بالإمكان توصيف الحدث العراقي بانسحاب الزعيم الشيعي مقتدى الصدر من السياسة وما تلاه من اشتباكات، بمسميات أو مقاربات مختلفة.
أولاً، الصدر يرغب في أن يتصدر المشهد الشيعي دون منازع، وهذا ضرب من الاستحالة في نظام تشاركي، وفي ظل حضور الميليشيات الشيعية، وأغلبها موالٍ لإيران. يرغب في ترجمة نتيجة انتخابية في بلد يعج بالميليشيات والتوازنات المطلوب مراعاتها بغض النظر عن صناديق الاقتراع وما تنتجه. في نهاية المطاف، من الصعب تحقيق مثل هذا الهدف، وبالتالي فإن الهزيمة متوقعة، ولم نر للآن أي استعداد من الطرف الآخر للتنازل، بما يؤشر لمحاولة استحواذ على المساحة التي سيتركها التيار الصدري، بدلاً من احتوائه.
وهذا طبعاً دليل على تصدع في العملية السياسية، بعد مخاض طويل منذ الانسحاب الأميركي مروراً بهزيمة “داعش”. يبقى إن كانت أبوابها الموصدة ستفتح مجالاً لمزيد من العنف.
ثانياً، الصدر لم يجترح خطاً سياسياً مميزاً له، بل يستمد خطابه من تحولات مجتمعية، كمثل الرفض العام للطبقة السياسية منذ عام 2015 وانتهاء بالانتفاضة الأخيرة التي أثمرت انتخابات مبكرة. الانتفاضة اصطدمت بالميليشيات الموالية لإيران، وبالتالي رسمت خطاً فاصلاً مع الدور الإيراني بالعراق، سيما في ظل أعمال العنف والقنص والاغتيال بحق الناشطين والناشطات.
وهذا التوتر مع دور طهران ينعكس كذلك على حوزة النجف ذاتها ورجال الدين فيها. ورغم أن التعبير عن هذا الرفض للدور الإيراني وللميليشيات لا يجد تعبيراً علنياً او صداماً معه الآن، لكنه قد يجد طريقه الى العلن حين تسنح فرصة.
حتى إن الصدر نفسه عبر عن هذه الحساسية في رفضه كلام آية الله العظمى كاظم الحائري عن “إطاعة الوليّ قائد الثورة الإسلاميّة عليّ الخامنئي” كونه “الأجدر والأكفأ على قيادة الاُمّة وإدارة الصراع مع قوى الظلم”. الصدر تحدث عن مقر المرجعية في النجف التي لم ولن يصدر من مراجعها أي رد على كلام الحائري واحالته أتباعه في العراق إلى خامنئي.
في قلب هذه الحساسية مع النجف مسألتان، الأولى هي دور الأحزاب الدينية المدعومة من ايران، في الفساد منذ غزو العراق عام 2003. المؤسسة الدينية لا تريد أن تدفع ثمن الممارسة السياسية المتواصلة لهذه الأحزاب والقوى، وبالتالي باتت في النجف كتلة من رجال الدين ممن يتحدثون علناً عن الدولة المدنية وفصل الدين عن الشأن العام. بكلام آخر، هي أقرب للحراك التشريني وترغب في مجاراته
المسألة الثانية هي ولاية الفقيه، ذلك أن من النادر التزام مرجع ديني في النجف بالولاية المطلقة التي يتبناها النظام الإيراني. وهذه حساسية في العلاقة بين حوزة النجف من جهة، وبين النظام الإيراني ومؤسساته وميليشياته وأحزابه في أنحاء العالم. ذاك أن النجف التي كانت تضم مئات الطلاب ابان نظام صدام حسين، بات فيها اليوم أكثر من 15 ألف طالب من أنحاء العالم. عملياً، لدى الحوزة الدينية في النجف القدرة على التأثير في جيل كامل من رجال الدين من بلدان مختلفة، وبعيداً عن النموذج الإيراني وولاية الفقيه المطلقة.
ومن هنا فإن الحديث عن التأثير اللبناني في الصدر وتياره، لديه جانب عكسي، أي انعكاس على الواقع الشيعي-اللبناني لا يشمل فقط رجال الدين، ونسبتهم قليلة مقارنة بمن يدرس بحوزات لبنان وايران، ولكن أيضاً بالعاملين اللبنانيين في العراق (وقد ازدادوا بعد الأزمة) والمرتبطين به بعلاقات قرابة. ذاك أننا أمام مظلومية مُؤسسة مختلفة نوعياً عن المظلوميات الشيعية التي أنتجتها العقود الماضية، أكان في مواجهة الأنظمة العسكرية، أو الاحتلال الإسرائيلي أو الأميركي.
بعد الاتفاق النووي، قد تنصب الجهود الإيرانية على احتواء مثل هذه التأثيرات وترويضها والحؤول دون خروجها عن السيطرة، لكنها مهمة أشبه بحقل ألغام لا يرحم أصحاب الخطوات الخاطئة.
“المدن”