحاد السوفييتي ميخائيل غورباتشيف بجنازة وطنية رسمية من النوع الذي ناله الرئيس الروسي الأسبق بوريس يلتسن في ابريل 2007، يوم حلّ بوتين في صدر الجنازة، وتقاطرت قيادات العالم، وأُعلِنَ الحداد الوطني.
أما الآن، فلا جدول أعمال الرئيس الروسي يتسع لتأبين غورباتشيف، والعزلة الواقعة بها روسيا على خلفية اجتياحها للأراضي الأوكرانية ليست من الصنف الذي يُستقطع بجنازة.
ثم أن غورباتشيف هو الشخص الذي تقع عليه المسؤولية الرئيسية في الفشل التاريخي، أي الفشل في الحيلولة دون انهيار الامبراطورية السوفييتية الممتدة حتى برلين، ثم تفكك الاتحاد السوفييتي نفسه. بالتالي، وتبعاً لهذا التوزيع الرائج للأدوار السلبية بشكل تراتبي في روسيا، فإن جسامة ما قام به غورباتشيف أثقل مما يمكن أن يحمله يلتسن من وزر. الأخير استعجل المضي بالبيروسترويكا الى خواتيمها، أي الى حيث لا اتحاد سوفياتي ولا شيوعية ولا حتى غورباتشيف نفسه. يبقى أن تهديم الامبراطورية الجيوستراتيجية، وضرب هيمنة موسكو على أوروبا الشرقية هو ما قام به غورباتشيف بالتحديد. وهذه عند بوتين هي الخطيئة التي لا تغتفر. ليست قضيته أن غورباتشيف ويلتسن تسابقا في نهاية المطاف على تقويض سلطة وكيان الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي وطي صفحته، بل قضيته أن غورباتشيف اقترف أمرين في وقت واحد. من ناحية، نادى بالبيت المشترك الأوروبي، وأشاع الوهم بمقبولية روسيا من قبل الأوروبيين في هذا البيت المتخيل، لكنه من ناحية ثانية، كف يد روسيا عن أوروبا الشرقية، وخرج منها من دون أي محاولة لاعتراض هذا السبيل أو تأخير هذا الاستحقاق بأي شكل كان.
وهذه، في السردية البوتينية، كبيرة لم يقترفها يلتسن، وإنما غورباتشيف، ولن ينسى بوتين أن القيادة السوفييتية تركته، وسواه من ضباط الجهاز الأمني الاستخباري السوفييتي في ألمانيا الشرقية من دون أي توجيه كيف يتدبرون حالهم، وأن هذه القيادة تصرفت بهذا الشكل المشجع على الانهيار الكرتوني للسيطرة السوفييتية على بلدان ما كان يعرف بحلف فرصوفيا. التفكك السريع للاتحاد السوفييتي لم يكن في هذا العرف سوى التتمة للانهيار السريع للسيطرة السوفييتية، وبالتالي الروسي، على أوروبا. وهذه يتحملها غورباتشيف لا يلتسن. لأجل ذلك يكتفى اليوم بعناصر من جنازة الدولة لغورباتشيف في مقابل جنازة دولة كاملة وحافلة ليلتسن عام 2007، يوم نظمت أول جنازة دينية لقيادي رأس الدولة في روسيا منذ رحيل القيصر إلكسندر الثالث عام 1894. صحيح أن يلتسن لم يكن شعبياً هو الآخر في نهايات عهده، وتحمّله السردية الرائجة في روسيا البوتينية مسؤولية التهاون أمام التوسع الأطلسي وأمام أنصار الغرب داخل روسيا، لكنه على الأقل ساهم في استعادة الهوية الوطنية الروسية، في حين أن «خيانة» غورباتشيف للشيوعية لا تشفع له، طالما بقي من هذا المنظار شخصية كوزموبوليتية، «أممية» منزوعة الجذور، شخصية ترى أنه كان يلزم على القومية الروسية أن تستر نفسها بعد أكثر للحفاظ على الاتحاد السوفييتي.
ظل غورباتشيف حتى آخر حياته مقتنعاً أنه كان بمقدوره الحفاظ على صيغة تعاضدية سوفياتية ما. فالرجل بيّت باختصار الحاحية الانتقال من اتحاد سوفياتي محكوم بأيديولوجيا بلشفية – لينينية الى اتحاد سوفياتي قوامه لبرلة اقتصادية وسياسية وثقافية معاً لهذا القالب اللينيني، يحيث ينتقل الاتحاد في سنوات معدودات نحو نموذج من نماذج الاشتراكية الديمقراطية، تلك التي انشق عنها لينين والبلاشفة.
بالتالي، كان هناك حلماً وردياً يعتمل في نفسية الزعيم الراحل الذي بهتت صورته بسرعة مذهلة وأضاعت الهالة المنسوجة حولها عند أول طرح لسياسة إعادة البناء ووقف سباق التسلّح والانسحاب من أفغانستان واستشراف تجاوز الحرب الباردة. هو حلم اتحاد سوفياتي يحافظ على نفسه كإطار للجمهوريات، إنما بالتوبة الى نوع من الاشتراكية الديمقراطية، والتخلص بالتالي من مصدرين أساسين للكذب والتلفيق.
المصدر الأول هو أكذوبة بناء المجتمع الشيوعي الفائق، وضرب الآجال له، لأن السوفيات في الستينيات وعدوا بتتميمه عام ألفين، حتى إذا دخلوا في السبعينيات وجدوا أنفسهم بحاجة الى فتوى عقائدية تستحدث طوراً جديداً بين الاشتراكية (الملكية الاجتماعية لوسائل الانتاج) وبين الشيوعية (مفهومة كانتقال الى مجتمع الوفرة)، فخلعوا عليها تسمية «الاشتراكية المتطورة». وهذه كان لها ما يغذيها يوم كان سعر النفط والغاز مرتفعاً في السبعينيات ويدرّ المداخيل على الدولة، لكن الأمر انكشف حين تراجع سعر برميل النفط في الثمانينيات.
فرط الاتحاد السوفييتي على يد غورباتشيف وهو يحاول إصلاحه. وانقسمت الناس إثر ذلك بين من يثمن شروع الرجل في الإصلاح، وبين من يرى أن الأعمال بنتائجها وليس بنواياها المعلنة
المصدر الثاني للتلفيق هو المنافسة بين نموذجين، سوفياتي ورأسمالي غربي، بحيث يتوجب على النموذج السوفييتي في مرحلة أولى أن يلحق بمستوى الانتاج والتطور في الرأسمالية الغربية، قبل أن يتجاوز هذا المستوى بأشواط في المرحلة الثانية. النتيجة كانت أنه منذ منتصف الستينيات أخذ الفارق الانتاجي والتكنولوجي مع الغرب يتسع مجدداً، بعد نجاح نسبي في ردم جزء من الهوة قبل تلك الفترة، وكلما أخذ الفارق في الاتساع مجدداً كلما كانت الأرقام التي ترفع من تحت الى فوق في الاتحاد السوفييتي، وتلك التي يعتمدها الحزب الأحادي في تقرير خططه، هي أرقام مضللة. تخطيط الواقع أخذ يغرق أكثر فأكثر في المخادعة الذاتية.
مشكلة غورباتشيف في المقابل، هي أن سنوات من التكودر داخل حزب يتبنى الماركسية كأيديولوجيا تزين لنفسها أنها علم قائم بذاته، وتُعامَل كما لو أنها علم ودين في آن، لم تمكنه من أن يربط إشكاليته التحويلية للاتحاد السوفييتي من «القالب الشيوعي» الى الاشتراكية الديمقراطية بالسؤال عن هوية القوى الاجتماعية التي يمكنها أن تكون رافعة لإصلاح يتم في هذا الاتجاه.
ما إن طرح شعاراته الإصلاحية حتى وجد من حوله ينقسمون في اتجاهين. أحدهما لا يريد أي اصلاح جدي من الأساس، وآخر لا يرى الإصلاح الا تفجيراً للنموذج السوفييتي ككل.
والنتيجة أن يوتوبيا «الاتحاد السوفييتي الليبرالي»، المنتقل من الماركسية اللينينية الى الاشتراكية الديمقراطية ليلاقي الاشتراكية الديمقراطية الأوروبية بالنتيجة، أي بشكل رمزي إعادة توحيد الأمميتين الثانية والثالثة، لم تجد من يحملها كمشروع، وسريعاً ما تحول المشروع نفسه الى كاريكاتور يتماهى مع مسار غورباتشيف نفسه.
فما حصل بالنتيجة هو أن دعوة غورباتشيف الى الإصلاح كشفت بسرعة أن عدداً وافراً من قيادات الحزب الشيوعي السوفييتي كانت قد تلاشت قناعاتهم بما كانوا يرددونه من شعارات ومن سنين طويلة. واليوم، ثمة اتجاه قوي للاعتقاد بأن ليونيد بريجينف نفسه، ومنذ منتصف السبعينيات، كانت تبددت عنده الأوهام حول كل القالب الأيديولوجي الذي هو على رأسه، لكنه كان مهموماً بكيفية إنضاج بدائل تتفادى هدم كل شيء، ولا تغض الطرف عن حدّة الصراع الدولي، كما لو أن الاصلاح المرجو داخل الاتحاد السوفييتي يحصل على جزيرة نائية بنفسها عن بقية العالم.
فرط الاتحاد السوفييتي على يد غورباتشيف وهو يحاول إصلاحه. وانقسمت الناس اثر ذلك بين من يثمن شروع الرجل في الإصلاح، وبين من يرى أن الأعمال بنتائجها وليس بنواياها المعلنة، وهناك طبعاً من يصرّ على شيطنة نوايا الرجل من الأساس.
إذا ما قورن النموذج الغورباتشيفي للإصلاح بالنموذج الصيني، بدينغ شياو بينغ، سنرى فارقاً هيكلياً. بالنسبة لدينغ، كانت الأولوية تطوير وتحديث القوى المنتجة، ولا سبيل الى ذلك من دون لبرلة اقتصادية، انما لا سبيل لهذه الأخيرة الا تحت سيطرة وتوجيه الحزب الشيوعي ورأسمالية الدولة التي يديرها. هذا في مقابل فصل حاد بين اللبرلة الاقتصادية وبين تلك السياسية، بخلاف طرح غورباتشيف المزاوج بين هذين الصعيدين.
في المحصلة زادت مشروعية الدينغية في الصين بتعميمها صورة النجاح في تفادي مطب الغورباتشيفية. هذا في مقابل جهوزية صينية لقمع شباب ساحة تيان آن مين، بخلاف الشيء الذي يمكن أن يسجل لعملية انهيار الاتحاد السوفييتي، وهي أنها، عموماً تمت في إطار حقن الدماء، بل ان غورباتشيف نفسه ظل يعاند مطالب القيادة الشيوعية في ألمانيا الشرقية بالسماح لها بحماية جدار برلين بالعنف. وهذا، بالمطلق، يحسب للرجل الذي لا يمكن في المقابل إخراجه من مكانه في سجل كبار الفاشلين التاريخيين، مهما حاولنا عقلنة النظرة اليه كظاهرة.
كاتب من لبنان
“القدس العربي”