جدل الثقافي والسياسي سيظل قائماً، ومفتوحاً على أسئلة لا تنتهي، لأن توصيفهما المفهومي غير واضح، وأن شروط تداولهما تُخضعهما إلى مهيمنات وموجّهات من الصعب السيطرة عليها، فضلا عن أن طبيعة البيئة العربية، محكومة بأنماط سلطوية دوغمائية ومُستبدة، وخاضعة إلى مركزيات تعويمية، وضاغطة يشتبك فيها الديني بالمثيولوجي، والاجتماعي بالعصابي والسياسي بالسلطوي.
وحتى الحديث عن حوار عقلاني بينهما، سيكون نوعا من المجازفة، فربما سيؤول إلى فتح جروح نرجسية، يمكن أن تُهدد السلم المجتمعي، وتُفضي إلى صناعة استبدادات ثقافية وسياسية في آن معا، تتجوهر حول مركزيات السلطة والنص والزعيم والفتوى وغيرها، وستكون بطبيعة الحال دافعة إلى مزيد من العنف والكراهية بوصفها المجال الصياني الذي تتحرك به نرجسية تلك المركزيات، لاسيما وأن السلطة العربية تمارس ساديتها أحيانا من خلال صناعة المثقف التابع، والمثقف الدعائي والمثقف المهرج وأحياناً المثقف الفخ.
من الصعب الحديث عن وجود مركزية ثقافية في تاريخنا العربي، مقابل وجود «تواريخ» للمركزية السياسية، والتي تعمل دائما على تغويل فكرة الاحتواء، واصطناع هوامش ثقافية، عبر مؤسسات، أو خطابات، أو منصات، تعمل على تسويغ مشروعية العنف السياسي، والعنف الأيديولوجي، لكن التوهم بـ»صناعة مركز ثقافي» لا يقل خطورة عن فكرة «المركز السياسي» لأنه سيكون مؤسَساً على العصاب، وعلى التأويل الذي يدفع النص إلى مركزية ذلك العُصاب، وبما يجعله أكثر غلّواً بالتعبير عن أنساق مُضمرة، وعن «أيديولوجيات مخبوءة في العرض التزييني» كما يقول رولان بارت..
الربيع العربي وتشوهات المراكز
المعطيات التي رافقت أحداث «الربيع العربي» كشفت عن تشوهات في الرؤى، وعن رهاب في الاإجراءات، فصعود الشعبوية الإسلاموية تعكس وهم السلطة الغائر في اللاوعي الجمعي، وعن عقدة هذه السلطة بـ»المُقدّس» وبالحلول التي تقترحها للحكم والنظام والإدارة والحسبة، وغيرها من المصطحات التي تم تداولها في مناطق استحواذ جماعات «القاعدة» و»داعش» التي أسست خطابها على أساس التوهم، باحتكار التاريخ، واحتكار النص، وإخضاع الجماعة إلى سلطة الفقيه، وعلى نحوٍ تكرست فيه قيم المطابقة، والنأي عن الاختلاف بوصفه خروجا عن الأمة.
مفهوم الأمة من أكثر المفاهيم تشوّها، لأنه انطوى على حكمٍ فقهي، وليس على مرجعية اجتماعية وقانونية، وبما يجعل الوجود رهيناً بالمماثلة مع التوصيف المركزي لها، وإلى التماهي مع أطروحات «استبطانية» تربط الأمة بالجماعة، والنظام الاجتماعي بالحكم الشرعي، والقيمة الثقافية بالتفسير الذي يؤكد قصدية النص وظاهريته، إذ يتقنّع المثقف بقناع الفقيه، وتتحول اللغة إلى بنية يتحكم بها لاوعي الجماعة المهيمنة، على مستوى إنتاج الخطاب، وتوظيف الاستعارات والمجازات، وهو ما بدا واضحا من خلال انتشار عشرات القنوات الفضائية الموجهّة، لاسيما في الفضاء الإعلامي التعبوي، في عدد من الدول العربية، التي وجدت في اللغة بوصفها خطابا تداولياً مجالاً لترويج صورة «الفقيه المثقف» الذي يحقق رغبة إشباع اللاوعي للمتلقي، ولتكريس صورة ذهنية عن الجماعة الحاكمة والنص الحاكم والزعيم الحاكم. هيمنة الثقافي الفقهي تحوّلت إلى قبضة ايديولوجية، وإلى قوة دلالية، وإلى تحققات تقوم على احتكار القاموس، والصورة والخطاب، وبالتالي على تعطيل إرادة النقد والمراجعة، وبات التغالب الثقافي قناعا للتغالب السياسي، وحتى للتغالب الطائفي، ولنشوء فهم إشكالي لسلطة «الربيع العربي» وهي تسمية قصدية ومُضلِلة، تقوم على فرض رؤية مهيمنة للثقافي، عبر حيازة قوة السلطة الفقهية، وتشغيل أدواتها ووسائطها لتكون بمثابة إجرءات تتوسم ربط القضاء على الآخر بتكفيره وإقصائه، مقابل استعادة الصورة النمطية للحاكمية عبر تأطيرها باستعارة «الربيع» الدال على فكرة الإحياء والانتصار.
التداخل ما بين الثقافي والتشغيل السياسي ينطلق من مواجهة التاريخ، بوصف التاريخ هنا جزءا من مخزن السلطة، وقاموس اشتغالها في السياسي، فالروائي الجديد يضع بطله وأسئلته بمواجهة ذلك المخزن الغامض، والغامر بأشباح «البندورا» كما تقول الميثولوجيا، ولتكون الرواية هي «الملحمة» و»الشهادة» على عالم تنهار فيه المركزيات القديمة، بما فيها مركزية المقدس.
سرديات الثقافي ومركزيات السياسي
من أكثر تجليات الصراع «السياسي الثقافي» هو سقوط «الحامل الأيديولوجي العلماني العربي» كما يسميه الباحث السوري حمود حمود، الذي أعطى حافزا لتشويه اليسار العربي، وللحركات العلمانية والمدنية، مقابل صعود الأدلجة الشعبوية، التي اصطنعت لها خطابا للإثارة والإشباع والتعويض، ولمواجهة مركزية السلطة القديمة/ سلطة العسكر، لكن ذلك لا يعني نجاح هذه الأدلجة، مثلما لا يعني الموت الكامل لـ»العلمانية» فما يحدث من مخاضات يعكس طبيعة الصراع، مثلما يعكس وجود سرديات مضادة، التي بدت أكثر حضورا، وأكثر نقدا وتخيّلاً في الرواية العربية، بوصفها الضد النوعي للمتخيّل السياسي، فضلا عن كونها مجالاً رمزيا لمواجهة رعب التوثيق والتنصيص في التاريخ، ولمواجهة السلطة ذاتها، بوصفها صاحبة الوثيقة والمخزن والحارس، وكذلك لمواجهة النص المتعالي و»الشرعي» الذي تعمد إلى صناعته الجماعة.
بطل الرواية الجديدة لم يعد قوميا، ولا ثوريا، ولا صعلوكا، وزمنها لم يعد رهينا بـ»زمانات» النكسة، ولا بحروب الخيبة، ولا بالعطب الجنسي والصراع النمطي مع سلطة القمع والأجهزة الأمنية، وحتى مكانها لم يعد محصورا في «المدينة المُعذّبة» ولا في دوستوبيا الأمكنة المعادية، بل أضحت هذه الرواية هي النسق الذي تتشكل فيه رؤى وجودية متقاطعة، وأفكار تتصارع، وحيوات تبحث عن مصائرها، وعن معان محذوفة لوجودها، فهي تستعير من التاريخ القديم والمعاصر كما في روايات محمد حسن علوان وبن سالم حميش وجمال الغيطاني وسعد مكاوي وآخرين وصولا إلى روايات علي بدر الذي اشتغل على التاريخ بوصفه عالما من الوثائق، واشتغل على السرد بوصفه لعبة في تقويض تلك الوثائق، لاسيما وأن بطله الثقافي كان الخيار الذي وجد فيه واسطته لإعادة توصيف العلاقة المشوهة مع التاريخ، وعبر تعرية تاريخ العلاقة المضطربة ما بين الثقافي الاشكالي والأنثربولوجي، والسياسي العصابي والمركزي.
التداخل ما بين الثقافي والتشغيل السياسي ينطلق من مواجهة التاريخ، بوصف التاريخ هنا جزءا من مخزن السلطة، وقاموس اشتغالها في السياسي، فالروائي الجديد يضع بطله وأسئلته بمواجهة ذلك المخزن الغامض، والغامر بأشباح «البندورا» كما تقول الميثولوجيا، ولتكون الرواية هي «الملحمة» و»الشهادة» على عالم تنهار فيه المركزيات القديمة، بما فيها مركزية المقدس، وبما يُعطي للروائي شجاعة التخيّل، ومواجهة «مكر التاريخ» كما سمّاه ريكور بنوع من المخاتلة، والأسطرة، وبما يجعل الروائي أكثر مكرا في تجاوز مركزية المؤرخ العربي بوصفه النظير «الصياني» لمركزية السياسي/ الأيديولوجي، وعلى نحوٍ يجعل الروائي أصدق قولا من المؤرخ كما يقول ستندال.
موت الثقافي هو قناع مجازي للموت السياسي، أي موت سلطته، وبما يجعل لعبة التخيّل السردي تصنع لهذا الموت تمثلات سردية، وصراعات ليس بين البطل وضده كما هو مألوف في الرواية التقليدية، بل بين البطل وعالمه، وتاريخه وهويته، لأنه سيجد نفسه في عالم لم يعد يقبله، أو يتحمل ذاكرته وتاريخه، وحتى سلطته.
السياسي والثقافي وعقدة التدوين
هذه الثنائية ظلت بعيدة عن التوصيف الدقيق والموضوع، وكثيرا ما حمّلها البعض تأويلات لم تكن بعيدة عن التاريخ، ولا عن مظاهر التعالق مع نصوص كتبها مثقفون/ شعراء أو حكّائون، أو صوفيون، ومن منطلق أنهم معارضون للسلطة، التي جعلتهم ضحايا للقمع السلطوي، أقصد للتأويل السلطوي، وهذا ما يجعل هذه الكتابة أكثر تمثيلا للقصدية، فالمثقف ينزع إلى صناعة وجودٍ مُضاد، عبر أقنعة، أو رؤى، والروائي اليوم يجد في بعض مدونات «التاريخ» مادته أو قصته لتعرية التاريخ ذاته، ولمواجهة السلطة التي تتقنع به، وعبر مقاربات تعمد إلى جعل لعبة السرد، وكأنها وسيلة أركيولوجية للحفر في «المقموع والمسكوت عنه» في التعبير عن الذات الحاضرة والمأزومة، التي تعاني من أعراض قلقها الوجودي، أو من إحساسها بالاغتراب والاستلاب الذي يطال الهوية والذات والجسد، لاسيما وأنّ كثيرا من روايات «المنفى» تجد في لعبة الاستعادة فرصة، لاستعادة الذاكرة، وللتاريخ ذاته، ولكلّ ما يرتبط بالعلاقة مع السلطة، وبصور أنماطها الحاكمة، عبر صور السياسي الساذج والعصابي، أو الجنرال المغرور، أو الأيدويولوجي الموهوم بالمخزن، وهي صور واقعية للسياسي العربي، أي سياسي الانقلاب، وسياسي الجماعة، الذي يصطنع له سيرة، ليست بعيدة عن «التخيلات الثقافية» التي تبرر وجوده، والتي تجد في مدونات التاريخ/ وثائقها مجالها المفتوح، بوصفه زمناً مصنوعا من قبل سلطة الجماعة، وسلطة المقدّس..
الروائي العربي الجديد لا أظنه يكتب رواية بمواصفات تاريخية على طريقة جورجي زيدان، فهو غير معني بهذا التاريخ الحكواتي، والغامر بالنقائض، والمدونات المُفارقة، لكنه يكتب روايته من منطلق نقدي، يتكئ فيه على توظيف مادة التاريخ في التعاطي مع الحاضر، كما فعل جمال الغيطاني في روايته «الزيني بركات» حيث قارب مفهوم الهزيمة في التاريخ المصري، وانعكاس تلك الهزيمة على الناس، فهزيمة المماليك أمام العثمانيين عام 1517 تقارب هزيمة العرب عام 1967، على مستوى انهيار السلطة والمركز القومي، أو على مستوى الاغتراب بمعناه الوجودي والنفسي. هذا التقويض وجد في روايات ما بعد الحداثة، تقويضا آخر للذات المتعالية وللوثيقة، ونقداً لهما، حيث تبدو الرواية وكأنها تعرية لهما، ونزوعا إلى الإيهام والإشباع الرمزي الذي يجد في التدوين المضاد رهانا على المغايرة والاختلاف، ففي رواية «شتاء العائلة» يتقوّض التاريخ من خلال تقوّض الجسد، ومن خلال خلو المكان القديم وبرودته، مثلما يحدث في رواية «عازف الغيوم» إذ تموت الشخصية من خلال تشظي هويتها، عبر تشظي وجودها في الوثائق/ الأسماء/ الأقنعة..
موت الثقافي هو قناع مجازي للموت السياسي، أي موت سلطته، وبما يجعل لعبة التخيّل السردي تصنع لهذا الموت تمثلات سردية، وصراعات ليس بين البطل وضده كما هو مألوف في الرواية التقليدية، بل بين البطل وعالمه، وتاريخه وهويته، لأنه سيجد نفسه في عالم لم يعد يقبله، أو يتحمل ذاكرته وتاريخه، وحتى سلطته.
كاتب عراقي
“القدس العربي”